الذكرى الهجرية لمجزرة رابعة
غُمةٌ لا تُفرج!
تاريخ الحدث:الأربعاء 7 شوال,1434
المكان: ميدان رابعة
نوع الحدث: فض اعتصام
الدولة: مصر
العالمُ مُنهكٌ مظلم، الأرواحُ تتهادى والدماءُ تسيلُ بكثرةٍ أمامَ المسجد، الرصاصاتُ تقنصُ الرؤوس، الحرقى كُثر ومن ماتَ بخنقٍ أو اصابَتهُ رصاصةُ غدرٍ أكثر، تتصارعُ الصرخات تليها الصرخات، يُسمَعُ للصرخاتِ دويٌ كدوي الطلقات، إلا أن في الأولى استماتةً في الحياة، وفي الثانيةٍ خلاصٌ من الحياة، الأرضُ شاهِدةٌ على خِلقِهَا والسماءُ فاتحةٌ أبوابها، والتاريخُ عاجزٌ عن التدوينِ فاغرٌ فاهَهُ، لا يظهرُ من الشهداءِ غير ابتساماتٍ طفيفة، يصيحُ أحدهم: فُزتُ وربِ الكعبةِ ثم يتهادى أمامَ قاتِلهِ وقد اطمأنت روحُه، يتركُ وراءهَ مكلومًا على حالِه وعويلًا على تركِه، يُصارِعُ الفقدَ ولا شيء غيرَه.
هُنا رابعةُ أيها العالَم، هُنا صمد جمعٌ من العُزَّلِ أمام طلقاتِ القناصةِ وقذائفِ الجرينوف، هُنا دُونِت مذبحةُ القرن وكُتبت أسماءُ الشُهداءِ بحروفٍ من نور، صيامًا ليكونَ فَطُورهم الجنة، ومصلين لتتغمدَهم الأرضُ برحمةِ ربهم، هُنا موطِنُ العارِ يحكي للعالمِ انتهاءَ قصةِ مظاليمٍ لم يملكوا سوى ألسنتهم وصرخاتُ الغوثِ تملأُ حناجِرهُم، هُنا تباعَدت الفرُوقاتِ وزادت المسافات، وانحسرت مساحةُ الكونِ لتصيرِ بينَ الرصيفِ والشارعِ أو أعلى الرصيفِ وأسفل الحجر، المسجدُ شامخٌ يشهد، والأرواحُ مسخرةٌ ترتقي، لا ترتجي في هذا الحينِ البقاء!
المشهدُ عظيم، يستدعي في الذاكرةِ ما قصَّهُ الذِكرُ "تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا" فو الله إنهُ كذلك، وهو إن لم يكُن أربعًا لظن الجمعُ بأنهُ جُمعة قيامَتِهم، الأحياءُ ندرةٌ في عدادِ الأموات، يحكي أحدهم فيقول "والله إني كُنت أهرعُ إلى جدارٍ أحتمي بِه، اتخبطُ في البشرِ فانتظِرُ أن أرقد إلى جانِبِ أحدِهم في أي ثانية، لم استطع العَد ولن استطيعُ إن عادَ بي الزمنُ خمسينَ مرة، أنا مولٍ هاربٌ تتقاطعُ أنفاسي ودقاتُ قلبي مع رصاصةٍ اصطدمت بحائط كدتُ استقبله، فتنجَرفُ زواياي وتميلُ ناحية مهرب، ولا أعلمُ من مسيري وإلى أينَ تقودُني أقدامي، وإلى شيء ستؤول حياتي اليوم".
ولا أشدُ بلاغةً وأعظمُ قولًا من قولِ الشيخ سلمان عودة "ألا أيها المستبشرونَ بقتلِهم، أطلت عليكُم غُمةٌ لا تُفرجُ" فكانت غُمةٌ علينا، ولا تزال ولن تُفرجَ حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا! |
في الحقيقةِ إني أعجزُ ما أكونُ عن الكِتابةِ في حضرةِ التاريخ، خاصةً إن كانَ للتاريخِ ثقلٌ كثِقَلِ رابعةِ على صُدورِنا وقلوبِنا، وثِقلِها في موازينِ فاعليها، لأنَ أقصى ما أشعرُ بهِ حُرقةٌ في القلبِ كحُرقةِ حرقِ المسجدِ يومَها، والمسلمونَ يستجيرونَ بأبوابِه وسُكناه، هم بينَ موتٍ وموت، هل يتركون بيتَ اللهِ خاويًا تلتهمهُ النار أم أن عليهِم أن يموتوا فيهِ ليبعثوا على هيئتهم تِلك، تنبعثُ صرخةُ "آآآآهٍ" لتقطعَ تفكيرهم، ولُتعلِنَ احتراقَ جسدِ أحدهم كانَ لا يقوى على الاختيارِ أصلًا، عزاءهُ الجنة تنتظرهُ الحورُ العين والله حسيبُه، تجفُ الدِماءُ لتصيرَ رمادًا، وتتبخرُ الكلماتُ فلا تصِفَ إلا انتظارَ المصابينَ للحرقِ وهُم بين يدي النار، أكادُ أرى الآن أخًا ودَّع أخاهُ بعد ما التهمتهُ النارَ وسرت في أواصِلهِ وهو لا يقوى إلا على دَفعِ نفسِه كدرًا طلبًا في النجاة، ثم إذ به بالنارِ توقفهُ ليلحقَ بأخيهِ الذي فاضت روحهُ قبلَ ثوانِ.
هي في موازينِ القوى ضعفٌ وهوانٌ وكِنةٌ واستكانة، استرجِعُ بدايةَ القَصف "عملية الفض تتم بقرار من النيابة العامة" تَنزِلُ صاعقةٌ على الرؤوسِ فتأكلُ في أغلبِها، تتسمَّرُ الأقدامُ لا تعلمُ ماهيةَ يومِها، ساعاتٌ شهدها شهيدٌ ومصابٌ وحي ومُكبل، يقولُ آخر "لا أجدُ للحياةِ لونًا مذ يومِها، ارتقت رُوحي هُناك، وأنا بينَكم جسدٌ خاوٍ يتصلبُ على مضض" العبراتُ تُطيبُّه كُلَ مُدة إلا أنهُ لا يجدُ لروحِهِ مأوى غيرَ الزفرِ بهمٍ وغم، صوتٌ يُنادي ب "سوف نبقى هُنا كي يزُولَ الألم، سوفَ نبقى هُنا سوف يحلو النغم" ولا نغمَ غير نغمِ اصطدامِ الرصاصِ بالرؤوس، ولا طبل إلا ارتطام الجباهِ بالأرض، والدمُ سيلٌ يزينُ الأرض بدمٍ طاهرٍ لا يملكُ غير أن يسيل.
وراءَ هؤلاء، جمعٌ من الملاعينِ تزاحمت زغاريدُهم، "تسلم الأيادي، تسلم يا جيش بلادي"، لِتحلَ اللعنة على أهلِ مصر كُلهم، ويتغمدهُم الله بلباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، تتراقصُ نسوتُهم وتتعالى شهقاتُ أشباهُ الرِجالِ منهم، لتوأد الحريةُ في مرأى أعينهم، ففيما كانَ الميدانُ يعجُ بالخوفِ والدمارِ والقتل، على التصفيقُ وازدادت البهجة، وكأنَ ميتًا لم يكُن، أو كأن مِحرَقةً لم تحدث على مسمعٍ من العالمِ إلا هُم.
ولا أشدُ بلاغةً وأعظمُ قولًا من قولِ الشيخ سلمان عودة "ألا أيها المستبشرونَ بقتلِهم، أطلت عليكُم غُمةٌ لا تُفرجُ" فكانت غُمةٌ علينا، ولا تزال ولن تُفرجَ حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا!غُمةٌ لا تُفرج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق