الاثنين، 9 سبتمبر 2019

لماذا تهوى أرواح الطيبين الصعود لباريها سريعا؟


لماذا تهوى أرواح الطيبين الصعود لباريها سريعا؟

أمين أمكاح
كاتب وباحث مغربي

الرحيل من الدنيا مسألة قطعية محتومة على جميع الخلق، ولعلنا نحن البشر موقنون بأن الأرواح لا ترحل إلا وقد نالت حقها المقدر لها، وليس عبثا أن يقع الرحيل سريعا؛ فالأعمار بيد الله، لكن ما يدعو للتساؤل هو كثرة رحيل أصحاب الأرواح الطيبة؛ فغالبيتهم لا يطيلون في هذه الحياة الفانية، ويتركون خلفهم أجمل الذكريات واللحظات، ويتجرع القلب لفراقهم أقسى الآلام، وتصيبه بذلك أوجاع لا تسكن ولو بمرور الزمن، إن رحيلهم بلا وداع ومقدمات يترك جرحا عميقا لا يندمل إلا باللحاق بهم، تغادر هذه الأرواح التي نشم فيها رائحة الجنان على عجل من هذه الدنيا الخبيثة لتخبرنا بأن الطيبين لا يلائمهم التواجد المطول فيها.

يا ترى لماذا تهوى أرواح الطيبين الصعود لباريها سريعا في غفلة من الزمان؟ لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل المطروح ستزيل الإشكال القائم حوله، ولن يتم ذلك من دون ذكر أبرز الأسباب الكامنة وراء الخروج المستعجل لهذه الأرواح من هذا العالم الفاني، ولا يعني ذلك بتاتا أننا بهذا سننسب خروج الأرواح لشيء آخر غير القدر الذي يتحكم في أعمار الخلق، وعرض أبرز الأسباب التي تساهم بشكل كبير في الرحيل السريع للطيبين أمر ضروري لتقديم إجابة شافية، بعيدا عن التفسيرات الباطلة التي قد تحوي أفكارا فاسدة لا تستوي عقائديا وأخلاقيا، سنستحضر الآن أهم الأسباب التي تعجل برحيل الطيبين:

أولا: عالمنا خبيث لا يحسن احتضان الطيبين
إن يقظة ضمير الطيبين فائقة البهاء؛ فحياتهم تتميز بالشفافية والوضوح وعدم التزييف، وهذا بالذات ما يسمو بأرواحهم عما يفسدها، وليس الأمر هيّنا أن يكونوا كذلك في ظل مجتمع سكيزوفريني يحمل أفراده أقنعة متعددة
من الحقائق التي لا لبس ولا مواربة فيها أن الطيبون لا يرون ما يليق بهم في هذا العالم؛ ما دام أن طهر نوياهم ونقاء بواطنهم لا يستويان مع خبث من يعيشون معهم في هذه الحياة غير الآمنة، ومن غير المقبول أن يستطيع احتواء طهر ذوي الأرواح الطيبة غالبية سكان الأرض الذين يميل معظمهم للفساد ولو بشكل مستبطن، ولعل تلطخ الناس بالأحقاد والغل والدناءة وكل ما يسيء إلى رقي إنسانيتهم الحقة ونبل قيمهم مما يجعل الطيبين من الصنف البشري الذي لا يقوى على أن يعمر الدنيا كثيرا، فيصبحون بذلك كالومضات تبرق سريعا ثم تنتهي، لأن صفاء أرواحهم تواق لحياة خالية من الخبث؛ حياة يملأها النقاء من كل جانب، هناك في الجنة حيث تحتضن طيبة تلك الأرواح فتمرح كثيرا في بحبوحة النعيم الإلهي الذي تستحقه.

‌ثانيا: الطيبون هم أكثر الناس عرضة للظلم
أصحاب الأرواح الطيبة هم أناس مسالمين جدا إلا أنهم يحظون بنصيب كبير من المعاناة، فبرمتهم يعانون ألوانا من الظلم والتعسف من طرف الآخرين، بالرغم من أن أفعالهم لا تخرج في غالب الأحيان عن دائرة الصواب الأخلاقي والنبل القيمي في التعامل والتصرف مع البشر، لكن عيشهم يغدو متعبا ومرهقا للغاية بتحملهم لصنيع غيرهم المجحف، فهُم يعانون كثيرا من الأذى المتعمد مهما ابتعدوا عن الظَّلمة بمساحات واسعة، وتفادوا مجالستهم أو الخوض في الحديث معهم، فظُلم الآخرين مصيبهم وإن غضوا الطرف عن الظالمين وتجنبوا الأشخاص المتعطشين للظلم الذين لا يرتوي أبدا ظمأهم للظلم تجاه الطيبين، وهذا ما يزيد من اعتقادهم بأن الأشياء السيئة غالبا ما تحدث للناس الطيبين، الشيء الذي يخلف حزنا مفرطا عندهم جراء ما يتعرضون له؛ ولعل ذلك ما يفسر تكرار الشعور بحالة من الشظف والكربة التي تجعلهم يحسون، وكأنهم يعيشون في حياة غير عادلة لا تتوفر فيها أدنى مستويات الأمن والأمان من العدوان البشري الجائر.

ثالثا: تعامل الطيبين المبدئي لا يتناسب مع الأنماط السلوكية السائدة
من أقسى ما يعيشه الطيبون في حياتهم هو أن يكونوا مبدئيين في مجتمع لا يبادلهم بمثل ما يحملونه من مبادئ، فبذلك يحسون أنهم في وسط غير آمن مبادئيا لأنه محفو بالخبث والخداع، ويكتشفون متأخرين أن أغلب من حولهم مجرد نسخ بشرية معطوبة لا مبادئ لها، فيشعرون بالأسف والكآبة، ويسيطر عليهم الإحباط، ورغم ذلك يصر الطيبون على العيش أعزاء بمبادئهم، ويؤثرون التضحية بكل ما يملكون لأجل مبادئهم التي يقيمون لها وزنا واعتبارا، فلا يبيعونها لأجل أي مكسب ولو كان مغريا جدا، فلا حياة دون كرامة، ولا كرامة دون مبادئ، ولا خير فيمن يجعلها مجرد شعارات فقط ولا يتشبث بها عمليا، لكن في مجتمعاتنا نجد جل الممارسات والأنماط السلوكية الطاغية تخلوا منها، لهذا يتصرف معظم البشر بعكس ما ينبغي أن يتصرفوا به؛ فيحاربون الطيبين ويستهزؤون بهم وينتقصون من رقي تعاملهم لمجرد أن طيبتهم تبرز قوة مبادئهم الراسخة التي لا تتزعزع، وهذا ما يؤكد حقيقة واقعة تتجسد في عدم توافق سلوك الطيبين مع واقع الناس الذين يتقاسمون معهم الأوكسجين فوق هذا الكوكب.

رابعا: يقظة ضمير الطيبين يخلف صراعات منهكة
إن يقظة ضمير الطيبين فائقة البهاء؛ فحياتهم تتميز بالشفافية والوضوح وعدم التزييف، وهذا بالذات ما يسمو بأرواحهم عما يفسدها، وليس الأمر هيّنا أن يكونوا كذلك في ظل مجتمع سكيزوفريني يحمل أفراده أقنعة متعددة، فالعيش في هذه البيئة غير النقية يذهب كثيرا من المصداقية، والأصعب من هذا أن الحياة في هذه الأجواء تفرض على الطيبين الدخول في صراعات متعبة جدا مع ضميرهم الحي؛ بتحريضهم على أشياء لا تقبلها ضمائرهم وإن كانت هذه الأشياء فيها متعة كثيرة ولذة كبيرة، وإن كان هذا الصراع القائم يحمي الطيبين من السقوط في مستنقع الدناءة وسوء الأخلاق الذي يتم الترويج له وإظهاره في حلة جميلة، وبذلك أيضا يتمكنون من الحفاظ على التوافق بين ما يتبنونه فكرا وما يمارسونه سلوكا، إلا أن مثل تلك الصراعات مضنية ومستنزفة للقوى في الوقت نفسه.

خامسا: تناقض صارخ بين ما هو كائن في وجدان الطيبين وما يلقونه خارجيا
الطيبون هم أشخاص تلمح في أعينهم البراءة براقة، وتسمع في صوتهم نبرة الصدق الرنانة، وتبصر فيهم بوضوح لمعة الحس الطفولي الجذاب، لأن وجدانهم مملوء برهافة المشاعر الإنسانية، فينعكس ذلك في مظاهرهم، ويُعبر أهل الطيبة عما بداخلهم بنبل وطهر، الأمر الذي يظهر حقيقة ما يحمله جوهرهم، لكن في الواقع الذي يعيشون فيه يتجلى التناقض بشكل طافح مع ما في داخلهم، لا يعقل أن يكون العالم الذي نوجد فيه ضاما للطيبين وحدهم، ويبقى سعي أهل الطيبة لبناء حياة متوازنة ودقيقة لها نظام قيمي صارم من الأمور التي لا يمكنها أن تمنعهم من الوقوع في تباين جلي مع ما يوجد في العالم الخارجي، ومهما كان وجدان الطيبين نقيا من الشوائب اللاأخلاقية إلا أنه يظل في تناقض مع الوسط الذي يعيشون فيه، وإن حاولوا جاهدين خلق نوع من التوازن الذاتي مع السلوكيات المنتشرة خارجيا؛ إذ لا يمكنهم تغطية كل الجوانب التي تشمله.

ورغم كل ما ذكرناه تبقى هناك أسباب أخرى يمكنها أن تكون وراء عدم تحمل أرواح الطيبين العيش كثيرا في هذه الدار، وكم هو قاس رحيل من صنعوا للحياة بهاء وجلالا وجمالا مجبرين بلا رجعة إليها، بعد أن يتربص بهم القدر ويعلن مغادرتهم من الدنيا دون أن ينالوا أوسمة المجد والشرف فيها، في حين يستمر طغاة الأرض وحثالتها في الحياة محاولين بكل ما أتوا من خبث تشويه جمال الطيبين سواء الراحلين منهم أو الذين لم تنتهي بعد فترة مكوثهم المحدودة في الأرض، وكأن القدر يصدح بصوت عال: الاستطالة في العمر بهذا العالم للخبثاء الذين يعيثون في الأرض فسادا، والرحيل السريع للطيبين من دون ما أن تشعر أرواحهم بنشوة صنائعهم الفاضلة، كم هو قصير جدا مشوار حياة الطيبين، يغادرون مبكرا تاركين خلفهم تساؤلات كثيرة معظمها تبقى بلا جواب، آنذاك لا يصبح أمامنا إلا الرضا باختيار القدر الذي ينقذ الطيبين من غلبة شرور البشر، واستلاء خبثهم على الأرواح الطيبة، فيرحلون مرفوعي الرأس منتصرين لا مغلوبين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق