الثلاثاء، 27 فبراير 2024

بيني وبينك..الرّجل الصّفر

 

بيني وبينك..الرّجل الصّفر


ليسَ له من رَسْمِهِ شيءٌ، يبدو قِصّةً مَرويّةً على لسان أجيالٍ قديمةٍ بدأتْ مع النّيران التي يجتمع حولَها الفَلاّحون للسّمر بعدَ يومِ حصادٍ طويلٍ من أجل أنْ يقصُّوها عن النّضال، عن مواجهة الذّئاب، عن قِتال الوحوش التي تتربّص بهم، عن مُقاومة أسباب الموت التي تنهضُ في وجوههم، عن التّعب من أجل الحياة، عن المسير من أجل الغاية، ثُمّ استمرّتْ تلك الحكايات جيلًا بعدَ جيل، كلُّ جيلٍ يحكي قِصّة كِفاحِه الخاصّة بهِ إلى الجيل اللاّحق، وهكذا…
ثُمّ عَنّ ببالِ أحدِ هذه الأجيال أنْ يجعلَ لكلّ هذه الحكايات بطَلًا، فراحَ في البداية يأخذُ هذه القِصص ويجمعها ثُمّ يجعلُ هذا البطلَ راوِيَها، إنّ راوِيًا واحِدًا سيجعل هذه القصصَ حقيقيّةً أكثر، واضحة، سَهْلة الانتقال إلى الأجيال القادمة، مُركَّزة، ومُلهِمة، ومُثيرة في الوقت نفسه… هكذا تحوّلت الحكايات إلى أساطير في الكِفاح، وهكذا تحوّل البطل إلى أسطورةٍ ورمز.
ثُمّ نُسِيَ البطل الأوّل بعدَ تتابُعِ الأجيال، نُسِيَ اسمُه، وفُقِدَ رَسْمُه، ولم يبقَ منه إلا حكاياتُه، هي حكايات النّضال التي تتشابَه وإن اختلفتْ، وتتقابل وإن افترقت، وتلتقي وإن ابتعدتْ، الصّورة تتغيّر والمعنى واحد، البطل ينسربُ في كلّ حكايةٍ مع كلّ جيل، ووجهه هو هو… ثُمّ عَنّ ببالِهم أنْ يُطلِقوا على هذا البطل الذي تجتمع فيه هذه الصّفات كلّها اسمًا، فخافوا أنْ يحدثَ معه ما حدَثَ مع الأبطال السابقين، إذ ما قيمةُ الاسم أمام الفعل الحقيقي، وما نَفْعُ اللّقب إذا كان يُغني عنه الأداء، فتواطأَت الأجيال بعدَ ذلك على أنْ يرووا هذه البُطولات دون أنْ ينسبوها إلى اسمٍ صريح، وإنْ كان ظِلُّ هذا البطل ما زال مُختبِئًا داخل هذه الحكايات يُطلّ برأسه مهما تقادَمَ الزّمن.
ثُمّ قال أحدُهم لا بُدّ من أنْ نُشيرَ إليه؛ بُطولةٌ دون بطلٍ كيفَ تكون؟ فاقترحَ أَمْثلُهم أنّ يُسمّوه الرّجل الصّفر، أو رجل الظّلّ، أو الرّجل الأوحد، أو الرّجل الذّئب، أو البطل، وهذه تكفي…
من يومِها أُطفِئت النّار، ولم يعد الفلاّحون يجلسون حولَها يروون حكاياتهم، ولم تعد الأجيال تتناقل القصص القديمة، والبطولات الغابرة، صار لكلّ جيلٍ في أيّامنا هذه بَطَلُه، وصارتْ له حكايتُه، ومع أنّ النّار أُطفِئت، ولم يعد الفلاحون من حقولهم، إلا أنّ الذّئاب لم تنقرض، ولم تتناقص، بل تزايدت، وصارتْ تدخل بين الإنسان وجِلده، وصارَ لا بُدّ من استِنْهاض الرّجل الصّفر من جديد، من أجل مرحلةٍ جديدةٍ أخرى من النّضال للوقوف


في وجه هذه الذّئاب المُتوالِدة.

AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق