الثلاثاء، 27 فبراير 2024

الجندي الأمريكي المنتحر والإنسانية الغاضبة

الجندي الأمريكي المنتحر والإنسانية الغاضبة

فوجئ العالم بمشهد الجندي الأمريكي آرون بوشنل، وهو يشعل النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة واشنطن، احتجاجا على الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، وظل يهتف بالحرية لفلسطين حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وصعدت روحه إلى الله رافضا للظلم الصهيوني، في حدث إنساني بالغ التأثير، حظي باهتمام واسع في أمريكا والعالم.

ما الذي يدفع هذا الشاب الأمريكي وهو في مقتبل العمر (25 عاما) ليضحي بروحه من أجل الفلسطينيين وهو ليس مسلما وليس عربيا ولا علاقة له بفلسطين؟ وما الذي أوصل هذا الشاب إلى درجة الغضب مما يجري في غزة من إبادة جماعية رغم ما يضخه الإعلام الأمريكي من أكاذيب وقصص وروايات مفبركة لتشويه غزة؟!

حرص الجندي المنتحر على تصوير المشهد من أوله وحتى آخره في بث مباشر على إحدى منصات التواصل الشبابية، وهو في قمة الهدوء، وذكر في كلمات قليلة السبب الذي جعله يقدم على الانتحار والتضحية بروحه، حتى لا يترك لمجرمي الحرب أي فرصة لتشويهه واتهامه بالجنون وغيره من الاتهامات التي يتم إطلاقها عادة للتعمية على القضية التي يموت من أجلها من يقرر هذه النهاية الحزينة.

كان مما قال آرون بوشنل: “لن أكون مشاركا بعد الآن في الإبادة الجماعية في غزة.. أنا على وشك القيام بفعل متطرف ولكن       بالمقارنة مع ما يلقاه الناس في فلسطين على يد المستعمرين فهذا   ليس تطرفا على الإطلاق.. هذا ما قرره حكامنا بأن يكون أمرا   عاديا” ، ثم سكب على نفسه مادة سريعة الاشتعال ثم أشعل النار في جسده، وظل يهتف بالحرية لفلسطين حتى سقط على الأرض جثة هامدة.

لم يخل مشهد النهاية مما يرمز للروح العدوانية التي تسيطر على الإسرائيليين؛ إذ بينما جاء أفراد من الشرطة الأمريكية بسرعة، وهم يحاولون إطفاء النار كان الحارس الإسرائيلي يصوب مسدسه اتجاه الجندي المنتحر، وسمع صوته منذ بداية الفيديو وهو يصرخ مطالبا الجندي الذي يحترق بأن ينبطح أرضا، وظل شاهرا سلاحه حتى بعد أن أتت النار على الجسد الممدد على الأرض!

البوعزيزي وآرون بوشنل

ما فعله الجندي الأمريكي  يذكرنا بما فعله الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في 2011 احتجاجا على الفساد والظلم، فكان موته هو الشرارة التي أشعلت الثورات العربية التي أطاحت بالحكام المستبدين وأسقطت الأنظمة الفاسدة، ولم تكن تضحية البوعزيزي تصرفا يدل على اليأس وإنما صرخة أيقظت الضمائر والجماهير النائمة.

ما فعله آرون بوشنل، رسالة إنسانية عالمية توضح حجم التعاطف الإنساني مع الشعب الفلسطيني، وتؤكد أن الإبادة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي المحمية بالفيتو في مجلس الأمن والمنظمات الدولية والمدعومة من الجيوش الأمريكية والأوربية لم تحجب الشعور الإنساني العام خاصة في الغرب من إظهار الدعم لغزة.

كما كان البوعزيزي الشرارة التي حركت الشعوب العربية فإن انتحار مهندس البرمجيات آرون بوشنل سيكون الشرارة التي تشعل الثورة العالمية ضد الصهيونية المجرمة التي تريد ابتلاع غزة بعد تدميرها وتخريبها وإبادة أهلها، وهي رسالة لأهل غزة الذين كان صمودهم سببا في شعور شعوب العالم بمعاناتهم، وملهما للشباب الذي يعبر عن دعمه بوسائل مختلفة.

يعد انتحار آرون أقوى تحرك فردي يمكن أن يفكر فيه إنسان، وهو بداية لما سنراه من الردود على الإجرام الإسرائيلي الأمريكي الذي تجاوز كل الحدود، فالإبادة الجارية لن تمر ولن يفلت المجرمون من محاكمة الشعوب، وإذا كانت الإبادة قد حركت الشعوب في أمريكا وأوربا فإن صبر الشعوب العربية المحكومة بالحديد والنار لن يطول.

سقوط الشعارات الأمريكية الكاذبة

الرسالة الأهم التي قدمها آرون بوشنل من أمام السفارة الإسرائيلية هي سقوط الإمبراطورية الأمريكية القائمة على سلسلة من الشعارات الإنسانية الكاذبة التي تبرر بها التدخلات العسكرية وقتل الشعوب الأخرى، فهذا الجندي الشاب الذي ما زال في الخدمة ذهب إلى المشهد الأخير من حياته بزيه العسكري وعندما قال إنه “لن يشارك في الإبادة بعد اليوم” أراد أن يدين الجيش الأمريكي الذي يمارس الإبادة، وهي عبارة ستفسرها الأيام.

لقد دأبت الدوائر الأمريكية على توحيد الأمريكيين بخوض الحروب المتواصلة ضد الأعداء الخارجيين، وبسبب القوة النارية والتفوق العسكري كانت الولايات المتحدة تحقق الانتصارات، ويطمس الإعلام الاحتكاري الممارسات اللاأخلاقية وعمليات القتل والاستباحة للشعوب الأخرى لكن منذ أكثر من عقدين بدأت الصورة تتغير.

منذ الانكسار العسكري في العراق ثم الانسحاب في 2008 بدأ التراجع الأمريكي، الذي تأكد بالانسحاب الذليل من أفغانستان في 2021 ولم يعد هناك انتصارات تخفي الجرائم، وعندما فكرت إدارة بايدن في استعادة هيبة أمريكا سارت في طريق مظلم يرفضه كل عاقل وصاحب قلب وحس إنساني، حيث دعمت العدوان على غزة وشاركت بالمال والسلاح، ورفضت وقف إطلاق النار وأيدت الإبادة التي يشارك فيها الجيش الأمريكي بالمال والسلاح والجنود.

أمريكا تخسر ولا تنتصر

كان واضحا أن التدخل العسكري وانتشار البحرية في باب المندب ليس لمصلحة أمريكية وليس لإنقاذ الملاحة الدولية، وإنما هدفه إنقاذ الكيان الصهيوني، لأن وقف الإبادة وإدخال المساعدات إلى غزة كان شرط الحوثيين لعودة حركة النقل في البحر الأحمر إلى ما كانت عليه، لكن أمريكا قررت التورط وجرت معها الأوربيين لمواجهة اليمنيين، لإعطاء الاحتلال الوقت الكافي لإتمام تدمير القطاع وقتل وتهجير الفلسطينيين وحماية جريمة الإبادة.

لم تحقق الولايات المتحدة ما أعلنته من أهداف، وهي الآن عالقة في البحر الأحمر، وعجزت عن حماية السفن الإسرائيلية أو التابعة لدول أخرى والمتجهة إلى الكيان الصهيوني، بل لم تستطع البحرية الأمريكية حماية سفنها التجارية والحربية التي ترفع العلم الأمريكي، ودفعت إدارة بايدن ثمنا غاليا لإصرارها على حماية العدوان على غزة، وتورطت في معركة لا خروج منها بأي انتصار يحفظ ماء الوجه.

رغم الغارات الجوية والقصف بالقنابل على الأهداف اليمنية استمرت عمليات الاستهداف لتصل إلى نحو 50 سفينة بالصواريخ البحرية والباليستية وتشكيلة متنوعة من الطائرات والغواصات والزوارق المسيّرة، في معركة تتوسع يوما بعد يوم في البحر الأحمر وفي بحر العرب؛ مما أجبر شركات الشحن الكبرى على تغيير مسارها بعيدا عن باب المندب، وهو ما ترتبت عليه أزمات كبيرة في سلاسل الإمداد.

قد يغري تحول الولايات المتحدة إلى خادم لـ”إسرائيل” بعض الجنود في الجيش الأمريكي لكنه لا يقنع الجنود الذين لا يرون مشروعية لما يقومون به، خاصة أن الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أحدثت حالة من الوعي أضعفت من تأثير الإعلام التقليدي الخاضع للتوجيه وغسل العقول، وغيرت اتجاهات الرأي العام العالمي.

رغم ما يعانيه الفلسطينيون من تجويع ومعاناة ونزوج وإبادة فإن غزة الصامدة تغير العالم، ونهاية الصبر فرج ونصر كبير للإنسانية بإن الله، ولن يكون لأنصار الإبادة ملاذ آمن وسط الشعوب التي تشعر بالإهانة من حكومات فاسدة مجرمة، ونظام دولي فشل في الانتصار للمظلوم وعجز عن الوقوف في وجه الظالم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق