الخميس، 29 فبراير 2024

وكان الهدف: تحويل غزة.. إلى أنقاض من عظام!

 وكان الهدف: تحويل غزة.. إلى أنقاض من عظام!



حسن قطامش

خبير إعلامي.. كاتب مستقل الفكر.. منحاز للحق

«لم تحقق العمليات العسكرية لإسرائيلية أيًّا من أهدافها المعلنة، ويبدو أن الهدف الحقيقي هو العقاب الجماعي والتدمير الشامل». «لا تزال إسرائيل ترفض أي إطار سياسي لصالح البحث عن «الأمن» في كومة من العظام، ويقول كل من نتنياهو ورئيس أركانه، إن الحرب ستستمر لأشهر عديدة… لكن من يملك هذا القدر من الوقت في غزة؟».

«كان معدل القتل أعلى من معظم الحروب في هذا القرن، حيث وصل في بعض الأحيان إلى أكثر من ألفي قتيل في الأسبوع، بينما اكتفت الجمعيات الخيرية الدولية بإحصاء حالات بتر الأطراف اليومية». «وصف العالِم السياسي الأمريكي روبرت بابي الحملة الإسرائيلية على غزة بأنها «واحدة من أشد حملات العقاب المدني في التاريخ».

«القضاء على حماس أو تدميرها كتنظيم سيكون صعبا للغاية، وربما مستحيلا، حتى لو كانت إسرائيل تملك معلومات استخباراتية جيدة في القطاع، وفي مواجهة حقيقة أنها لم تكن تملك ذلك، كان الحل الإسرائيلي هو تدمير غزة».

ما سبق بعض مما جاء في المقال المهم “Rubble from Bone.. about Operation Iron Swords” أو «أنقاض من عظام.. حول عملية السيوف الحديدية» نشره الكاتب والصحفي البريطاني (توم ستيفنسون) في (لندن ريفيو أوف بوكس) وهي مجلة بريطانية فكرية نصف شهرية، يناقش فيه تفاصيل العدوان الإسرائيلي على غزة والرغبة المدعومة غربيا في تدمير القطاع وليس حماس فقط.

وهنا ترجمة كاملة للمقال:

في الأشهر الثلاثة الأولى من الهجوم الإسرائيلي على غزة قُتل حوالي 25,000 فلسطيني وجرح حوالي 60,000، 70% منهم من النساء والأطفال، وتم تشريد حوالي 80% من سكان غزة، وكان معدل القتل أعلى من معظم الحروب في هذا القرن، حيث وصل في بعض الأحيان إلى أكثر من ألفي قتيل في الأسبوع، فقد كانت هناك غارات جوية على سيارات الإسعاف، وغارات جوية على المخابز، وغارات جوية على مدارس الأمم المتحدة التي تستخدم كملاجئ، وقتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 150 من موظفي الأمم المتحدة، أما الجمعيات الخيرية الدولية فقد اكتفت بإحصاء حالات بتر الأطراف اليومية.

وفي الوقت الذي يتمسك فيه المسؤولون الإسرائيليون بالإنكار السخيف لوجود أي نوع من الأزمة الإنسانية، تحول جزء كبير من المناطق الحضرية في غزة إلى مشهد ناري غير مستوٍ من التلال السوداء الرمادية.

في إسرائيل كانت الرغبة في الانتقام من هجوم 7 أكتوبر منتشرة على نطاق واسع، لكن من الواضح أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يعرف الكثير عما كان يحدث داخل غزة أكثر مما كان يعتقد، فإذا كانت إسرائيل قد غفلت عن هجوم تم التخطيط له بدقة وعلى هذا النطاق الواسع، فكيف كان لها الآن أن تقوم بعملية عسكرية متماسكة؟

كان القضاء على حماس أو تدميرها كتنظيم سيكون صعبا للغاية، وربما مستحيلا، حتى لو كانت إسرائيل تملك معلومات استخباراتية جيدة في القطاع، وفي مواجهة حقيقة أنها لم تكن تملك ذلك، كان الحل الإسرائيلي هو تدمير غزة.

وقد قارن المسؤولون والسفراء الإسرائيليون أنفسهم الحملة الجوية بقصف مدينة درسدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وقد فاق حجم القتل، على الرغم من كونه استثنائيًا، التدميرَ المنهجي للبنية التحتية المدنية.

وقد تطلبت الحرب تعبئة ما لا يقل عن 360,000 جندي احتياطي، أي 4% من سكان إسرائيل، بداية من التسلسل الهرمي السياسي والعسكري وصولا إلى الفصائل الفردية، بدت طبيعة العمليات مقبولة منذ البداية: سيتم تدمير غزة، وغرس العلَم الإسرائيلي على أنقاضها! كان الجنود يسجلون سيلا مستمرا من مقاطع الفيديو التي يوثقون فيها ويحتفلون فيها بطرد الفلسطينيين من منازلهم. وعلى حد تعبير القناة 13 الإسرائيلية، كانت القوات الإسرائيلية تحتفل بـ«الحانوكا/عيد الأنوار في ميدان فلسطين».

بدأت الحرب بقصف استراتيجي استمر لأسابيع، حيث تم تنفيذ عمليات قصف استراتيجي لمساحة متر مربع بمتر مربع، وتم استهداف المباني السكنية التي يُعتقد أنها تحتوي على شقق سكنية تابعة لأعضاء حماس دون أي اعتبار لعدد القتلى الآخرين، وفي بعض الحالات، قُتل مئات المدنيين في محاولة إسرائيل استهداف شخصية واحدة من حماس. ولكن، وفقا للصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أبراهام، الذي لديه مصادر جيدة في سلسلة القيادة العسكرية والاستخباراتية، فإن معظم الحملة الجوية استهدفت غزة ككل، وليس حماس كما تُواصِل إسرائيل الادعاء، ووفقًا لمصادر أبراهام، فإن غالبية الغارات الجوية تستهدف بشكل واضح أهدافا مدنية و«تهدف بشكل أساسي إلى الإضرار بالمجتمع المدني الفلسطيني».

 وفي كانون الأول/ديسمبر، وصفها العالم السياسي الأمريكي روبرت بابي بأنها «واحدة من أشد حملات العقاب المدني في التاريخ».

إن ما يفعله القصف الاستراتيجي للمدينة هو أن يُنتج بوسائل عسكرية ما يشبه الدمار الهائل الذي خلفته الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا العام الماضي: أنابيب وأسلاك ممزقة، وأكوام من القضبان الحديدية، والأبنية المقسومة إلى نصفين والتي تكشفت أساساتها مثل الأشجار المقتلعة، بطريقة ما يبدو أن هناك حطامًا أكثر من الكتلة الكلية للمباني الأصلية.

من يستطيع إزالة كل هذا، وأين سيذهب؟ كيف يمكن للحفارين فرز الأنقاض عن العظام؟

على أرض الواقع، كانت استراتيجية إسرائيل هي البدء بتطويق ما تبقى من مدينة غزة، دخلت القوات إلى القسم الشمالي من غزة بين بيت حانون والبحر وقطعت طريق الانسحاب شمال وادي غزة قبل أن تربط المواقع ببعضها البعض على طول الساحل، وبعد الهدنة المؤقتة التي استمرت أسبوعا في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، بدأت العمليات البرية جنوبا. وفي ديسمبر/كانون الأول، توجهت القوات الإسرائيلية إلى خان يونس، مما دفع معظم السكان إلى رفح وشريط ضيق من الأرض على طول الحدود المصرية. ولا يُسمح إلا لعدد قليل جدًّا من الناس بالعبور، وبالتالي يبقى سكان غزة محاصرين بطريقة نادرا ما يراها حتى أولئك الذين يعيشون في مناطق الحرب.

فالقتال عبر الأنقاض أصعب من القتال في الشوارع غير المدمرة، وقد استخدم الجيش الإسرائيلي طائرات صينية رباعية المروحيات بدون طيار، مثل طائرة DJI Mavic 3، للدخول إلى المباني المقصوفة قبل تطهيرها، ويتفادى جنوده العبوات الناسفة ويطلقون النار من خلال فتحات في المباني التي تستخدم كمتاريس، وينفذ سلاح الهندسة القتالية عمليات هدم مسيطر عليها لمناطق بأكملها.

خلال الهجوم على خان يونس، نشر الجيش الإسرائيلي فرقة كاملة محمولة جوا في المدينة وحوْلَها، بالإضافة إلى الفرق المدرعة الثلاث التي كانت لا تزال تعمل في مدينة غزة، وقد قامت كتائب القسام التابعة لحركة حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة بالدفاع عن المدينة.

وقبل أن تتولى حماس إدارة قطاع غزة في عام 2006، طورت كتائب القسام نسخة محلية الصنع من قذيفة (آر بي جي 2) السوفيتية التي تُطلق مِن على الكتف وأطلقت عليها اسم (ياسين) (نسبة إلى الشيخ أحمد ياسين أحد مؤسسي حماس). وقد اعتقد المحللون العسكريون الإسرائيليون أنها لن تكون فعالة ضد دباباتهم الثقيلة ومدرعاتهم، فتحتوي دبابة الميركافا على نظام حماية نشط يسمى (Trophy) مصمم لحمايتها من الأسلحة المضادة للدبابات، وخلال العدوان على غزة في عامي 2014 و2021، نجح نظام Trophy، ولكن هناك بعض الدلائل على أن مقاتلي القسام تمكنوا هذه المرة من الاقتراب من الدبابات سيرا على الأقدام ووضعوا الذخائر تحت أنظمة الحماية النشطة لتعطيلها قبل إطلاق قذائف الآر بي جي. كما استخدمت الميليشيات في غزة بنادق مصنعة محليا باستخدام المخارط والأدوات الآلية الأساسية.

وحتى 23 كانون الثاني/يناير، فقدت إسرائيل 217 جنديا في غزة، بعضهم قُتل أثناء قتال الميليشيات الفلسطينية، والبعض الآخر (مثل جنود الاحتياط الـ21 الذين قتلوا في 22 كانون الثاني/يناير) ماتوا بعد تدمير المتفجرات التي زرعوها قبل الأوان.

يتم تجريد الرجال والفتيان الفلسطينيين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و70 عاما من ملابسهم وتقييدهم بالأصفاد وتعصيب أعينهم ثم تحميلهم على ظهور الشاحنات لنقلهم للتحقيق معهم، وقد كُتبت أرقام على أذرع بعضهم كما كان يفعل النازيون مع اليهود في معسكرات الاعتقال، وقد تم نقل المئات من المعتقلين في غزة إلى سجن كتسيعوت الصحراوي بالقرب من الحدود مع مصر، وربما اقتيد آخرون إلى قواعد عسكرية قريبة. بعض الرجال الذين تم أسرهم في بيت لاهيا تم تجريدهم من ملابسهم ونقلهم إلى معسكرات مسيَّجة حيث تم تقييدهم وضربهم وتعذيبهم لأيام، كما اختفى آخرون.

وقد قال الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق إن ما بين 85 إلى 90% من هؤلاء المعتقلين كانوا من المدنيين، وقد داهمت القوات الإسرائيلية مرارا وتكرارا مدارس الأمم المتحدة واحتجزت كل من وجدته داخلها، ووثق مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان حادثة وقعت في 19 ديسمبر/كانون الأول عندما حاصر الجيش الإسرائيلي مبنى في حي الرمال في مدينة غزة ثم دخله، وقال إن «الجيش الإسرائيلي قام بفصل الرجال عن النساء والأطفال، ثم أطلق النار وقتل ما لا يقل عن أحد عشر رجلا على الأقل، معظمهم في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من العمر، أمام أفراد أسرهم».

منذ البداية، كانت عملية السيوف الحديدية هجوما شاملا على سكانٍ أسرى للحصار الإسرائيلي وأغلبية ساحقة من المدنيين. لا تتشابه التكتيكات الإسرائيلية كثيرا مع عقيدة مكافحة التمرد القياسية أو قواعد الاشتباك. فالحرب على غزة هي في جوهرها عملية انتقامية، عقاب جماعي، ومثل كل عقاب، فإن التساؤل هو عما إذا كان «ناجعا» أم لا؟ ويغفل عن أن العقاب غالبا ما يكون غاية في حد ذاته. 

ولكن إدارة الحرب تنطوي أيضا على طابعٍ طقوسي، فالاحتفالات بالقتل من قبل القادة السياسيين في إسرائيل؛ والمخططات الرائعة لترحيل الفلسطينيين إلى سيناء أو أوروبا أو الكونغو؛ والشخصيات العامة التي توقع على القنابل التي ستلقى على ما تبقى من غزة؛ والتسجيلات المبهجة التي يقوم بها الجنود الأفراد-كلها تجمع بين الخبث والمرح.

قد نرغب في مقارنة الحرب الحالية بالعمليات الإسرائيلية ضد غزة في أعوام 2008 و2009 و2012 و2014 و2021. لكن من المفيد أكثر أن نقارن عملية السيوف الحديدية الأكبر حجما بعملية طوفان الأقصى، الهجوم على جبهات متعددة الذي قادته حماس في 7 أكتوبر، ففي غضون دقائق من اختراق حاجز غزة (وهو ليس حدودا)، صادف المسلحون النسخة الإسرائيلية من مهرجان (ترانزيت برازيلي) كانت تُقام بالقرب من مدينة الريم. وسرعان ما تحوّل الأمر إلى مجزرة، حيث قُتل المئات من رواد المهرجان واحتجز آخرون كرهائن.

واستهدف المقاتلون في الكيبوتسات قوات الرد السريع المحلية (في نير يتسحاك قتلوا حوالي خمسة رجال مسلحين)، إلى جانب مدنيين إسرائيليين وعمال مزارع من جنوب شرق آسيا.

وعادة ما توصف عملية طوفان الأقصى بأنها هجوم لحركة حماس، ومن شبه المؤكد أنها كانت من تخطيط وأمر يحيى السنوار، قائد حماس في غزة، وقائد كتائب القسام محمد ضيف، لكنه كان أيضا تعاونا بين مختلف الميليشيات في غزة، حيث دعمت كل من كتائب أبو علي مصطفى والجهاد الإسلامي في فلسطين كتائب القسام، وانضم إلى هذه القوات -فيما بعد- مقاتلون غير نظاميين من غزة، وكانت النتيجة أن فرق القسام المنظمة التي أظهرت انضباطا عسكريا وعنفا مثاليا رافقها مقاتلون غير مدربين يفتقرون إلى ذلك. في المجموع، قُتل حوالي ثمانمائة مدني إسرائيلي، من بينهم 36 طفلا، و370 جنديا وعنصر أمن (عدد قليل منهم نتيجة محاولات الجيش الإسرائيلي استعادة السيطرة على المنطقة). وتم أخذ 250 آخرين كرهائن، وجاء حوالي نصف عدد القتلى المدنيين من المهرجان.

كان حجم الهجوم الذي شنته حماس وعدد القتلى في يوم واحد صادما، ومنذ ذلك اليوم، قتلت إسرائيل ما لا يقل عن عشرين ضعف هذا العدد وأكثر من مائتي ضعف هذا العدد من الأطفال. كما أنها هاجمت بشكل منهجي المرافق الصحية في غزة، على الرغم من أن القانون الدولي لا يسمح بمثل هذه الأعمال إلا بشكل محدود للغاية. في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، انشغلت وسائل الإعلام الدولية لفترة وجيزة بمسألة ما إذا كانت إسرائيل مسؤولة عن الغارة التي استهدفت فناء المستشفى الأهلي أم لا؟

لكن هذا لم يكن أول مستشفى يتعرض للهجوم، فقد تعرضت جميع المستشفيات في شمال غزة تقريبا -المستشفى الإندونيسي، العودة، الرنتيسي، الشفاء، القدس، الأهلي، مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، الوفاء- للقصف أو الحصار أو الاحتلال من قبل القوات الإسرائيلية، وتوقف معظمها عن العمل بحلول نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، وقد تم اعتقال مدير الشفاء محمد أبو سلمية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر، ولا يزال محتجزا (كان الشفاء هو الموقع الذي ادعت إسرائيل أنه مركز «القيادة والسيطرة» التابع لحماس) وقد تم احتلال المستشفى الأهلي نفسه وإغلاقه من قبل الجيش الإسرائيلي في 18 كانون الأول/ديسمبر.

وفي منتصف كانون الأول/ديسمبر، حاصرت القوات الإسرائيلية مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا وقصفته، رغم علمها بأنه كان مليئا بالمرضى. ثم اقتحموا المبنى واعتقلوا أكثر من ألف فلسطيني، بمن فيهم طاقم المستشفى، ونقلوا حوالي سبعين منهم بالشاحنات إلى مكان مجهول، وقد سجلت منظمة الصحة العالمية 240 هجوما على المرافق الطبية.

في البداية، منعت القوات الإسرائيلية جميع المساعدات من دخول غزة، كما قطعت إمدادات الوقود والمياه والكهرباء والغذاء، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ربع إجمالي عدد السكان يعانون من مجاعة كارثية أي 80% من سكان العالم الذين يندرجون حاليا ضمن هذه الفئة، ويوجد في غزة أعلى نسبة من السكان الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد على الإطلاق، يمكن بسهولة رفع الحصار البحري للسماح بشحن المساعدات، وتنتظر مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات والمواد الغذائية في مصر ولكنها ممنوعة فعليا من الدخول، وخلال الشهرين الأولين من الحرب، طلبت إسرائيل أن يتم نقل الكمية القليلة من المساعدات المسموح بإرسالها من مصر أولا عبر طريق طابا-رفح لتفتيشها من قبل المسؤولين الإسرائيليين في نيتسانا قبل أن يتم نقلها إلى معبر رفح للدخول إلى غزة، أما الآن فيمكن إجراء عمليات التفتيش في معبر كرم أبو سالم، لكن الشاحنات لا تزال تخضع للتفتيش اليدوي وفقا لأهواء الجيش الإسرائيلي (في إحدى المرات تم رفض نقالات المرضى والمصابين) وقبل أن تتمكن الشاحنات من دخول غزة، يجب تفريغ حمولتها بالكامل لتفتيشها ثم تحميلها مرة أخرى، مما يتسبب في تأخير كبير.

يمكن لإسرائيل أن تسمح بمرور المساعدات إلى غزة من أراضيها في أي وقت، وقد اختارت ألا تفعل ذلك، وقد خلصت منظمةُ (بتسيلم) الإسرائيلية لحقوق الإنسان إلى أن الجوع الجماعي في غزة «ليس نتيجة ثانوية للحرب، بل نتيجة مباشرة لسياسة إسرائيل المعلنة، وإن السماح بدخول المواد الغذائية إلى قطاع غزة ليس عملا من أعمال الكرم، بل هو واجب بموجب القانون الإنساني الدولي، وإن رفض الامتثال لهذا الواجب يشكل جريمة حرب».

أحد مبررات حجم الدمار هو وجود شبكة الأنفاق في غزة، لقد تم التعامل مع بناء الأنفاق من قبل إسرائيل والمدافعين عنها في الولايات المتحدة وأوروبا على أنها شنيعة بطبيعتها، مع تلميحات بأن حماس تستخدمها «لتحويل» الأموال والبضائع من المواطنين، ولم يُذكر كثيرا أن الأنفاق، التي يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل حماس، تم حفرها وتوسيعها كإجراء دفاعي بعد الهجمات الإسرائيلية المتكررة على غزة، وكمحاولة للالتفاف على الحصار (بعض الأنفاق كانت تصل إلى مصر، رغم أن معظمها قد دُمر) وأي إدارة في غزة لم تتخذ بعض هذه الإجراءات كانت ستكون مهملة، ويبدو أن الأنفاق كانت فعالة جدا في إحباط وإبطاء العمليات البرية الإسرائيلية، ومع ذلك، عززت الأنفاق في كل من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا فكرة أن سكان غزة كائنات خارجة عن السيطرة، مخلوقات تحت الأرض.. أبناء الظلام!

كانت الأهداف المعلنة للحكومة الإسرائيلية في غزة هي القضاء على حماس واستعادة الرهائن، ولكن تم التأكد من مقتل أو أسر عدد قليل جدا من كبار قادة حماس في غزة، ولم تنقذ القوات الإسرائيلية سوى رهينة واحدة فقط من الرهائن وليس مدنيا نتيجة عملية عسكرية، وقد قُتل عشرات الآلاف، لكن أبرز اثنين من قادة حماس في غزة، السنوار ومحمد ضيف، ليسا من بين القتلى.

أما أبرز قادة حماس الذين قتلوا منذ بداية الحرب فهو صالح العاروري الذي اغتيل في لبنان في 2 يناير/كانون الثاني، لا تزال القوات الإسرائيلية تقوم بتطهير شمال غزة، لكن كتائب القسام تواصل العمل في مدينة غزة وخان يونس، لقد قتل الجيش الإسرائيلي آلاف المقاتلين الفلسطينيين، ولكن من المحتمل جدا أن تكون الحرب قد أدت إلى تجنيد مقاتلين جدد.

لم تحقق العمليات العسكرية الإسرائيلية أيا من أهدافها المعلنة؛ ويبدو أن الهدف الحقيقي هو العقاب الجماعي والتدمير الشامل، ويبدو أن قادة إسرائيل يؤيدون هذه الرؤية، فبالنسبة لوزير التراث، عميحاي إلياهو، فإن تدمير شمال غزة كان «متعة للعيون» وقد تحدث بنيامين نتنياهو مرارا وتكرارا عن حث الفلسطينيين على الرحيل، أما وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، فيتخيل مستقبلا مع «100,000 أو 200,000 عربي في غزة وليس مليونين»، أما وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، فقال إن إسرائيل «تحارب حيوانات بشرية ونحن نتصرف على هذا الأساس» وقد جُمعت بعض هذه التصريحات في المذكرة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في 29 ديسمبر/كانون الأول، والتي تتهم إسرائيل بأن أفعالها تنتقل من المذبحة إلى الإبادة الجماعية.

وفي اليوم الافتتاحي لجلسات الاستماع، قال تيمبيكا نغكوكايتوبي إن «الأدلة على نية الإبادة الجماعية ليست فقط مروعة بل هي أيضا دامغة ولا تقبل الجدل»، وفي 26 كانون الثاني/يناير، أصدرت محكمة العدل الدولية أمرا مؤقتا بأن على إسرائيل «اتخاذ جميع التدابير» لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة، وقالت إنها «أحاطت علما» بالتصريحات التي أدلى بها غالانت وآخرون.

هناك إغراء لإلقاء اللوم على اليمين الإسرائيلي في وحشية هذه الحرب، لكن الانقسامات السياسية تلاشت بعد السابع من أكتوبر، والتي كانت مبنية على التظاهر بأن الاحتلال لا أهمية له، ووجود الفلسطينيين مجرد إزعاج. وقالت شيكما بريسلر، إحدى الشخصيات الرئيسية في حركة المعارضة، في آب/أغسطس الماضي إن الأعلام الفلسطينية لم تكن مشجعة في مسيرات المعارضة من أجل «إظهار أن هذا ليس هو الشيء الرئيسي هنا»، إن الدعم المحلي لحكومة نتنياهو ضعيف ويتعرض للانتقاد لفشلها في استعادة الرهائن، ولكن هناك إجماع قوي لصالح المجهود الحربي، باستثناء عدد قليل من المعارضين على الهامش، وقد وفرت غزة غطاءً ممتازا للعدوان المشترك بين الشرطة والمستوطنين في الضفة الغربية، واستغل القادة الإسرائيليون اللحظة للتلويح بإمكانية مهاجمة لبنان، وفي 1 تشرين الثاني/نوفمبر، أشار المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إلى أن «التوقيت لن يكون أفضل مما هو عليه الآن» بالنسبة لإسرائيل لمهاجمة إيران، وكتب موريس في صحيفة هآرتس: «من المحتمل أن مثل هذا الهجوم، خاصة إذا ما نجح، من شأنه أن يُرضي واشنطن».

في الواقع، كان رد الفعل على الهجوم على غزة من كل من إيران وحزب الله في لبنان حذرا، فقد أطلق حزب الله صواريخ على شمال إسرائيل، وأطلقت القوات الإسرائيلية قذائف الفوسفور الأبيض وأسقطت قنابل على البلدات القريبة من الحدود، مما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من الناس من منازلهم على كلا الجانبين، وفي 8 يناير/كانون الثاني اغتيل القيادي البارز في حزب الله وسام الطويل في غارة جوية إسرائيلية، لكن بشكل عام كان رد فعل حزب الله على الحرب متواضعًا، لم يتحدث حسن نصر الله علنا عن غزة حتى 3 تشرين الثاني/نوفمبر، وحتى في ذلك الوقت لم يقل سوى القليل جدا.

إيران أيضا كانت مقيدة نسبيا، واقتصر ردها في الغالب على هجمات رمزية بالوكالة على المواقع العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، أما محاولة الحوثيين فرض حصار في البحر الأحمر فهي أكثر أهمية، فقد نجحوا فيما يصفونه بأنه شكل من أشكال التدخل الإنساني القرصاني، في تحويل جزء كبير من أحد أهم طرق التجارة في العالم، وقد أثبتت الضربات الأمريكية والبريطانية في اليمن حتى الآن عدم فعاليتها في إيقافهم.

لا يمكن النظر إلى تصرفات إسرائيل بمعزل عن الولايات المتحدة، لأن الحماية الأمريكية تشكل البيئة التي تعمل فيها إسرائيل، كان الهدف من نشر مجموعات حاملة الطائرات الأمريكية في المنطقة -إلى جانب بعض السفن الحربية البريطانية- هو أن تظهر للدول المجاورة أن إسرائيل لا تتصرف بمفردها، وبالتالي التخفيف من خطر المعارضة الإقليمية.

 تحويل غزة.. إلى أنقاض من عظام

الحرب نفسها هي جهد عالمي عابر للحدود، فالقنابل التي يتم تصنيعها في تكساس يتم تزويدها بأنظمة توجيه دقيقة من ولاية ميسوري، ويتم شحنها إلى أوروبا، ثم تُنقل جواً، ربما عبر القواعد البريطانية في قبرص، إلى إسرائيل قبل أن يتم إسقاطها على غزة. تتماشى السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية لتمكين إسرائيل من القيام بما تقوم به الآن بالضبط. وسرعان ما قدمت الولايات المتحدة 14.5 مليار دولار إضافية من المساعدات الطارئة لإسرائيل من أجل المجهود الحربي، وتشمل الإمدادات العسكرية 2000 صاروخ هيلفاير و57,000 قذيفة عيار 155 ملم. وعندما أوشك الجيش الإسرائيلي على نفاد مخزونه من قذائف الدبابات عيار 120 ملم، وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على شحن 14,000 قذيفة إضافية. وفي 20 تشرين الأول/أكتوبر، طلب البيت الأبيض رفع جميع القيود المفروضة على وصول الذخائر التي وضعها في إسرائيل.

بعد أسبوع من بدء الهجوم الإسرائيلي، سافر أنتوني بلينكن إلى تل أبيب لإجراء محادثات استمرت تسع ساعات في مخبأ التحكم تحت الأرض وهو مقر قيادة الجيش الإسرائيلي، المعروف باسم “الحفرة”، لم يثنِ المسؤولين الأمريكيين عن القيام بزيارات مستمرة إلى إسرائيل لتأكيد ما وصفه وزير الدفاع، لويد أوستن، بدعم الولايات المتحدة «الثابت» لإسرائيل، في البداية زعمت الولايات المتحدة أنها تحلق بطائرات بدون طيار فوق غزة من أجل «استعادة الرهائن»، لكن طلب حرية المعلومات الذي تقدم به الصحفيان الأمريكيان (كين كليبنشتاين) و(ماثيو بيتي) كشف أن القوات الجوية الأمريكية نشرت ضباط استخبارات في تل أبيب لتقديم الدعم في الاستهداف للحملة الجوية. وبالطبع، فإن حجم المذبحة في غزة قد يجعل الأمور صعبة على القادة الأمريكيين.

إن السلك الصحفي المروض في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية -المسؤول عن ملف مجلة التايم حول بلينكن الذي توهج بالتملق المشع- يروِّجون لخطِّ أنَّ الولايات المتحدة «تتفاوض» ببسالة مع إسرائيل لإظهار «ضبط النفس» ولكن لا يوجد سبب لأخذ هذا التوصيف على محمل الجد، بل هناك تقييم أكثر دقة قدمه (كولن كاهل) وكيل وزارة الدفاع السابق: «لقد هبّ بايدن على الفور للدفاع عن إسرائيل ووقف إلى جانب إسرائيل حتى في مواجهة الانتقادات المحلية والدولية المتزايدة».

لقد استبعدت الولايات المتحدة إمكانية ممارسة ضغط فعال من الأمم المتحدة، لأن سياسة «العلاقة الفريدة» التي حددتها مذكرة البيت الأبيض في أيار/مايو 1961 لا تزال سارية: «يجب أن تعرف إسرائيل أنه في حال تعرضها للهجوم، يمكنها الاعتماد على تحرك الولايات المتحدة داخل الأمم المتحدة وخارجها»، ومن المعروف أن بايدن لا يحب نتنياهو، ولكن في ذروة عمليات القتل كانا يتحدثان كل يوم، وكشف الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد أن بايدن ونتنياهو أجريا مكالمة هاتفية محرجة في أواخر ديسمبر/كانون الأول، ولم يتحدثا سوى مرة واحدة منذ ذلك الحين.

في 16 يناير أقر بلينكن بأنه على الرغم من أن الدعم الأمريكي لم يكن موضع شك، إلا أن «الكثير من الفلسطينيين الأبرياء، قد قُتلوا بالفعل»، لكن هذا التحول الخطابي لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يعني أن الكثير قد تغير، ربما طلب بلينكن ومستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، من إسرائيل على الأرجح أن تخفف من معدل القتل من أجل تسهيل الأمور على المدافعين عنها في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد تزامن تصريح بلينكن مع تحول الجيش الإسرائيلي إلى ما أسماه أحد المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين «حملة متنقلة أقل كثافة».

دعمت المملكة المتحدة الهجوم على غزة ليس فقط من خلال إمدادات متواضعة من الأسلحة والذخائر، ولكن، بصفتها دولة ذات خمس عيون، من خلال توفير معلومات استخباراتية بالإشارات، فقد قام سلاح الجو الملكي البريطاني بتحليق طائرات استخبارات ومراقبة واستطلاع فوق غزة، وفي 8 ديسمبر دعت منظمة هيومان رايتس ووتش المملكة المتحدة إلى وقف تسليح إسرائيل أو المخاطرة «بالتواطؤ في انتهاكات جسيمة». لكن المؤسسة السياسية البريطانية أظهرت دعما قويا لإسرائيل. فقد قال ديفيد كاميرون، وزير الخارجية الحالي، إنه من المستحيل أن ترتكب إسرائيل جرائم حرب في غزة، لأنها «دولة ديمقراطية» و«دولة لديها قوات مسلحة ملتزمة باحترام سيادة القانون». 

وفي 14 كانون الأول/ديسمبر، دافع رئيس أركان الدفاع البريطاني، توني راداكين، عن الجيش الإسرائيلي قائلا إن ‘«لقتال في مثل هذه المناطق الحضرية المكتظة بكثافة قد يتسبب في إلحاق ضرر هائل بالمدنيين». يهرول الوزراء بعبارات من حروب غزة السابقة التي لا معنى لها في السياق الحالي، وفي حديثه أمام لجنة الشؤون الخارجية في 9 يناير/كانون الثاني، قال كاميرون إن الدعوات لوقف إطلاق النار غير واقعية لأن السؤال الملح هو: «كيف يمكن التخلص من قدرة حماس على إطلاق المزيد من الصواريخ؟» كما لو كانت الصواريخ هي الشاغل الرئيسي لأي شخص.

قد يتساءل المرء كيف سيكون رد الفعل إذا ما انقلبت الحجج التي تعتبر وجيهة بما فيها الكفاية لتبرير الهجوم على غزة، لنفترض أن الصحف الوطنية كانت ستجادل بأنه بما أن حكومة إسرائيل قد أمرت بارتكاب فظائع بشعة، وهو ما حدث بالفعل، فيجب قتل المسؤولين الإسرائيليين بأي ثمن، وإذا كان يجب تدمير تل أبيب لتحقيق ذلك فليكن، وإذا كان لا بد من تحويل حي (رحافيا) -الراقي في القدس الغربية- إلى ركام، فليكن، علاوة على ذلك، انظروا إلى أي مدى هم قريبون من الرئاسة في شارع هنس،  هل حولت الدولة الإسرائيلية الأموال لبناء مخابئ تحت الأرض لقيادتها؟ هل القصف الشامل مبرر على أساس أن الحكومة والأحزاب السياسية التي تشكلها «مندمجة في المجتمع الإسرائيلي»؟ حجج سخيفة كهذه تكتسب الاحترام في خدمة قتل الفلسطينيين.

إن نسبة المباني المدمرة في غزة تقترب الآن من نسبة المباني التي دمرت في (غرنيكا) الإسبانية أو (هامبورغ) الألمانية أو (هيروشيما) اليابانية، وهي مدن مرادفة لأسوأ دمار في زمن الحرب، إن هدف إسرائيل المعلن -وهو «تدمير حماس»- لا علاقة له بالتكتيك الذي تتبعه إسرائيل تجاه السكان، والذي كان يتمثل في قتلهم أو دفعهم نحو مصر، ويبدو أنها لم تعد ترغب في إدارة غزة كمعسكر اعتقال مطوق. ولكن خططها غير واضحة، فالمفاوضات مع حماس تجري من خلال مصر وقطر، وتشير بعض التقارير إلى أن إسرائيل عرضت «هدنة» لمدة شهرين مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين؛ وردت حماس بأن إطلاق سراح المزيد من الرهائن لن يأتي إلا عندما توافق إسرائيل على وقف الهجوم والانسحاب، وقال يوآف غالانت إن غزة يجب أن تعود إلى «الإدارة الفلسطينية» بضمان الولايات المتحدة. لكن في 30 كانون الأول/ديسمبر، اقترح نتنياهو أن تسيطر القوات الإسرائيلية أيضا على ممر فيلادلفيا، وهو الممر الحدودي بين غزة ومصر الذي يبلغ طوله 14 كيلومترا.

ولا تزال إسرائيل ترفض أي إطار سياسي لصالح البحث عن «الأمن» في كومة من العظام، ويقول كل من نتنياهو ورئيس أركانه، هرتسي هاليفي، إن الحرب ستستمر لأشهر عديدة… لكن من يملك هذا القدر من الوقت في غزة؟

رابط المقال: 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق