الخميس، 9 يناير 2025

من أوجه الحرب على غزة بقلم يسرى العكلوك

 

من أوجه الحرب على غزة بقلم يسرى العكلوك

كوتني بنارها دون أن يراني أحد!

لم أكن أعلم أن الموت سيخلي سبيلي عامًا كاملًا بعد أن أحكم قبضته عليّ مرات عديدة، وأنه سيمنحني اليوم فرصة لأكتب عن مشاعر عشتها وأحداث عايشتها وطوفان اختارني الله لأكون شاهدةً على تفاصيله المدوية. طوفان كنت جزءًا فيه حين أفشلتُ مع أكثر من نصف مليون غزّي مخطط إسرائيل لتهجيرنا بالقتل والتخويف والتجويع والحصار من منطقة شمال وادي غزة. طوفانٌ كنتُ فيه زوجة شهيد مسؤولة عن 3 أطفال قبل أن أكون مراسلة حربية، فانجرفتُ في حروب جانبية اكتويت بنارها دون أن يراني أحد.

أرى عيون الضحية وانفعالات جسدها وأنصتُ لاحتباس النفس وحشرجة الصوت واختناق الكلمة وحنق القهر وانبعاث التنهيدة، فأنا لا أنقل الحدث فقط بل أنقل مشاعر أبطاله

لقب أم اثنين

لم تكن لدّي النية في بداية الحرب لأن أحظى بلقب الأم الصحفية، فكان قرار حماية جبهتي الداخلية وممارسة أمومتي ورعايتي هو الأولى، لكنّ أكثر ما ابتزني أننا وحدنا بلا صحفيين ولا وفود أجنبية تريحنا من عناء حكاية روايتنا للعالم، فنحن – وحدنا – محاصرون بالموت بصمت وفي العتمة، فقررت أن أمارس الدورين معًا أمًا وصحفية، وأن أكون سببًا في تسليط الضوء على الجراح، أقول للعالم: "نحن هنا" وأعود وأمسك قلمي وأكتب عن الضحايا، وأتحدث باسمهم وأوثق شهاداتهم، فكنتُ بكل فخر "مراسلة الجزيرة نت"، ومن مدينة غزة.

تقرؤُها كأنك تراها

ومع أن تجارب عملي السابقة كانت في المجال التلفزيوني، إلا أنني وجدتني أنسجم مع سطور التقارير المكتوبة التي أحبكها بعناية، وقفت عند مسؤوليتي وتحملت عناء شرح شهادات الضحايا لتقرأَها وتعيشها كأنك تراها، كنتُ أطهو القصص على مهل، لا أحب إجراء المقابلات على الهاتف، أرى عيون الضحية وانفعالات جسدها وأنصتُ لاحتباس النفس وحشرجة الصوت واختناق الكلمة وحنق القهر وانبعاث التنهيدة، فأنا لا أنقل الحدث فقط بل أنقل مشاعر أبطاله.

هذا الحب تطلب مني قطع مسافات طويلة مشيًا على الأقدام، للوصول لشخصيات القصص، فسيارتي مركونة بجوار الرصيف منذ اليوم الأول للحرب؛ بسبب منع الاحتلال إدخال الوقود، وإن وجد فسعره يصل إلى ثمانين دولارًا أميركيًا، إضافة لعدم وجود وسائل نقل في غزة سوى الدراجات الهوائية وهي وسيلة لا تليق بامرأة، أو العربات التي تجرها حيوانات ولا أحبّ ركوبها.

أن تكون مراسلًا في غزة هو أن تسير مسافات للبحث عن فتات إنترنت تدفع مقابل الدقائق منه مبلغًا ليس زهيدًا لإرسال مادتك الصحفية عبر البريد الإلكتروني

مادة بشق الأنفس

كونك مراسلًا في غزة يتطلب منك اعتبارات كثيرة منها أن تمشي أكثر من ساعة ذهابًا ومثلها إيابًا تحت شمس الظهيرة الحارقة من أجل مقابلة ضيف من ضيوف تقريرك الصحفي.

أن تكون مراسلًا في غزة هي أن تُوأد أفكارك في مهدها لصعوبة الوضع الميداني أو للاعتبارات الأمنية أو صعوبة الوصول إلى المكان أو الشخص المعني.

أن تكون مراسلًا في غزة هو أن تسير مسافات للبحث عن فتات إنترنت تدفع مقابل الدقائق منه مبلغًا ليس زهيدًا لإرسال مادتك الصحفية عبر البريد الإلكتروني.

أن تكون مراسلًا في غزة يعني أن تبحث عن صيانة لجهاز حاسوبك الذي تلقّى"إصابة حرب" فلا تجد، فتضطر عامًا كاملًا للكتابة على هاتفك المحمول وعيناك خلال نهارات كاملة تركزان في 8 سنتيمترات هو عرض شاشة هاتفك الذي تكتب عليه تقريرك تحت ضغط الوقت المرهون بنفاد شحن البطارية.

الخلاصة أن خروج القصة للنور يكون بشق الأنفس، ويتطلب المرور بفصول متراكبة ومتراكمة من المعاناة.

ما زلت أمام كل زوجات الشهداء أتحول من صحفية توثق القصة إلى حضن ومواساة من امرأة تجرّعت الفقد قبلهن لامرأة بجرح طازج

أدوار خلقتها الحرب

لقد كان للحرب الفضل في اكتشاف ذواتنا ومهاراتنا، فبقدر ما هشمت في دواخلنا أضاءت فينا أماكن لم نلتفت إليها يومًا.

فعلاوة عن مهارات الطهو على الحطب، وغسل الملابس بالأيدي، والعجن والخبز اليومي، وحمل المياه والسعي وراء البدائل في ظل شح الأساسيات، ثم السعي وراء الفكرة والقصة، فقد قمت بدور الناشط  في العمل الخيري حين أعددت قصة من داخل مركز إيواء عُرف النازحون فيه بتكافلهم، فكرت مليًا بالطريقة التي يمكن أن يظهر فيها هذا التكافل بالشكل المطلوب في تقرير مكتوب، فقررت أن أنظم تكية يكون الطهاة فيها سيدات، جلست بينهن يومها 3 ساعات لأتمكن من رسم وكتابة صورة التكافل بين النازحين كما رأيتها، إضافة لترددي على المركز أسبوعًا كاملًا لاقتناص الفرص والتقاط المشاهد ووصفها.

وقمت بدور المرشد النفسي؛ فعدد من السيدات منحنني الثقة بإخباري تفاصيل لأول مرة، وسيدة أخرى طلبت مني اصطحابها لبيتها الذي قُبر تحته زوجها وأبناؤها لأول مرة لأؤازرها خشية أن تنهار.

وما زلت أمام كل زوجات الشهداء أتحول من صحفية توثق القصة إلى حضن ومواساة من امرأة تجرّعت الفقد قبلهن لامرأة بجرح طازج.

هل تحرك العالم الذي أفنى إسماعيل روحه من أجل أن يبصّره وجعنا؟ هل يستحق العالم أن نموت ونحن ننتظر رجع الصدى وردة الفعل والنصرة؟

قتل يدفعنا للاستمرار

وفي كل مرة كنت أتقمص دور الضحايا لأكتب بألسنتهم، فكنت مع انتهاء التقرير أشعر بالاستنزاف النفسي التام، علاوة عن ليالٍ كثيرة استبدّ بي الأرق  فيها من سماع الشهادات المروعة ورؤية آثار المجازر وبصمات إجرام إسرائيل.

كان استشهاد إسماعيل الغول قاصمًا لظهور رفاقه الصحفيين، وأدخلني شخصيًا في حالة من الإحباط والسخط والخذلان وفي دوامة من الأسئلة المفتوحة، هل نهدر أرواحنا من أجل أن نثبت للعالم مظلوميتنا؟ هل تحرك العالم الذي أفنى إسماعيل روحه من أجل أن يبصّره وجعنا؟ هل يستحق العالم أن نموت ونحن ننتظر رجع الصدى وردة الفعل والنصرة؟

كانت هذه الأسئلة تكبلني فتوقفت عن الكتابة والعمل مدة أسبوعين، فلا فائدة أو جدوى، ثم اندفعت برغبة أكبر ومعي الصحفيون لنقيم الحجة على العالم، ونكمل الرسالة التي حاولت إسرائيل وأدها حين قتلت أكثر من 170 صحفيًا، ونؤدي واجبنا الذي تنتظره منّا غزة وأبناؤها الصامدون فيها.

لقد أوصلتنا الحرب للطاقة القصوى من كل شعور، شعور الخوف بأقصى مراتبه والعجز بأتم معانيه واليأس بأعلى درجاته والجوع بأقصى مستوياته وحصار الموت بمعناه الحقيقي ومشاعر أخرى لا يتسع المقال لذكرها

تأثير المجاعة

عامٌ بالتمام والكمال أمعن فيه الجوع بنا أذاب شحومنا وأذبل ملامحنا وشوّه دواخلنا، لا شيء يدخل معدتنا سوى ما علّبته الدول الشقيقة بموادّ حافظة وأرسلته لنا مددًا ترفع به عن نفسها لوثة الضمير، لا شيء صحيًّا يتسرب إلينا ولا قيمة غذائية واحدة تساعد عقولنا على التفتح والتركيز.

كل شيء هنا يدعو للتشتت حتى مشاهد الأمهات اللواتي يستشهدن وبجوارهن أطفالهن، والصحفيات اللواتي رفضن الخروج للعمل وآثرن البقاء في بيوتهن خوفًا من مصير الموت فباغتهن المصير على أسرّتهن، مشاهد لا تبهت أبدًا في مخيلتنا، وتَحول في كثير من الأحيان دون المواصلة بسلاسة وبذات الحماسة والاندفاع.

لقد أوصلتنا الحرب للطاقة القصوى من كل شعور، شعور الخوف بأقصى مراتبه والعجز بأتم معانيه واليأس بأعلى درجاته والجوع بأقصى مستوياته وحصار الموت بمعناه الحقيقي ومشاعر أخرى لا يتسع المقال لذكرها.

عامٌ مرّ علينا ونحن تحت وطأة الحرب، ولا ندري متى وكيف ستحط أثقالها، وهل سنشهد ذلك اليوم أم لا، لكن الثابت أن التاريخ سيكتب في صدر الصفحات عن جبروت الغزّي وانبعاثه من تحت الرماد، ليس لأنه أسطوري بل لأنه عاشق تبخّر كل شيء حوله وداخله ولم يبقَ يملك سوى قلبه النابض بحب غزة، فقرر من أجلها أن ينسج قصة صمود عظيمة عنوانها "عاشق حتى الرمق الأخير".








من أوجه الحرب على غزة بقلم يسرى العكلوك














مراسلو الجزيرة نت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق