الخميس، 18 ديسمبر 2025

الحاجة إلى تثبيت موقف سياسي حول القدس

الحاجة إلى تثبيت موقف سياسي حول القدس

د. عبدالله معروف

أستاذ مساعد في جامعة طيبة بالمدينة المنورة

 ليس من عادتي أن أتكلم عن المؤتمرات أو الندوات وما شابهها من أحداث ذات طابع سياسي، وخاصة في وقت تظهر فيه الحاجة لعمل فعلي على الأرض مثل هذا الوقت الذي تمر فيه غزة بواحدة من أبشع حملات الإبادة الجماعية المستمرة برغم الإعلان عن وقف إطلاق النار منذ شهرين تقريباً.


لكن من ناحية أخرى، ينبغي لنا عدم إغفال ضرورة الالتفات من فترة لأخرى إلى أهمية إبداء المواقف السياسية المعلنة الصارخة الواضحة في ظل تحركات عالمية تقودها الإدارة الأمريكية الحالية لإنقاذ حكومة بنيامين نتنياهو من الهوة السحيقة التي أوقعت نفسها فيها خلال عامين من حرب الإبادة المعلنة على أهلنا في قطاع غزة، وهجمات المستوطنين اليومية في الضفة الغربية، والاقتحامات المتوالية، وعملية تغيير الوضع الراهن المحمومة في المسجد الأقصى المبارك.


حملات تبييض صورة الاحتلال ومعركة الوعي العالمي

فهذه التحركات التي بدأت مع وقف إطلاق النار باتت تظهر بشكل واضح على شكل حملات الإعلام الموجه بقوة في جميع أنحاء العالم، وأصبحت معنية بشكل صريح بإنقاذ صورة دولة الاحتلال التي ظهرت بشكلها الحقيقي البشع خلال العامين الماضيين.


وفي مقابل حملات العلاقات العامة التي تدفع فيها «إسرائيل» وداعموها بكل ثقلهم المادي والسياسي والمالي وراء محاولة كيْ الوعي العالمي، يصبح إعلان الموقف الموحد واجباً لا يقل أهمية عن الوقوف في وجه آلة الاحتلال المستبدة على الأرض الفلسطينية.


فإعلان مواقف سياسية محددة وثابتة ونشرها في الإعلام يعتبر واحدة من ركائز العمل السياسي الإعلامي الداعم لصمود الشعب على الأرض، وإفشالاً لمحاولات العبث بالوعي الشعبي لدى شعوب الأرض، ولا سيما في البلدان الغربية، التي استيقظت أخيراً على الحقيقة المفزعة حول حقيقة مشروع دولة الاحتلال وما تمثله من قيم لا أخلاقية، تتعارض تماماً مع كافة القيم والمعايير التي تتبجح بها أمام الخلق.


مؤتمر «إرادة».. إعادة بناء الموقف السياسي في لحظة التحوّل

وفي هذا الصدد، نشير إلى مؤتمر عقد في إسطنبول، في 6 و7 ديسمبر الجاري، شاركت فيه هيئات وشخصيات من أكثر من 30 دولة عربية وإسلامية وغربية، وممثلون عن شرائح متنوعة من الخلفيات الأيديولوجية والدينية والعرقية واللغوية والفكرية المتعددة؛ شرقيون وغربيون ومسلمون ومسيحيون ويهود وقوميون ومتدينون وعلمانيون ويساريون ويمينيون، تحت عنوان «إرادة».


هذا المؤتمر ذكّرني في هيئته وطبيعته ورسائله التي بثها بمؤتمر مشابه كنت قد تابعته عام 2007م في أول زيارة لي في حياتي لمدينة إسطنبول، حيث شهد ذلك المؤتمر حشداً من 4 آلاف مشارك قدموا رسالة سياسية قوية تتعلق بالقدس وعدم الاعتراف بمشروع الاحتلال الذي أعلنه بخصوصها في ذلك الوقت، لاستكمال تغيير معالم المدينة وديمغرافيتها بحلول عام 2020م.


وكانت هذه الرسالة في غاية الأهمية على الأرض وقتها، إذ اعتبرت هذه الرسالة في تلك الفترة مقدمة لعدة مشاريع على الأرض بدأت بناء على الرسالة السياسية الموحدة التي أسندت أهل القدس مثل الرباط في المسجد الأقصى، على سبيل المثال.


ما يستحق الإشارة له في هذا المؤتمر الأخير في نظري هو تركيزه على بناء رسالة سياسية تتعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزته حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة وعموم الأراضي الفلسطينية، وبالذات فيما يخص القدس والمسجد الأقصى الذي كان وما زال أحد أهم عناوين هذا الصراع في هذه الفترة الحرجة.


«الأقصى» في قلب مشروع الحسم الصهيوني

فالاحتلال منذ بدء حرب الإبادة سعى لتغيير الواقع في المسجد الأقصى على الأرض بشكل جذري كما هو معلوم، وهذا الأمر وإن لم يكن وليد حرب الإبادة، إلا أن الاحتلال سعى إلى استغلال صدمة الترويع التي أحدثها في الأراضي الفلسطينية بمجازره غير المسبوقة لينفذ أكبر قدر ممكن من مشروعه في المسجد الأقصى وبأقصى سرعة ممكنة، قبل أن يستفيق الشعب الفلسطيني من صدمة بشاعة حرب الإبادة التي نفذها الاحتلال وبشاعة جرائمه في السجون على مدار العامين الماضيين.


ولذلك، رأينا الاحتلال يسارع خلال العامين الماضيين إلى تثبيت وقائع جديدة على الأرض كان أبرزها قرار الوزير الإرهابي إيتمار بن غفير بالسماح للمستوطنين بأداء الطقوس الدينية كافة وعلانية في المسجد الأقصى المبارك.


ومع نهاية العام الجاري، أقدم هذا الوزير على تعيين أحد المقربين منه –ويدعى أبشالوم بيليد– قائداً لشرطة القدس بعد خلافه مع القائد الأسبق أمير أرزاني على مسألة السماح للمستوطنين بإدخال أدوات طقوسهم الدينية كالكراسي والطاولات والكتب وغيرها إلى المسجد الأقصى المبارك، حيث يصر بن غفير على السماح بذلك فيما كان أرزاني يتخوف من تبعات هذه الخطوة.


وهذا يدلنا على أننا أمام ربيع ساخن في المسجد الأقصى بدءاً من شهر رمضان القادم، الذي سيكون قريباً جداً لعيد الفصح العبري الذي يشهد كل عام محاولة تنفيذ آخر الطقوس الدينية للمستوطنين في المسجد وهي أداء القرابين الحيوانية، فضلاً عن المحاولة الدائمة للحاخام المهووس بـ«البقرة الحمراء» تساحي مامو إجراء طقوس ذبح بقراته الحمراء يوم الثاني من نيسان العبري الذي يصادف هذا العام أيضاً عيد الفطر المبارك.


من إسناد الفلسطينيين إلى مسؤولية الشعوب

هذه الأحداث كلها، وحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال منذ عامين على غزة التي لطالما دافعت عن المسجد الأقصى المبارك، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن جهود الشعب الفلسطيني لحماية هوية المسجد الأقصى لم تعد كافية؛ لأن الاحتلال وصل في رده عليها حد ارتكاب الإبادة الجماعية بحق هذا الشعب، وبالتالي فلا بد من انخراط جميع الشعوب العربية والإسلامية بشكل مباشر في الدفاع عن المسجد الأقصى وهويته، لا الاكتفاء بدور الإسناد والدعم من الخلف.


ولعل هذه النقطة كانت أبرز النقاط التي لفتت نظري في بيان هذا المؤتمر؛ وهي مسألة تنقل الدفاع عن المسجد الأقصى إلى المربع الحقيقي الطبيعي وهو الشعوب العربية والمسلمة بأجمعها لا الشعب الفلسطيني فحسب.


إن وقوف أكثر من 300 شخصية من تيارات مختلفة معاً متناسية اختلافاتها وخلافاتها الكثيرة لإعلان وقوفها مع القدس وفلسطين هي حركة سياسية في غاية الأهمية لا بد من استثمارها والاستفادة منها، فلا يخفى على متابع اليوم الضغط الهائل الذي تمارسه إدارة ترمب على الطرف الفلسطيني والعربي بهدف الحفاظ على التفوق «الإسرائيلي» وترميم ما أفسده نتنياهو على كيانه خلال عامين من الحرب.


والواجب أن يتم استغلال الضعف الذي أظهرته دولة الاحتلال في حربها المجنونة، والانكشاف الذي حصل لها على المستوى الدولي، لزيادة عزلتها ومنعها وحليفتها من محاولة استعادة صورتها السابقة، أو السماح لها بإظهار أي صورة نصر مزعوم قد تستفيد منه في استعادة الروح المعنوية لمستوطنيها.


فقد اهتزت هذه الروح المعنوية أيما اهتزاز على مدار العامين الماضيين، وتعمق الشرخ الداخلي في دولة الاحتلال إلى حد غير مسبوق، وفقَدَ المستوطنون الثقة في جيشهم وحكومتهم ومشروعهم.


وبالتالي، فإن أي خطوة سياسية قد تساهم في تعميق هذا الشعور الداخلي بالهزيمة لدى دولة الاحتلال لابد من إحسان استغلالها، فالمعركة لا تجري على الأرض فقط، وإنما في كل جانب ومكان حتى في كواليس الإعلام والسياسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق