حرب السودان المنسية: صراع التجاذبات الإقليمية وتهديد الأمن القومي

بينما تتصدر العناوين في العالم أزمات بعيدة، يظل السودان غارقا في حرب تبتلع المدن، وتعيد رسم الخرائط السياسية والأمنية في المنطقة. حرب ضارية أوشك عامها الثالث أن يكتمل، لكنها رغم ضخامتها ما زالت تعاني من التجاهل الدولي، وكأن دماء شعب بأكمله أصبحت "خبرا قديما" وسط ضجيج الأحداث العالمية.
هذه الحرب لم تعد مجرد صراع داخلي بين أطراف سياسية وعسكرية، بل تحولت إلى نقطة اشتباك إقليمي مفتوح، تتقاطع فيه مصالح دول، وتتصادم فيه رؤى فاعلين دوليين، وتعاد عبره صياغة موازين القوى على البحر الأحمر وفي القرن الأفريقي ومنطقة الساحل. وما بين تمدد المليشيات، وتصدع مؤسسات الدولة، وتدخلات القوى الخارجية، يقف الأمن القومي السوداني عند مرحلة دقيقة من تاريخ البلاد.
يمثل السودان جزءا حساسا من الممر الملاحي الأهم في العالم، ما جعله هدفا للتنافس الإقليمي. بعض القوى تنظر إلى ساحل البلاد الممتد على أكثر من 700 كيلومتر باعتباره ورقة إستراتيجية للنفوذ البحري والعسكري
حرب بلا شهود.. وصمت دولي يفاقم الجحيم
منذ اندلاع شرارة القتال، انشغل العالم بأزمات أخرى، بينما تذبح مدن بأكملها في السودان (الفاشر، بارا، الدلنج، بابنوسة وغيرها). مقرات للأمم المتحدة ومنظمات أخرى جميعها تحولت إلى ساحات مواجهة مفتوحة، تتساقط فيها مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى.
ورغم التقارير الأممية التي تحدثت عن أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم خلال العقدين الماضيين، فإن الاستجابة الدولية لم تتجاوز الإدانات الباهتة والاجتماعات الشكلية. هذا التجاهل صنع بيئة خصبة لإطالة أمد الحرب، وترك المدنيين وحيدين في مواجهة آلة عنف لا ترحم.
التجاذبات الإقليمية.. حرب بالوكالة على أرض السودان
لا يمكن قراءة الأزمة السودانية بعيدا عن صراعات الإقليم، فالحرب تحولت تدريجيا إلى مسرح لتصفية الحسابات الإقليمية، حيث تسعى قوى متعددة إلى فرض نفوذها في بلد يعد بوابة إستراتيجية نحو البحر الأحمر، وملتقى طبيعيا بين الشرق والغرب.
البحر الأحمر.. شريان المصالح المتصادم
يمثل السودان جزءا حساسا من الممر الملاحي الأهم في العالم، ما جعله هدفا للتنافس الإقليمي. بعض القوى تنظر إلى ساحل البلاد الممتد على أكثر من 700 كيلومتر باعتباره ورقة إستراتيجية للنفوذ البحري والعسكري. هذا التنافس ساهم بشكل مباشر في تعقيد المشهد العسكري، وتعزيز أطراف على حساب أخرى.
أكثر من 11 مليون نازح داخل وخارج السودان يشكلون أكبر حركة نزوح في العالم اليوم. هذا النزوح يفكك المدن، ويستنزف المجتمعات المضيفة، ويخلق بيئة خصبة لنشاط الجماعات المسلحة، ويرفع المخاطر الأمنية على دول الجوار
سباق النفوذ في القرن الأفريقي
يمر السودان بتقاطعات مع القرن الأفريقي، حيث تنشط قوى إقليمية تبحث عن عمق إستراتيجي ومجال حيوي. ومع انشغال دول الجوار بأزماتها الداخلية، تحولت الحدود السودانية المفتوحة إلى ساحة عبور للأسلحة والمقاتلين والتهريب المنظم، ما زاد من تعقيد المعادلة الأمنية.
الذهب والسلاح.. اقتصاديات الحرب
تحولت بعض المناطق السودانية الغنية بالموارد، خصوصا الذهب، إلى اقتصاد حرب تموله أطراف إقليمية تبحث عن النفوذ والربح. هذه التدفقات المالية عززت قدرات المليشيات ودفعت باتجاه إطالة أمد الحرب، بينما تراجعت سلطة الدولة.
الأمن القومي السوداني.. الخطر الأكبر
لم تتعرض الدولة السودانية منذ الاستقلال لتهديد وجودي كما يحدث اليوم، فالحرب لم تضرب العاصمة فقط، بل كسرت العمود الفقري للجغرافيا السودانية، وأعادت تشكيل الخريطة السكانية، وعطلت مؤسسات الأمن والاقتصاد والحوكمة.
تضررت المؤسسات العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق، جعل البلاد عرضة للاختراق الإقليمي والدولي، وأتاح للمليشيات أن تحل محل الدولة في بعض المناطق.
موجات النزوح.. قنبلة ديموغرافية
أكثر من 11 مليون نازح داخل وخارج السودان يشكلون أكبر حركة نزوح في العالم اليوم. هذا النزوح يفكك المدن، ويستنزف المجتمعات المضيفة، ويخلق بيئة خصبة لنشاط الجماعات المسلحة، ويرفع المخاطر الأمنية على دول الجوار.
حرب السودان المنسية ليست مجرد فوضى عابرة، بل زلزال سياسي وأمني يهدد بإعادة رسم الإقليم كله. وكل يوم يمر دون تدخل جاد يعني المزيد من الدماء، والمزيد من التصدعات في الجغرافيا والتاريخ والمجتمع
- خطر التقسيم: مع تصاعد الصراع وتعدد الولاءات العسكرية، ترتفع المخاوف من تشظي البلاد إلى كيانات قبلية وجهوية. هذا السيناريو، الذي تتجنب الأطراف الحديث عنه، يعد أخطر تهديد للأمن القومي السوداني وللاستقرار الإقليمي ككل.
- الاقتصاد: انهارت خطوط الإنتاج، وتوقفت الصادرات، وفقدت السيطرة على معظم المنافذ الحدودية، واستمرار هذا الوضع سيجعل استعادة الدولة لاحقا مهمة شبه مستحيلة.
كيف ينقذ السودان من حربه المنسية؟
رغم قتامة المشهد، لا يزال هناك مجال لوقف الانهيار، لكن ذلك يتطلب إرادة إقليمية حقيقية لوقف الحرب. تحتاج الدول المؤثرة في الملف السوداني إلى التوقف عن إدارة الحرب بالوكالة، والتوجه إلى رؤية مشتركة تبقي السودان دولة موحدة مستقرة.
- دعم دولي جاد لا بيانات موسمية: يحتاج السودان إلى خطة إنقاذ إنسانية واقتصادية عاجلة، وإلى رعاية دولية صارمة تمنع تدفق السلاح، وتمول إعادة الإعمار.
- المصالحة الوطنية الشاملة: المجتمع السوداني نفسه يمتلك القدرة على تجاوز الصراع إذا توافرت بيئة سياسية آمنة، ورؤية وطنية جامعة، تتجاوز الانتقام إلى بناء دولة جديدة.
السودان لا يحتمل المزيد
حرب السودان المنسية ليست مجرد فوضى عابرة، بل زلزال سياسي وأمني يهدد بإعادة رسم الإقليم كله. وكل يوم يمر دون تدخل جاد يعني المزيد من الدماء، والمزيد من التصدعات في الجغرافيا والتاريخ والمجتمع.
السودان بلد محوري، وغيابه عن المعادلة الإقليمية سيترك فراغا يلتهم الجميع. لذلك، فقد آن الأوان ليدرك العالم أن تجاهل هذه الحرب ليس خيارا، وأن إنقاذ السودان لم يعد واجبا إنسانيا فقط، بل ضرورة إستراتيجية لحماية أمن المنطقة بأكملها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق