الخميس، 18 ديسمبر 2025

من يحكم فعلياً في لحظات التحوّل: الدولة العميقة أم المجتمع العميق؟

من يحكم فعلياً في لحظات التحوّل: الدولة العميقة أم المجتمع العميق؟

من يتأمل في لحظات الاضطراب الكبرى التي تمرّ بها الدول و المؤسسات والشعوب، خصوصاً عندما تتكسر السرديات القديمة وتسقط اليقينيات التي طالما بدت راسخةً في نفوس الناس، يخرج إلى السطح سؤالٌ مقلق، ومحيّر في آنٍ واحد:
  من يحكم فعلياً في لحظات التحوّل و المنعطفات السياسية و غيرها ؟
بالتأكيد ستكون الإجابة أنّه ليس من حكمه على الورق، ولا من يتصدّر المشهد في المؤتمرات والخطابات، بل الذي يحكم هو من يمسك بخيوط القرار حين ترتبك المؤسسة، ويصمت القانون، ويعلو منسوب الخوف والقلق. 
وهنا، يتراجع الجدل التقليدي الذي يدور حول “الدولة العميقة” بوصفها شبكة بيروقراطية أو أمنية خفية، ليظهر مفهوم أكثر تعقيداً وخطورة … “المجتمع العميق”.

لطالما استُخدم مصطلح الدولة العميقة لتفسير فشل الإصلاح، أو مقاومة التغيير، أو إفشال التحولات السياسية ، وغالباً ما صُوِّرت هذه الدولة ككيانٍ منظم، واعٍ، متماسك، يعمل من خلف الستار غير المرئي، غير أنّ التجربة العربية، خصوصاً في العقد الأخير، كشفت أنّ كثيراً من القرارات المصيرية لم تُصنع فقط في دهاليز السلطة، بل في أعماق المجتمع ذاته، نجدها في ثقافة المجتمع الشعبوي، وفي اقتصاد الامتيازات الخاصة للكيانات الشعبية والمجتمعية، وفي شبكة المصالح الصغيرة المرئية والمخفية التي تخشى التغيير أكثر ممّا تخشى الفساد.

إذًا فالمجتمع العميق ليس تنظيماً سرياً، ولا غرفة عمليات مغلقة، بل هو منظومة غير مرئية من القناعات والسلوكيات والعلاقات والمعتقدات الشعبوية، وهو ذلك التوافق الصامت الذي يتشكّل حين يفضّل الأفراد السلامة على العدالة، والاستقرار الشكلي على الإصلاح الحقيقي، والمكسب اللحظي على المستقبل البعيد، ففي لحظات التحوّل، لا تقف هذه المنظومة في وجه التغيير بصوتٍ مرتفع، بل تُفرغه من مضمونه، وتعيد إنتاج الواقع القديم بأدواتٍ جديدة، وبخطابٍ مختلف لم يكن مألوفًا من قبل .

وهنا، تصبح النخب الفاعلة في موقع ملتبس و مقيَّد ومحدود القدرة. 
فبعضها أسير المؤسسة العميقة، وبعضها الآخر رهين للمجتمع العميق، فنجد نخبةً تخشى الشارع، وشارعًا لا يثق بالنخبة، وبينهما تتسع فجوة القرار، فالتردُّد والوجل يتحوّل إلى قائد فعلي، وكذلك المصالح الصامتة تصبح أكثر تأثيراً من القوانين المكتوبة، فلا أحد يعترض صراحةً خشية مصالحه، ولا أحد يدعم بوضوح المسارات الإصلاحية ، فيبقى التغيير معلّقاً، وهشًّا، قابلاً للانكسار عند أول اختبار حقيقي.

فالمعضلة ليست في المنظومة السياسية بقدر ما هي متعلقة بثقافة الشعوب ،وتحتاج إلى مصارحةٍ شجاعة مع المجتمع العميق. 
فالإصلاح الذي لا يمسُّ البنية الذهنية والاجتماعية والشعبوية، يظلُّ إصلاحاً مؤقتاً، والدولة التي تُطالَب بالتغيير بينما يُعفى المجتمع من مسؤوليته، ستبقى تدور في حلقةٍ مفرغة.

فالحقيقة هي كالتالي: 
الجميع مسؤول عن الجميع، و طريق الإصلاح لا يخلو من الاستعانة من جميع الأطراف، فالدولة عليها دور، وكذلك الشعوب بثقافتها العميقة والظاهرة مسؤولة .َّ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق