الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

سعد بن أبي وقاص.. حين يسقط المنصب ويبقى الرجل

كلما فتشنا في صفحات تاريخنا كلما وجدنا عظمة

 الرجال الكبار من هذا الجيل الفريد الذي صاغه

 رسول الله صلى الله عليه وسلم في منابع الوحي

 الصافية.

ولم يكن خالد بن الوليد فريدا في مواقفه بل تطابقت

 معه مواقف مشرقة من هذا الجيل،

لم يكن سعد بن أبي وقاص اسماً يُذكر فحسب، بل كان

 معنى يترسخ في ضمير الأمة.

واحد من أولئك الذين سبقوا الزمان بخطواتهم،

 فصاروا معالم تُهدي اللاحقين.

هو أول من أطلق سهماً في سبيل الله، وأحد العشرة

 المبشرين بالجنة، والرجل الذي جمع له رسول الله

 صلى الله عليه وسلم أبويه في الدعاء: اللهم استجب

 له إذا دعاك، فلم تكن له منزلة تُنال بالكفاح وحده، بل

 منزلة سكنت القلب فاستقرت، فلا تهتز بعزل ولا

 ترتفع بولاية.

القادسية: حين يقود الإيمان من سرير المرض

في القادسية، لم يكن سعد على صهوة جواد، بل كان

 جسده طريح الفراش، تحمله الأوجاع. لكن روحه

 كانت تعلو الجبال، وتقود جيشاً أتى ليواجه

 إمبراطورية ظلت قروناً تبني مجدها على أنقاض

 الأمم.

هناك، حيث التقت قلَّة العدد بكثرة الطغيان، انتصر

 الإيمان. سقط رستم، وانهارت دولة كسرى، وفتح

 باب العراق على مصراعيه.

صار اسم سعد يُتلَى مع أنباء الفتح، وتوشَّح بثوب

 القيادة، لكن قلبه ظل كما كان: خفيفاً من زينة الدنيا،

 ثقيلاً بعبء الأمانة. لم ينسَ أنه عبدٌ قبل أن يكون

 قائداً، وأن النصر من الله قبل أن يكون من تدبيره.

الامتحان الصامت: حين تصل الشكاوى إلى المدينة

لكن الفتح لا يمنع الفتنة، والمنصب لا يحمي من ألسنة

 الناس. بدأت الهمسات تتحول إلى شكاوى، والشكاوى

 إلى أقوال تصل إلى عمر بن الخطاب في المدينة.

 أكثرها صادر عن أهواء، وبعضها خليط من سوء

 فهم وحسد قديم.رفع صوتاً. وقف حيث يقف الواثقون

 بالله: في موضع الصبر. أما عمر، فكان يؤمن بشيء

 أعظم من الأفراد: ثقة الناس في العدل، ولو على

 حساب أحب الناس إليه. لم يكن يزن الرجال بقلوبهم

 وحدها، بل يزن الولايات بميزان الجماعة.


لم يكن سعد غافلاً عنها، لكنه لم يُشهر سيفاً، ولم

 يوهكذا حين تعلوا الصيحات المختلطة بالحق والباطل

 والحابل بالنابل فلابد من قرارات تسكت تلك

 الأصوات وتحفظ للرجال مكانتها وهيبتها.

العزل: حين يسقط الظل ويبقى الأصل

صدر القرار: عُزل سعد عن ولاية الكوفة.

لم يكن في القرار اتهام، ولا في العزل تشهير، لكن

 الامتحان الحقيقي لم يكن في القرار نفسه، بل في

 القلب الذي يستقبله. بلغ الخبر سعداً -فاتح العراق،

 صاحب القادسية، سهم الله الذي لا يخطئ- 

فماذا قال؟

لم يجمع أنصاره، لم يحتجّ بفضله، لم يقل: أنا السابق،

 أنا القائد، أنا المجاهد، بل رفع كفَّي المظلوم الواثق

 ودعا: اللهم إن كانوا كذبوا عليّ، فأطل أعمارهم،

 وأكثر فقرهم، وعرّضهم للفتن.

دعاءٌ لا يحمل حقداً، ولا ينضح بروح انتقام، بل طلبا

 للتمحيص، مع تسليم الأمر لله كما يسلم الجندي

 سلاحه لقائده. ثم انصرف. لا ضجيج، لا اصطفاف،

 لا انقسام. خرج من الولاية… ولم يخرج من

 الجماعة.

وما أحوج الحركة الإسلامية اليوم الى تلك الأخلاق

 النبيلة ان يتراجع المخطئ، عن يقين وبما لديهم من

 علم يدركون معه ان مواقفهم سوف يسألهم الله عنها

 بعلمهم ويقينهم ان الحق ليس في موقفهم لكنهم

 سيتراجعون من زلل ويعتذرون من بعد خطأ.

بعد العزل: حين تُمتحن النوايا

مرت السنوات، وتبدلت الوجوه، وسقطت أسماء كانت

 لا تُذكر إلا مقرونة بالمناصب. أما سعد، فبقي كما

 هو: رجلاً يعرف أين يقف إذا اضطربت الطرق.

 وحين أقبلت الفتن الكبرى، وطُلب منه أن يختار

 طرفاً، قال كلمته التي تختصر فقهه كله: لا أقاتل

 حتى تأتوني بسيفٍ يفرّق بين المؤمن والكافر.

وعند اختلاط الأمر وعدم بيانه ووضوحه فإن تجاوز

 الخلافات والانقسامات من المكرمات التي تصان بها

 الجماعات.

فآثر العزلة على الدم، والسلامة في الدين على

 البطولة الزائفة. ومات سعد… بعيداً عن السلطة،

 قريباً من الحق.

الدروس التربوية العميقة للحركة الإسلامية المعاصرة

قصة سعد لا تعلّمنا كيف نُحسن القيادة فقط، بل كيف

 نُحسن الخروج منها. إنها ترسم منهجاً تربوياً عميقاً

 للحركات الإسلامية اليوم، التي تواجه اختباراً لا يقل

 صعوبة عن اختبارات السابقين:

أولاً: المنصب أمانة لا هوية

لم يكن المنصب هوية سعد، بل كان أمانة يحملها ثم

 يسلمها. أما اليوم، فنرى بعض العاملين في الحركات

 الإسلامية يتحول المنصب عندهم إلى هوية وجودية،

 فإذا نُزع منهم، شعروا أن كيانهم انتُزع. هذا الالتباس

 بين الذات والموقع من أخطر الأمراض التنظيمية.

وازداد الامر تعقيدا عندما اقتضت الضرورة ان

 يتحول التكليف الى توظيف يتقاضى منه المكلف

 اجرا

وعند محاولة إعفاؤه ينقلب رأسا على عقب وتتحول

 المغارم الى مغانم، مما يصعب عندها اختبار

 المصداقية او قبول العزل بسلام واريحية.

ثانياً: العزل امتحان لا عقاب

عند عمر بن الخطاب، كان العزل قراراً إدارياً لتحقيق

 مصلحة الجماعة، لا اتهاماً في الدين أو خذلاناً للجهد.

 أما اليوم، فصار العزل في وعي كثيرين علامة

 خيانة أو إقصاء، فيتحولون من أعضاء إلى خصوم،

 ويشققون الصف باسم الدفاع عن الحق.

ثالثاً: الطاعة بعد التغيير

لم ينسحب سعد عندما عُزل، ولم يشكك في نوايا

 عمر، بل بقي في الصف جندياً حيث كان قائداً.

هذا هو المعنى الحقيقي للانضباط التنظيمي: الطاعة

 في المنصب وخارجه، لأن الولاء للفكرة لا للموقع.

وهذا ما نتطلع ان نراه واقعا انسيابيا وطبيعيا في

 حركة الدعاة والعاملين للإسلام.

رابعاً: العمل بلا منصب

بقي سعد يعمل بعد العزل، بل ربما كان عمله في

 الفتنة أعظم من عمله في القيادة، حين حمى دم الأمة

 بسيف كلمته.

الحركة التي لا تربي أبناءها على العمل بلا مناصب،

 تربي بيروقراطيين لا دعاة، ومسؤولين لا مجاهدين.

والأصل في الدعوة هي الذاتية والجندية دون انتظار

 لتكليف او منصبا للتشريف، غير أن ضبط إيقاع

 الحركة الإسلامية يتطلب توزيع التكاليف لاكتمال

 حركة الدعوة في دائرة منتجة مثمرة.

خامساً: النظافة القلبية

دعاء سعد عند العزل مدرسة في النظافة القلبية. لم

 يدعُ على خصومه بالهلاك، بل بالتمحيص. لأنه فهم

 أن العدو الحقيقي ليس الأشخاص، بل النفوس التي

 تتلبس بالشحناء والتحزب.

رسالة إلى الحركة الإسلامية المعاصرة

إن أخطر ما تواجهه الحركات الإسلامية اليوم ليس

 خصومها في الخارج، بل نفوس أبنائها في الداخل.

 حين يُعطى أحدهم مسؤولية، فيظنها:

– قدراً لا يُنزع

– هوية لا تُفارق

– وساماً شخصياً لا أمانة جماعية

فإذا ما نُزع المنصب: غضب وسخط، انسحب أو شق

 الصف، لوّث التجربة بخصومات شخصية. 

وهؤلاء لم يفهموا طريق سعد، ولم يدركوا أن

 الامتحان الحقيقي ليس في الصعود إلى الموقع، بل

 في النزول عنه بقلب سليم.

الحركة التي لا تُربّي أبنائها على:

– قبول العزل بسلام

– والطاعة بعد التغيير بانضباط

– والعمل بلا منصب بإخلاص

  هي حركة تؤسس لأزمات مستقبلية، لا لنهضة حقيقية.

الخاتمة: المعادن الحقيقية

الرجال لا يُعرفون عند التصفيق، بل عند الصمت.

 ولا عند التمكين، بل عند التجريد. 

سعد بن أبي وقاص لم يكن عظيماً لأنه فتح العراق،

 بل لأنه خرج من الحكم كما دخل إليه: نظيف القلب،

 ثابت الوجهة، خفيف التعلق بالدنيا.

وهكذا يقف سعد مع خالد بن الوليد في صف واحد:

 كلاهما انتصر حين أُعطي، وانتصر أكثر حين أُخذ

 منه. لأن انتصارهما كان على النفس قبل العدو،

 وعلى الهوى قبل الخصم.

هذه القصة تبقى مرآة لكل من تصدّر، وسؤالاً صريحاً

 لكل من ابتلي بالمنصب في الحركة الإسلامية

 المعاصرة:

هل أنت مع الدعوة… أم مع موقعك فيها؟

فإن سقط الموقع وبقيت.. فأنت من أهل الطريق.

وإن سقط الموقع فسقطت معه.. فاعلم أن الامتحان لم

 يكن في المنصب، بل في القلب.

إن الحركة التي تريد أن تبني نهضة حقيقية، عليها أن

 تربي أبناءها على معنى أن يكونوا رجالاً بلا

 مناصب، وقادة بلا ألقاب، وأحراراً بلا عبودية

 للمواقع. 

لأن المناصب تأتي وتذهب، لكن الرجال الأصول

 يبقون، يحملون الفكرة في قلوبهم، لا في مكاتبهم.

المصادر والمراجع

1- الطبري، محمد بن جرير.

2- تاريخ الرسل والملوك. دار التراث.

3- ابن كثير، إسماعيل بن عمر.

4- البداية والنهاية. دار ابن كثير.

5- ابن الأثير، عز الدين.

6- الكامل في التاريخ. دار الكتب العلمية.

7- الذهبي، محمد بن أحمد.

8- سير أعلام النبلاء. مؤسسة الرسالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق