الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

القراءة وصناعة الكبار في زمن الدجل الفكري

 القراءة وصناعة الكبار في زمن الدجل الفكري

د. عبد الرحمن بشير
داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

هل العقل هو الذي يستحق المدح لذاته؟ أم يمجد العقل بقدر ما فيه؟ لماذا لم نجد في القرآن آية واحدة تمجد العقل لذاته؟ بينما وجدنا المئات من الآيات تمجد العقل كدور ووظيفة.

البشر كلهم أينما كانوا، ووقتما كانوا، يملكون مادة العقل بسواء، ولكن الذي يصنع الفرق استخدام العقل بشكل فعال، ومن هنا نجد مجتمعا متقدما لأنه عقلاني في حركاته، ومنهجي في خطواته، ونجد مجتمعا آخر يعيش وفق متطلبات الغابة، لأنه استقال عقليا ومنهجيا، ويعيش في عقلية القطيع، والكل يجرى وراء العشب بلا تساؤل، بل قد يذهبون إلى الموت بلا حكمة.

هل ما زال لدينا من يعتقد بأن العقل ضد النقل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا دعا القرآن في كثير من آياته إلي استخدام العقل لفهم الكون، وفهم النصوص كذلك؟ بل لماذا طالب القرآن الإنسان أن يستخدم العقل في إثبات النبوة المحمدية والدفاع عنها من الشبهات (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني وفرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)؟

هل الإيمان نقيض التفكير؟ وهل المفكر المستقل يذهب إلي الزندقة كما أشيع عندنا في أوقات مختلفة، وخاصة فى زمن التنويم الحضاري، وبالتالي إلي جهنم، وبئس المصير؟ بينما الغبي الفاقد كل أدوات التفكير يذهب ليأخذ مكانه من بين المؤمنين، وبالتالي إلي الجنة، فحسنت مستقرا ومقاما.

هل الجنة كما في بعض الأدبيات عندنا نادي الأغبياء؟ والنار نادي الأذكياء؟ هل التعمق في الفلسفة ينحو نحو الكفر؟ بينما التعمق في جمع ما قيل وقال فقط يجعلك رجل دين وعلم، وبالتالي فأنت من أهل الإيمان.

لماذا يخاف المسلمون – اليوم – وخاصة من أتباع النص من العقل؟ ومن القراءة الحرة؟

لماذا نحن أسري لقراءة معينة؟ لماذا لا نربي الناس علي القراءة العلمية والموضوعية والمنهجية والنقدية؟ ولماذا لا نري في بلادنا القراءة كثقافة وممارسة حياتية؟

هل الإسلام يخاف من المواجهة؟ وهل أعداء الإسلام يملكون أسلحة فكرية أقوي من أسلحته؟

لماذا رأينا التنوع في التاريخ الإسلامي أيام مجده بلا خوف ولا خجل؟ ولماذا نري اليوم التنوع ذاته في الغرب في لحظة تألقه؟

لماذا وجدنا في تاريخنا ابن رشد في تألقه وهو يخالف ابن تيمية، ووجدنا ابن رشد وابن تيمية وهما يخالفان الغزالي في منهجه، ووجدنا مدرسة الرأي إلي جانب مدرسة الأثر؟

لماذا السلفيون يخافون اليوم من كتب الغزالي؟ ولماذا العلمانيون يخافون من مواجهة الإسلاميين في ميادين الفكر؟ ولماذا السلفيون والإخوان يخافون من المدرسة العقلانية؟ ولماذا الجميع يخاف من رؤي وأفكار الدكتور طارق رمضان؟ ولماذا الخوف من آراء الدكتور طارق السويدان حتى تم سحب الجنسية الأصلية منه؟ ولماذا الكل في خوف من الكل؟

لماذا أعضاء جماعة الدعوة والتبليغ يعيشون في عالمهم الخاص الخالي من العلم والفكر؟ ولماذا الاستبداد السياسي يحب الجهلة ويدعم ثقافة التجهيل؟

القراءة الحرة المستقلة الشاملة ضرورة حياتية.

في مسيرتي الفكرية رأيت أن أهم نعمة في حياتي تمثلت بعد الإيمان بالقراءة، فهي التي أخرجتني من ظلمات التيه، وأنقذتني من كهوف الأفكار، وجعلتني أجد نفسي ذاتا حرة ليست في الذوات، وإنما وجدت نفسي ذواتا في الذات حتي لا أكون مكررا في الدور، او مستنسخا في الوظيفة،

بل استفدت من الجميع، فتوسلت من خلال القراءة أن لا قداسة لفكر، ولا عصمة لمنهج، ولا كمال لشخص، ولا توقف عند محطة تاريخية معينة، ولا أقبل العيش في الأقفاص كلها، بل أحب أن أكون حرا ومستقلا، ولا أقدس إلا الدين الصحيح فقط.

وجدت القراءة في حياتي ضرورة لأهل الفكر والعلم والدعوة والتغيير، قد تكون حاجتها أشد تأكيدا من حاجة الإنسان إلي الماء والطعام، لأنهما ضروريان فيزيولوجيا، بينما القراءة ضرورة فكرية، وبقاء الإنسان الفيزيولوجي يجعل الماء والطعام ضروريين،

ولكن بقاء الإنسان الفكري والحضاري يحتم عليه فهم الحياة، ولا فهم لها بلا قراءة منهجية، وكذلك يحتاج الإنسان إلى قراءة الذات والموضوع بقوة وعمق.

هل عرف البعض سر تفوق الغرب علينا؟ وهل عرفنا لماذا الغرب لا يعيش في الخيال والأوهام؟ وهل عرفنا لماذا الغرب يخرج من الكبوات سريعا وبأقل الخسائر؟

السر في كل ذلك هو العقل، والعقل ليس في الغرب علي حسب الطبيعة الأولي، فقد تطور من خلال القراءة المنهجية والبحث العلمي.

إن بعض المتعلمين في الغرب منهجيون حين يقرؤون، وحين يكتبون، وحين يبحثون، بل وحين يناقشون ويطرحون أفكارهم، وهم أحرار حين يكتبون، بل لديهم جرأة غير عادية فى القول ما يريدون، ولا يترددون عن البوح بأفكارهم، ولهذا أعلن أحدهم مثل آلان دونو كتابه (نظام التفاهة).

إن غالبية الباحثين في الغرب يعرفون ماذا يقرأون؟ وكيف يقرأون؟ بل ولماذا يقرأون، لأنهم في الغرب ليسوا أسواقا فقط، فليست اهتماماتهم محصورة في شراء أفخم السيارات، وأغلى الملابس، ولا يتهافتون في الأسواق كتهافت أبناءنا عليها، حين يملكون شيئا من حطام الدنيا، ذلك لأن القراءة المنهجية علمت الغالبية منهم التعامل المنهجي مع مفردات الحياة.

كنت فى أضخم مول فى الولايات المتحدة حيث أمارس عادة المشي فيه مع زوجتى فى زمن الشتاء القارس، فقد مررنا إلى جانب مكتبة تبيع الكتب، ورأينا حركة غير عادية فيها، وحينها قررنا الدخول فيها، فإذا الناس فيها يتنافسون شراء الكتب بنهم، كما يتنافسون فى شراء الحاجات الضرورية من أمكنتها، وحينها عرفت سر ّ تفوّقهم علينا.

القراءة وسيلة وهدف.

الغربيون يقرأون ولكنهم لا يقرأون لذات القراءة، وكذلك كان المسلمون الأوائل يمارسون عادة القراءة بيد أنهم لم يكونوا يقرأون لذات القراءة،

فالغرب جعل القراءة وسيلة لهدف أسمي، فقد فهم بأن المجتمع القارئ يستحق الريادة والقيادة، فالهدف هو الوصول إلي القمة، وقد تحقق أن أكثر الناس تأثيرا في الحياة هم أكثر الناس قراءة، وكذلك كنّا يوم أن عرفنا أسرار الحياة.

لماذا يقرأ مسلم اليوم كتبا معينة فقط؟ هذا إن قرأ، وما نوعية الكتب التي يقرؤها؟ ولماذا البعض يملكون مكتبات جميلة وضخمة، ولكن حين التأمل في ما يقال، فلا تجد أفكار ثقيلة وهامة.

أين حصيلة هذه الكتب في حياة الأمة؟ لماذا لا نجد حتي اللحظة من يطرح رؤي مختلفة عن الآخرين؟ لماذا نجد التشابه المطلق في أفكار الناس؟ أين الإبداع والتجديد؟ ولماذا يزداد الخوف من التجديد؟ ألم تبدأ كل حياة جديدة من فكر جديد؟ ألم تكن نبوة محمد رفضا للواقع البالي (العربي والكوني)؟ لماذا التشبث بالقديم حتى ولو كان منطقيا في نظر الناس، وليس في نظر الدليل والحجة؟

ليس من العقل أن نقرأ لأجل القراءة، وأن نتعلم لأجل التعلم، وأن ندرس الجامعات والمعاهد العليا لأجل الشهادات، وأن نحمل ألقابا علمية جوفاء بلا عطاء، المهم أن نكون رقما في الحياة، وان نتحول من عالم جمع المعلومات إلي عالم غربلتها، لأجل إنتاج عالمنا المعرفي، وأن نمارس النقد لأفكارنا مهما بدت جميلة، وأن نقفه أن الحياة ليست كما نراها، بل هي كما يجب أن تكون.

لا مستقبل لأمة لا تقرأ.

في عالم الغرب، الناس في غرف الانتظار يقرأون، وفي صالات المطارات والقطارات يعيشون مع الكتب والصحف والمجلات، وفي حالات السفر والحضر يتعاملون مع عالم الأفكار حتى ولو كانوا صغارا، ونحن في المطاعم والمقاهي والمقايل نرفع أصواتنا، لأننا صرنا ظواهر صوتية، ونحسن الكلام، وقد نقول ما لا نعي، ونتكلم ونحن لا ندري ماذا نريد من كلامنا.

في عالم الغرب، الحكام لديهم مؤلفات تغزو الأسواق الفكرية، ولديهم حضور في عالم الفكر، ويتم كل ذلك بعد أن قرأوا المئات من الكتب والرسائل والمقالات العلمية، ولدينا حكام ليس باستطاعتهم تكوين جملة مفيدة في أية لغة عالمية، أو محلية، وهذه من عجائب الدنيا.

في عالم الغرب، المرأة تقرأ لطفلها حين الرضاعة، وما قبل النوم القصص من الكتب، وما زالت المرأة لدينا تغني لطفلها حين ترضعه، وما قبل النوم، فيصبح بهذا الطفل في الغرب باحثا وقارئا، ويصير الطفل عندنا حين يكبر ثرثارا في الشوارع.

في عالم الغرب، المدرسة تعلم الطفل منهجية القراءة منذ بداية نعومة أظفاره، ويتعلّم منها كيف يقرأ؟ وما الهدف من القراءة؟ والمدرسة في عالمنا المنكوب تعلم الطفل مبادئ الكتابة والقراءة من خلال عملية التلقين القاتلة، فهو يحفظ ما يقال له، ولهذا يعدّ الطفل في الدول المتقدمة للبحث، بينما الطفل لدينا يتخرج من مدرسته شبه أمي، ويعرف فقط أبجديات المعرفة فقط.

هل أولادنا، وهم بهذه المستويات يملكون أدوات التنافس في هذه اللحظات الحرجة؟ إنني لا أشك في أن المستقبل كل المستقبل لمن يقرأ أكثر، ولكني مع كل ذلك أؤكد بأن السر ليس في الكمية المقروءة، وإنما في المنهجية، فليس من الحكمة أن تكون في عالم اليوم حاطب ليل.

لا شك في أن الأهمية تكمن في القراءة الشاملة والواسعة، ولكن أن لا تكون الكمية علي حساب الكيف، وان تكون المنهجية هي التي تقود العملية، ولهذا كان من الحكمة الخيار في ماذا تقرأ؟

إن الوقت قصير، والحياة فرصة، وهي ليست مجالا للكسالي والعجزة، فلا تجلس مع هؤلاء في مجالسهم، ولا تتردد في المقاهي إلا للضرورة، فهي تسرق من حياتك أثمن ما تملك، فكم أنت تحتاج إلي الوقت الثمين لأجل أن تقرأ، فلا شك عندي في أنك مهم، ولكنك لن تكون كذلك بلا قراءة،

فكم رأيت في حياتي أذكياء خرجوا من الحياة سريعا، لأنهم تَرَكُوا لعقولهم الهوي، فكم أنت محتاج إلي أن تقرأ المهم في عالم الفكر، فاحذر من ان يضيع وقتك الثمين في الحديث عن اللغو ( والذين هم عن اللغو معرضون )، فهذا اللغو يجب أن يكون في سلة المهملات.

وكم كان القرآن صادقا وصريحا حين قال : (إقرأ وربك الأكرم) وكم كان الدكتور عبد الكريم بكار جريئا حين ذكر بأن أمة اقرأ باتت لا تقرأ، وكم كان موشي دايان موضوعيا حين قال : العرب لا يقرؤون، فما زالت الأمة لا تقرأ، وما زال البون شاسعا بيننا وبين القوم،

فهل من توبة صادقة من هذه الحماقة؟ وهل من أوبة من هذه الغثائية الفكرية؟ وهل من عزيمة من الأجيال الجديدة لأجل تجديد الحيوية في الشباب لنعيد للفكر دوره في صناعة الحياة من خلال القراءة النوعية والتجديدية؟

وصايا ثلاثة:

1- لا تقرأ لأجل القراءة، ولا تقرأ لأن الكتاب جميل فى الشكل، وكذلك لا تقرأ، لأن صاحب الكتاب معروف لديك، فاقرأ لأجل العلم والمعرفة.

2- اقرأ الجديد، والجديد ليس دائما مفيد، ولهذا ابحث فى عالم الكتب المفيد، وأن تحصل المفيد ليس سهلا، ولكن فى زمن العولمة، أصبح الوصول إلى مكامن المعرفة سهلا.

3- تحرَر العيش فى القفص، اقرأ بنهم، ولكن لا تخف من قراءة الأفكار الكبيرة، فالأفكار العظيمة تصنع الكبار، والأفكار الصغيرة تصنع المراهقين الفكريين، فعش كبيرا فى زمن المراهقة الفكرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق