الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

زئير الدجاج ودموع الحديد

زئير الدجاج ودموع الحديد

أحمد عمر

عندما انطلقت الثورات العربية، واستبشر بعضهم بانطلاق الثورة السورية، تصدَّرت صورة ساخرة لمدجنة في وسائل التواصل، وقتها كنت أسعى في مناكبها (وما زلت)، وليس معي عقد على نقد، ولا أبيض ولا أحمر، فأوصاني صديقي: 

"أكل العسل يقتضي بداية صناعة الشمع؛ فالظلام يسود المدن في الليل، وصناعة الشمع سهلة، لا تقتضي سوى قوالب شمع، أغلِيها على النار وأسكبها في مساكب على هيئة قناديل أو أشكال هندسية طريفة، فتُباع قطعاً للزينة أو مصابيح في ليل البعث الداجي".

وكان بيت شعر "ثوري" قد انتشر على ظهور السيارات، وابتذله السائقون وأحبوه، يقول: 

ما لي أرى الشمع يبكي في مواقده

من حرقة النار أم من فرقة العسل. ... 

ثم اشتكى الأهالي للسلطة، وقد ذُعروا من عبارات الحمد والتكبير، فمنعت السلطات الكتابات على السيارات العابدة، وفرضت غراماتٍ على سائقيها، حرصاً على روح الأمة من أن يصيبها الوهن، وعلى الشعور القومي من الضعف!

حلمتُ بأن يقودني الشمع إلى العسل، فضربت الأخماس بالأسداس فوجدتها تجارةً خاسرة؛ فشعبنا ليس مثل شعوب الغرب النارية، التي تُقدِّس النار، فلا كنيسة تخلو من الشمع، وهم لا يأكلون إلا على أضواء الشموع حتى في النهار، وبلادهم باردة لا شمس فيها. أما نحن فشعوبُ الفطرة، نخبز على الشمس ونسهر على ضوء القمر، فنفرتُ من تلك الصناعة. 

ثم اقترح علي الصديق أن أشتري دجاجة من جنس الكربوجة، وهي دجاجةٌ نادرة، صدق فيها قول العباس بن مرداس: 

بغاث الطير أكثرها فراخاً/ وأم الصقر مِقلات نزور.

هي دجاجة في إهاب صقر. وقد وُصفت بالكربوجة لأنها ممتلئة، وحلوة، وناعمة. وسلالتها نادرة ودماؤها ملكية، فليست مثل العمقي والقزمي والقرباطي. وديكها مصارع، وله في أميركا اللاتينية مباريات ومقامرات، وهو يقاتل ببراثنه لا بمنسره. *

غالباً ما يفوز في المصارعة من أول رفسة جودو وكاراتيه. أقنعني صديقي أني خلال ستة أشهر سأصير من رجال الأعمال "المريشين"، حتى أيقنت، بعد مرافعته، أنَّ الكربوجة طائر السيمرغ الأسطوري.

قصدتُ سوق الطيور، على طرف المدينة، في يوم من أيام الشهر المعلوم، حيث يجتمع باعة الحمام والطيور الغريبة، فوجدتها كالبورصة؛ أوز بري، وقطا، وغرانيق، وشحارير، وببغاوات تحكي وتشتم وتسب وتتظاهر باللغة السنسكريتية. قصدت أبا زهدي، وهو تاجر الكربوجة الوحيد في الديار كلها. كان أمامه أقفاص فيها دجاج كثير، وقفص كبير به ديك كربوج وأربع كربوجات حسناوات في عصمته.

كان الديك صقراً مهيباً، جليلاً، عارم الصدر، يشبه شرطة الحدود بين باكستان والهند، أولئك الفشخاء الذين يؤدون تحية العلم ويفتحون خطواتهم العسكرية فتحة ينطبق فيها الشرق على الغرب، فيسقطون من سعتها الفارطة على الأرض! ساومته على كربوجة بمائة وخمسين ليرة، فرازني من فوق لتحت، كأني من طبقة "الشودرا" الهندية وقد أتيت لخطبة ابنته البراهما.

وكأنه قرأ ما في خاطري، انتبهت أنه يشبه ديك الكربوج تمام الشبه؛ الخيلاء، الكبرياء، الفخر. قال: "الكربوجة أغلى عليَّ من بنتي. لا يوجد في سورية كلها سوى ثماني كربوجات وديك واحد أو اثنين. السعر: مئتا ليرة للدجاجة. ولأنك من لدن الفتّال وله شفاعة؛ سأبيعك بيضة".

قلت: بيضة!؟ قال: بيضة البلد. سألته عن سعرها؟ قال: "بخمسين ليرة؛ أي بثمن خمس أصفاط بيض من البيض الاشتراكي المناضل". ربما تفقس لك عن ديك سعدك.

قلت: موافق. هات بيضة ملقّحة، وأن تتكرم علينا بإحدى دجاجاتك الفاضلات لحضانتها. قال: "احضنها بفرّوج من فرّوجات السوق".

حملت البيضة في حضني حرصاً عليها كأنها بيضة ديناصور، وجريت إلى البيت، واشتريت دجاجة من دجاجات المداجن، وقفّة، ووضعتها في غرفتي، كأنها بلبل مغرّد أو كروان، ودسستُ تحتها البيضة الثمينة. لكن الدجاجة أبت حضانة بيضة "بنت حرام"، فأجبرتها، فكسرت البيضة الثمينة، فذبحتها وأكلتها.




*معني مَنْسِره

هو له كالمنقار لغير الجارح





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق