الجمعة، 4 أكتوبر 2013

بدوي (1/3)



بدوي (1/3)



د. سلمان بن فهد العودة

الجمعة 28 ذو القعدة 1434 الموافق 04 أكتوبر 2013

كتبت ذات تغريدة نقداً لزحف البادية على المدنية والتخلف على الحضارة، وحظيت تلك التغريدة بـ "هاشتاق - وسم" بعنوان: العودة يسب البدو! أكره العنصرية، وأعالج أدق تفاصيلها في ضميري، ولا أسامح خاصتي وأسرتي حين يقعون فيها، وكان مرادي الحديث عن تراجع الأداء العربي في الميدان السياسي والثقافي، وسطوة المال النفطي، لكن يبدو أني لم أوفق في التعبير!
هممت أن أقول : إنني بدوي باعتبار القبيلة، فالصحراء رحم أخرجت القبائل العربية وكما يقول عمر "البدو هم أصل العرب ومادة الإسلام".
بيد أن الاسم يطلق على سكان البادية، وهو مشتق على الأرجح من الظهور وعدم الخفاء، وليس من البدائية، وغالب عملهم الرعي، سواءً كانوا من العرب أو من الشعوب الأخرى كبدو الصين ومنغوليا وغيرها، وهم يتنقلون من مكان لآخر طلباً للكلأ والمرعى 
كما قال مجنون ليلى:
وخَبَّرْتُماني أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ لِلَيْلى إِذا ما الصَّيْفُ أَلْقَى المَرَاسيَا فهذِي شُهُورُ الصَّيْفِ عنَّا قد انْقَضَتْ فما للنَّوَى تَرْمِي بلَيْلَى المَرَامِيَا؟

ويمكن عمل مناظرة بين البادية والحاضرة؛ شريطة الوفاق وعدم التعاند أو العنصرية تجاه أي منهما، فالأمر كما يقول (بداح العنقري) فارس ثرمداء:
 البدو واللي بالقرى نازلينا *** كلن عطاه الله من هبة الريح! علماً أن القبيلة الواحدة يكون بعضها في البادية وبعضها في الحاضرة كجهينة ومزينة وحرب وعتيبة وعنزة وشمر وغيرها.
حياة البدو أقدم من حياة الحضر، وهم عادة يتجنبون الكماليات ويقتصرون على الضروريات، بينما الحضر يميلون إلى الترف، وخشونة البداوة تسبق وتقابل رقة الحضارة .. 
كما قال المتنبي :
حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلوبِ
ويتصف البدو عادة بالشجاعة والكرم والفطرية، فنفوسهم مهيأة لقبول ما يرد عليها من خير أو شر، وإذا تقبلت شيئاً صعب تغييرها عنه.
تعود الحضري على رفع سوره وإغلاق بابه، ونام على مهاد الراحة والدعة، واعتمد على الدوائر القائمة على حمايته، وإذا كانت الصحراء تحتاج إلى الشجاعة والحذر فإن المدينة تحتاج إلى الانضباط والروح الاجتماعية.
لا يجوز توظيف نصوص شرعية في هجاء البدو، ولعلها جاءت في سياق وظرف تاريخي معين، كانت فيه الهجرة واجبة على المسلمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فـ (ال) في قوله تعالى (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) هي للعهد أي الاعراب المعهودين آنذاك، وليست لجنس الأعراب فلا تعمهم، ولهذا قال سبحانه (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) .. الآية.
على أن لفظ (الأعراب) ليس متطابقاً فيما يظهر مع لفظ (البدو) حيث يوجد للبدو مضارب معروفة لا تتغير إلا لسبب، وهم قريبون من الحواضر، وحول مواضع المياه، وأملاكهم من الإبل والغنم وغيرها، وقد ورد أن الأنبياء رعوا الغنم، وأن السكينة في أهل الغنم، أما الأعراب فموغلون في الصحاري والقفار دائموا التنقل وملكهم غالباً من الإبل وقد ورد أن الفخر والخيلاء في أهل الإبل.
بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، وأن (الأعرابية) لم تعد وصفاً مرتبطاً بجغرافيا في ظل التحولات العالمية، بل هي (أخلاق)، فمن كان جافياً مستبداً اقصائياً اعتبر أعرابياً ولو كان في أبهى قصور المدينة، ومن كان لطيفاً مهذباً لم يكن كذلك أياً كان موقعه.
ويعزز هذا ورود مصدر (التعرّب) أي : التحول إلى أعرابي، والفعل (تعرّب) أي : صار أعرابياً، فهي إذاً صفات متنقلة يمكن للمرء أن ينأى عنها، أو ينتقل إليها..

كما لا يجوز توظيف نصوص ذم الترف والمترفين ووجود الرهط المفسدين في ذم المدينة وأهلها. وإن كان الانقطاع في البادية مدعاة للغفلة والجفاء في جاري العادة، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ».
رواه أحمد عن أبي هريرة وهو حديث حسن.
في عصر العولمة أصبحت البوادي موصولة بالحاضرة، قادرة على اقتباس الخير والدين والأخلاق، وسالمة من التداخل، وأصبحت القرى والمدن الصغيرة منثورة على وجه الخريطة الصحراوية.
وهذا الوصف ليس أزلياً فابن المدينة إذا تركها إلى الصحراء قيل عنه: قد تعرب، أي أصبح أعرابياً، وابن الصحراء إذا سكن المدينة لم يعد أعرابياً ولا بدوياً.
البادية مرتبطة بالمدينة في حاجياتها، والمدينة مرتبطة بالصحراء في نزهتها ورفاهيتها وحطبها وربيعها وغنمها.
(الكمأة) من نبات الأرض وهي هدية جميلة يتبادلها الأغنياء.
النخلة عند الفلاح، والبعير عند البدوي، وهما يتشاطران الأهمية والرمزية.
أهل الوبر (الإبل)، وأهل المدر (البناء)، يتشاركون في القيم والتاريخ والجغرافيا والتحديات والمستقبل.
لن تستطيع الصحراء العيش دون مدد من المدينة، ولن تستطيع المدينة التواصل مع نظيراتها دون عبور الصحراء.
كان (زاهر الأشجعي) رجلاً من البادية صديقاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُهْدِى لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ زَاهِراً بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ». وَكَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلاً دَمِيماً فَأَتَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلاَ يُبْصِرُهُ فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِى مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ لاَ يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ يَشْتَرِى الْعَبْدَ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذاً وَاللَّهِ تَجِدَنِى كَاسِداً. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ». أَوْ قَالَ « لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ ». رواه أحمد، والترمذي في الشمائل، وأبو يعلى، والبزار، وهو صحيح الإسناد.
على أن اللفظ يطلق على أهل المدن أيضاً عند أهل الحجاز والشام ومصر وغيرها، فهم يسمون من جاء من وسط الجزيرة بدوياً، ولو كان مزارعاً أو تاجراً، كما كانوا يسمون (العقيلات) بالبدو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق