روائع الرسائل ..
روائع رسائل الخلافة الأموية
أرسل الخلفاء الأمويون الرسائل إلى أصحاب رسول الله ؛ إجلالاً لهم وتقديرًا، ثم راسلوا التابعين والولاة، وكانت رسائل عمر بن عبد العزيز من أروع الرسائل في هذا العهد.
رسالة معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو بن العاص
رسالة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو بن العاص :
"أمَّا بعد، فإنَّ الرشيد من رشد عن العجلة، وإنَّ الخائب من خاب عن الأناة[1]، وإنَّ المتثبِّت مصيب أو كاد يكون مصيبًا، وإنَّ العَجِلَ مخطئ أو كاد يكون مخطئًا، ومَن لا ينفعه الرفق يضرُّه الخرق[2]، ومَن لا تنفعه التجارِب لا يبلغ المعالي، ولا يبلغ رجل مبلغ الرأي حتى يغلب صبرُه شهوتَه وحلمُه غضبَه"[3].
رسالة مروان بن الحكم إلى النعمان بن بشير
رسالة أمير المؤمنين مروان بن الحكم إلى النعمان بن بَشِير ، يخطب لابنه عبد الملك بن مروان أُمَّ أبان بنت النعمان، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من مروان بن الحكم إلى النعمان بن بشير، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإن الله ذو الجلال والإكرام، والعظمة والسلطان، قد خصكم معاشر الأنصار بنُصرة دينه، وإعزاز نبيِّه ، وقد جعلك الله منهم في البيت العميم[4] والفرع القديم، وقد دعاني ذلك إلى اختيار مصاهرتك وإيثارك على الأكفاء مِن وَلَدِ أَبِي؛ وقد رأيتُ أنْ أُزَوِّجَ ابني عبد الملك بن مروان ابنتك أُمَّ أَبَانٍ بنت النعمان؛ وقد جعلتُ صداقها ما نطق به لسانك، وترنَّمت به شفتاك، وبلغه مُنَاك، وحكمتَ به في بيت المال قِبَلَكَ.
فلمَّا قرأ النعمان كتابه كتب إليه هذه الرسالة، قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم. من النعمان بن بشير إلى مروان بن الحكم، بدأت باسمي سُنَّةً من رسول الله ؛ وذلك لأني سمعت رسول الله يقول: "إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى أَحَدٍ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ". أمَّا بعدُ: فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ذكرتَه فيه مِن محبَّتِنا، أمَّا إنْ تكن صادقًا فغُنْمًا أصبت، وبحظِّك أخذت؛ لأنَّا أناسٌ جعل الله حبَّنا إيمانًا، وبُغْضَنَا نفاقًا، وأمَّا ما أطنبت فيه من ذكر شرفنا وقديم سلفنا، ففي مدح الله لنا وذِكْرِه إيَّانا في كتابه المنزَّل وقرآنه المفصَّل على نبيِّه ما أغنانا عن مدح أحدٍ من الناس.
وأمَّا ما ذكرتَ من أنك آثرتني بابنك عبد الملك بن مروان على الأكفاء من ولد أبيك فحظِّي منك مردودٌ عليهم موفرٌ لهم، غير مُشَاحٍّ[5] لهم فيه، ولا مُنَازِعٍ لهم عليه. وأمَّا ما ذكرتَ أنك جعلت صداقها ما نطق به لساني وترنَّمت به شفتاي وبلغه مُنَايَ، وحكمت به في بيت المال قِبَلِي، فقد أصبح بحمد الله -لو أنصفت- حظِّي في بيت المال أوفر من حظِّك، وسهمي فيه أجزل من سهمك، وأنا القائل:
فَلَو أَنَّ نَفسِيَ طاوَعَتني لأَصبَحَت *** لهـا حَفَـدٌ مِمَّا يُعَـدُّ كَثِيرُ
وَلَكِنَّـها نَفـسٌ عَلَيَّ كَريمَـةٌ *** عَيوفٌ[6] لأصهارِ اللِئامِ قَذورُ
لَنا في بَني العَنقـاءِ وَاِبني مُحَرِّق *** مُصاهَرَةٌ يُسنى بِها وَمُهـورُ
وَفي آلِ عِمرانٍ وَعَمرو بِن عامِرٍ *** مَعاقِلُ لَم يَدنَس لَهُنَّ حُجورُ[7]
رسالة عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف
رسالة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى عامله على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي؛ يُعنِّفه ويوبِّخه على تجرُّئه على أنس بن مالك :
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف، أمَّا بعدُ: فإنك عبد طمت[8] به الأمور فسَمَوْتَ فيها، وعَدَوْتَ طورك، وجاوزتَ قدرك، وركبت داهية أدًّا[9]، وأردت أن تَبُورَنِي[10]، فإنْ سوَّغْتُكَها[11]مضيتَ قُدُمًا، وإنْ لم أسوِّغْكها رجعتَ القهقرى، فلعنك الله عبدًا أخفش[12] العينين، منقوض الجاعرتين[13]، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل[14]، والله لأغمزنَّك[15] غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وَثَبْتَ على الرجل من أصحاب رسول الله بين أظهُرِنَا، فلم تَقْبَلْ له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته جراءة منك على الربِّ عزَّ وعلا، واستخفافًا منك بالعهد، والله لو أنَّ اليهود والنصارى رَأَتْ رجلاً خدم عزير بن عزري وعيسى بن مريم لعظَّمته وشرَّفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله ، خدمه ثماني سنين، يُطلعه على سرِّه، ويُشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقيَّة من بقايا أصحابه، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فكن أطوع له من خُفِّه ونَعْلِهِ، وإلا أتاك منِّي سهم مُثْكَل بحتف قاضٍ، و{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67][16].
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى عماله
أرسل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى عُمَّاله يقول:
أمَّا بعد، فإن الله أكرم بالإسلام أهله، وشرَّفهم وأعزَّهم، وضرب الذِّلة والصَّغَار على من خالفهم، وجعلهم خير أُمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاس، فلا تُوَلِّيُنَّ أمور المسلمين أحدًا من أهل ذمَّتهم وخَرَاجهم؛ فتتبسط عليهم أيديهم وألسنتهم، فتذلَّهم بعد أنْ أعزَّهم الله، وتُهِينَهم بعد أنْ أكرمهم الله تعالى، وتعرِّضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يُؤْمَن غشُّهم إيَّاهم، فإنَّ الله يقول: {لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]، {لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، والسلام[17].
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى ولي العهد من بعده
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر إلى يزيد بن عبد الملك، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إلا هو، أمَّا بعد: فإنِّي كتبتُ وأنا دَنِفٌ[18] من وجعي، وقد علمتُ أنِّي مسئول عمَّا وُلِّيتُ، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولستُ أستطيع أنْ أُخْفِيَ عليه من عملي شيئًا، فإنْ رضي عنِّي فقد أفلحتُ ونجوتُ من الهوان الطويل، وإنْ سخط عليَّ فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أنْ يُجيرني من النار برحمته، وأنْ يَمُنَّ عليَّ برِضوانه والجنة، فعليك بتقوى الله، الرعيةَ الرعيةَ، فإنك لن تبقى بعدي إلاَّ قليلاً، والسلام[19].
رسالة مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد
رسالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية إلى الغَمْرِ بن يزيد بن عبد الملك بعد مقتل أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
أمَّا بعدُ، فإنَّ هذه الخلافة من الله على مناهج نبوَّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلَّدهم، يُعِزُّهم ويُعِزُّ مَن يُعِزُّهم، والحَيْنُ[20] على مَنْ ناوأهم[21] فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقِّها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين، وكان أهل الشام أحسن خلقه فيه طاعة، وأذبَّه[22] عن حُرُمِه، وأوفاه بعهده، وأشدَّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحقِّ، فاستدرَّت نعمة الله عليهم، قد عُمِّر بهم الإسلام، وكُبِتَ بهم الشرك وأهله وقد نكثوا[23] أمر الله، وحاولوا نَكْثَ العهود، وقام بذلك من أشعل ضِرامها[24]، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإنَّ دمه غير ضائع، وإنْ سَكَنَتْ بهم الفتنة، وَالْتَأَمَت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردَّ له.
فاكتب بحالك فيما أَبْرَمُوا وما ترى؛ فإني مطرق[25] إلى أن أرى غِيَرًا[26] فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة[27]، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قَدِمْتُ بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مُتْرَعَة ممتلئة لو يجدون مَنْزِعًا، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجَّل؛ ولم أشبه محمدًا ولا مروان -غير أن رأيت غِيَرًا- إن لم أشمِّر للقدريَّة إزاري وأضربهم بسيفي جارحًا وطاعنًا، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلاَّ لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تَهِنْ عن ثأرك بأخيك، فإنَّ الله جارُك وكافيك، وكفى بالله طالبًا ونصيرًا[28].
رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب
أرسل عبد الحميد الكاتب[29] رسالة جامعة إلى الكُتَّاب يقول:
أمَّا بعدُ، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفَّقكم وأرشدكم، فإنَّ الله جعل الناسَ -بعدَ الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعدِ الملوك المكرمين- أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواءً، وصرَّفَهُم في صُنُوف الصناعات، وضُرُوب المحاوَلات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشرَ الكُتَّاب في أشرف الجهات أهلَ الأدب والمروءات، والعلم والرواية.
بِكُمْ تنتظم للخلافة محاسنُها، وتستقيم أمورُها، وبنصحائكم يُصلحُ الله للخلق سلطانَهم وتَعْمُر بلدانهم. لا يستغني الملكُ عنكم، ولا يُوجَدُ كافٍ إلا منكم؛ فَمَوْقِعُكُمْ من الملوك مَوْقِعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يُبْصِرون، وألسنتهم التي بها يَنْطِقون، وأيديهم التي بها يَبْطِشُون. فأمتعكم الله بما خصَّكم من فضل صناعتكم، ولا نَزَع عنكم ما أضفاه من النِّعمة عليكم.
وليس أحدٌ من أهل الصناعات كلها أحوجَ إلى اجتماع خِلال الخير المحمودة، وخِصال الفَضْل المذكورة المعدودة - منكم. أيُّها الكُتَّاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإنَّ الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يَثِقُ به في مُهِمَّات أموره أنْ يكون حليمًا في موضع الحلم، فَهِيمًا في موضع الحُكْمِ، مِقْدَامًا في موضع الإقدام، مُحْجِمًا في موضع الإحجام، مُؤْثِرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كَتُومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعَها، والطوارق[30] في أماكنها، قد نظر في كلِّ فنٍّ من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يُحْكِمْهُ أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يَعْرِف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجرِبته ما يَرِدُ عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيُعِدُّ لكلِّ أمر عُدَّتَه وعَتَاده، ويُهَيِّئ لكلِّ وجه هيئته وعادته.
فتنافسوا يا معشرَ الكُتَّاب في صُنُوف الآداب، وتفقَّهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله والفرائض، ثم العربيَّة فإنَّها ثِقَاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخطَّ فإنَّه حلية كتبكم، وارْوُوا الأشعار واعْرِفوا غريبها ومعانيها، وأيَّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإنَّ ذلك مُعِينٌ لكم على ما تَسْمُو إليه هِمَمُكم.
وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنِيِّهَا ودَنِيِّهَا، وسَفْسَاف[31] الأمور ومَحَاقرها؛ فإنَّها مَذَلَّة للرقاب، مَفْسَدَة للكُتَّاب. ونزِّهوا صِنَاعَتكم عن الدناءة، وارْبَئُوا[32] بأنفسكم عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات. وإيَّاكم والْكِبْرَ والصَّلَف[33] والعظمة؛ فإنها عداوة مُجْتَلَبَة من غير إِحْنَة[34]. وتحابُّوا في الله في صناعتكم، وتَوَاصَوْا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنُّبْل من سَلَفِكم. وإن نبا[35] الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسُوه حتى يرجعَ إليه حالُه ويثوب إليه أمرُه، وإن أقعد أحدًا منكم الْكِبَرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه فزُورُوه وعظِّموه وشاوِرُوه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أَحْفَظَ منه على ولده وأخيه؛ فإنْ عَرَضَتْ في الشغل مَحْمَدَة فلا يصرفها إلاَّ إلى صاحبه، وإن عرضت مَذَمَّة فليحملها هو من دونه.
وليحذر السَّقْطة والزلَّة والملل عند تغيُّر الحال؛ فإنَّ العيب إليكم معشر الكُتَّاب أسرعُ منه إلى القرَّاء، وهو لكم أفسد منه لهم. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه مَن يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقِّه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشُكْرِه، واحتماله، وخيره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره ما هو جزاء لِحَقِّهِ، ويصدِّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك -وفَّقكم الله من أنفسكم- في حالة الرخاء والشدَّة، والحرمان والمواساة، والإحسان، والسراء والضراء، فنعمت الشيمة هذه لِمَن وُسِمَ بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. وإذا وُلِّيَ الرجلُ منكم أو صُيِّرَ إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله ، وليُؤْثِرْ طاعته، وليكن مع الضعيف رفيقًا وللمظلوم منصفًا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبُّهم إليه أرفقهم بعياله.
ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مُكْرِمًا، وللفيء موفِّرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألِّفًا، وعن أذاهم متخلِّفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سِجِلاَّت خَرَاجه واستقضاء حقوقه رفيقًا.
وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه، فإذا عَرَفَ حَسَنَها وقبيحها أعانه على ما يُوَافقه من الحَسَنِ، واحتال على صرفه عمَّا يهواه من القُبْحِ بألطف حيلة وأجمل وسيلة، وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت رَمُوحًا[36] لم يَهِجْهَا[37] إذا ركبها، وإن كانت شَبُوبًا[38] اتَّقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودًا توقَّاها من ناحية رأسها، وإن كانت حَرُونًا[39] قَمَعَ برفق هواها في طرقها، فإن استمرَّت عَطَفَها يَسِيرًا فَيَسْلُسُ له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائلُ لمن ساس الناسَ وعاملهم وجرَّبهم وداخلهم.
والكاتب -لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يُجَاوِره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سَطْوَته- أَوْلَى بالرفق لصاحبه، ومداراته وتقويم أَوَدِه[40] من سائس البهيمة التي لا تُحِير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلاَّ بقدر ما يُصَيِّرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألاَ فأَمْعِنوا -رحمكم الله- في النظر، واعْمَلُوا ما أمكنكم فيه من الرَّوِيَّة والفِكْرِ، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النَّبْوَةَ والاستثقالَ والجَفْوَة، ويُصَيَّر منكم إلى الموافقة، وتُصَيَّرُوا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله[41].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق