لن تقدروا على تصفية جماعة الإخوان بـشماعة
"مكافحة الإرهاب"
عمر علي البدوي
كاتب سعودي
كيف أصبحت جماعة الإخوان المسلمين فجأة: جماعة إرهابية ؟ رئيس مصر المنتخب الدكتور محمد مرسي القادم من حزب الحرية والعدالة الذي تعود جذوره إلى هذه الجماعة يقبع في سجن قسري، وعشرات الأعضاء المنتمين إلى الجماعة رهن الاعتقال التعسفي ويتعرضون لمحاكمات عسكرية قليلاً ما تراعي ظروف العدالة والإنصاف .
ما يزيد على العامين فقط فصلت بين انتقالها من الجماعة المحظورة، إلى الجماعة المغدورة، عامان فقط عاشت فيها الجماعة أفضل فرص الانتقال من ضيقها الأيديولوجي إلى انسياب الأخلاق الديمقراطية في تكويناتها العميقة وتفكيكها في سياق تحديثها وتطويرها باتجاه المدنية والسلمية والتحرر من الانغلاق التنظيمي القاصر .
القصة باختصار: انتخابات نزيهة لأول مرة في تاريخ مصر .. رئيس إخواني منتخب بجدارة .. أداء رئاسي متواضع من مرسي .. انقلاب عسكري فجّ .. ثم توظيف أكثر فجاجة لمفهوم مكافحة الإرهاب لممارسة أشد أنواع الإقصاء والتصفية السياسية لكل معارضي الانقلاب وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين .
حصل انقلاب عسكري كامل الأركان على شرعية الرئيس مرسي، وحتى يجد الفريق أول عبد الفتاح السيسي وطغمته الانقلابية ذريعة لفعلته، بدأ في مغازلة المخاوف التقليدية للمجتمع الدولي وتوظيف كلمة السر التي استسلمت لها الشعوب العربية لعقد كامل من التضليل والخداع، إنها الحرب على الإرهاب .
ثمة ممارسات وجماعات وأعمال تدميرية تفجيرية يصلح أن تطلق عليها تهمة الإرهاب، وتستحق وقفة قانونية وأمنية حاسمة، وهذا مما لم يعد يختلف عليه أحد، ولكن استخدام الشماعة نفسها لتبرير نفوذ سياسي يبحث عن أرض ليستقر عليها ونواة صلبة تغذيه بمبررات البقاء، فهو عمل باطل لا بد وأن ينكشف في فلتات السياسات وثنايا السقطات .
ليست المرة الأولى التي يحدث فيها الاستخدام السيئ للمصطلح، إذ تقوم بعض الحكومات العربية بوصم معارضيها بالإرهابيين لتسهيل عملية ارتكاب مجازر لا تقبلها الإنسانية وتجنب الإدانة الدولية، فخلال ثورة 17 فبراير في ليبيا قال معمر القذافي أن القاعدة وراء الاضطرابات في ليبيا، وخلال الأزمة السورية التي راح ضحيتها أكثر من 100 ألف قتيل، أعلن بشار الأسد أنه في مواجهة مع مجموعات إرهابية، وفي ديسمبر 2011 دعا بشار الأسد الشعب السوري للاحتشاد والاعتصام لإعلان الحرب على الإرهاب
أما في 26 يوليو 2013، فقد دعا الفريق أول عبد الفتاح السيسي الشعب المصري للتظاهر بميدان التحرير لتفويض الجيش و الشرطة للقضاء على الإرهاب، وفي فجر اليوم التالي قامت الشرطة بارتكاب مذبحة راح ضحيتها كثير من المدنيين السلميين
لم يحدث هذا بعيداً عن البذور الأولى لهذا المصطلح الملتبس، الذي ألصق بطريقة ظالمة بكل ما هو إسلامي، فأصبحت الحرب المعلنة على الإرهاب كأنها حرب خفية على الإسلام، حتى سقط هذا المفهوم من اعتبار المسلمين، واستخدمته القوى الدولية العظمى في "شرعنة" غطرستها ومظالمها على الشعوب الضعيفة، واستخدم بطريقة غير موضوعية لتصنيف الجماعات التي تنتصر لحقوقها القومية والدينية العادلة أحياناً، بينما تم تبرئة دول الاحتلال والاستغلال منه رغم تصرفاتها التي تتجاوز الإرهاب الجزئي إلى جرائم الحرب على الإنسانية .
* مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان:
واحدة من الصعوبات الرئيسية المتمثلة في تنفيذ فعالية تدابير مكافحة الإرهاب هو تضاؤل الحريات المدنية والخصوصية الفردية التي غالباً ما تنتهك هذه الحريات بسبب مكافحة الإرهاب، مثل كاميرات لندن التي تراقب المدينة طيلة الـ 24 ساعة، مما أثار استهجان الأفراد والمؤسسات على اعتبار ذلك انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وخصوصيته .
ولأن دول السبق الديمقراطي تحترم الإنسان، فإنها تتحايل قانونياً ودستورياً لإجراء تعديلات طفيفة لا ترقى إلى المساس بكرامات شعوبها وحقوقهم، وفي بلاد الزيف الديمقراطي العربية لا كرامة للإنسان ولا صوت يعلو على مطامع الطغاة والمستبدين، فإن حقوق الإنسان آخر ما يفكر فيه المستبد المتغلب.
وهذا عين ما جرى في عزل الرئيس مرسي وتعطيل العمل بالدستور وحل المجالس الشورية ورمي اختيارات الناس عرض الحائط، وأكثر من ذلك بفض دموي لاعتصام سلمي وزج الإخوان في السجون وإغلاق القنوات الداعمة لرافضي الانقلاب وصور شتى من القسوة في الفصال النكد بين أطراف المجتمع.
ثم بدأت وسائط الإعلام الخاصة والرسمية في ترويج الشعار الجديد للمرحلة القادمة، إنه الحرب على الإرهاب، فجأة تحول كل شيء إلى عرضة للتهمة بهذا الجرم الذي نسج سريعاً لاستعداء الخصوم السياسيين، وحافظ الإخوان على تمسكهم بالخيار السلمي، وتجددت المواجهة الصريحة بين الدولة الأمنية والشعب الأعزل، واستقطبت طاولات الحوار التلفزيوني المستأجرة أكثر الناس قدرة على قلب الحقائق وتزييف الأحداث في معرض كنس آثار ثورة يناير الحقيقية واستعادة النظام القديم .
ونشطت جماعات تكفيرية متشددة لم يعنّ لها الظهور إلا في هذه اللحظة الغريبة، ولاحت في المشهد محاولات اغتيال فاشلة، واستصدار بيانات إنترنتية تتوعد وتهدد، كل شيء بدأ يذكرنا بشيء لم ينطوي بعد من الذاكرة العربية، وظهر وكأن الدولة بجيشها المدجج منشغلة في حرب ضروس مع أعداء الوطن من الإرهابيين وانغمست في بحر هذه الضجة المريبة كل الاستحقاقات الثورية لبناء وطن ديمقراطي حر يخضع لمؤسسات نزيهة ومستقيمة .
* هل من حالات مشابهة في التاريخ؟
خلال حقبة الثورة الفرنسية الممتدة بين الأعوام 1789 إلى 1799، والتي يصفها المؤرخون بـ"فترة الرعب"، كان الهرج والمرج ديدن تلك الفترة إلى درجة وصف إرهاب تلك الفترة بـ"الإرهاب الممول من قبل الدولة"، فلم يطل الهلع والرعب جموع الشعب الفرنسي فحسب، بل طال الرعب الشريحة الارستقراطية الأوروبية عموماً .
وفي ليلة رأس السنة عام 2011، وقعت حادثة تفجير كنيسة القديسين في مصر ويعتقد بتورط وزير الداخلية المصري آنذاك حبيب العادلي في الحادث لإعطاء مبرر لتمديد قانون الطوارئ وممارسة المزيد من أعمال القمع ضد المعارضة لتسهيل مخطط توريث الحكم في مصر لجمال مبارك .
* هل مارست الجماعة إرهاباً من قبل؟
تواجه جماعة الإخوان المسلمين تهمة احتضان الإرهاب وبذوره الأولية، وذلك في أدبياتها القطبية التي رسمت الخطوط الأولى للمفاصلة بين الفكرة الإسلامية الحركية والأنظمة القائمة، وأسرف الخطاب القطبي في إذكاء الخلاف بوصم المجتمعات المغلوب على أمرها بالجاهلية الأولى مما يستدعي هبة إسلامية جذرية توظف كل إمكاناتها العنفية .
وبالنظر إلى أسرار بروز هذا الخطاب الراديكالي وتبنّي أدبياته من قطاع عريض وواسع من أبناء الحركة الإسلامية؛ لا يمكن فصل تاريخية ذلك عن ارتباطه بمرحلة المحنة الناصرية التي عصفت بالإسلاميين ودفعتهم إلى السجون والإعدامات والمطاردات، مما أضرم الخلاف بينهما إلى أبعد حدود الصراع الصفري.
وبقدوم السادات بدأت أسارير مرحلة جديدة من التوسط تبرز في الساحة، وقدمت الحركة الإسلامية في سبيل ذلك كثيراً من التنازلات والمراجعات التي جاءت استجابة لمرونة الحكومة وتسهيلاتها السياسية، ولكن تلك المراجعات لم تسلم من التشكيك وتهمة البراغماتية التي تليق بحزب سياسي ناضج يتطور بما يتوافق ويلائم محيطه السياسي.
وبدأت الحركة الإسلامية تستجيب لشروط العمل السياسي الديمقراطي كخيار استراتيجي للوصول إلى السلطة وممارسة طموحها الطبيعي، وظهر وكأن الجماعة اقتنعت نهائياً باعتزال الخيار العنفي وقناعتها بعدم جدواه للوصول إلى غاياتها النهائية .
مع وصول رئيس الصدفة مبارك تمكن من إدارة خيوط اللعبة مع الإسلاميين بمراوغة فائقة، ولكن في أكثر حالاته سوءاً لم يدفعهم للعنف بسياسات إقصائية فجة، ولاحقت التهمة المزجاة الإسلاميين، وجاء ذلك ضمن صفقة تحت الطاولة لاستبقاء نظام العسكر مع الحفاظ على بيضة الجماعة رغم سجلها النضالي إلى جانب بقية القوى والتيارات الوطنية النزيهة .
واليوم تأتي سياسات الانقلاب الصريح بأكثر أشكال الإقصاء وضوحاً مما يغري الجماعات الإسلامية بالركون إلى خياراتهم العنفية القديمة بعد تخليهم عنها منذ آماد طويلة، عمل انقلاب السيسي على إعادة إنتاج النظام الناصري المتضخم بما يزيح المتنافسين عن الساحة ويمنح العسكر من جديد حق التفرد بالسلطة لحماية مكاسبهم وامتيازاتهم وجعل مصر تراوح من جديد في مربعها السياسي التقليدي في حسابات المنطقة ورهانات المجتمع الدولي التي تبخس المصريين حقوقهم في الدسترة والكرامة والقانون.
وعبر التاريخ كان الإقصاء يدفع إلى الإرهاب، تماماً كما حصل في حرب العشرية السوداء في الجزائر، وهو صراع مسلح قام بين النظام الجزائري القائم وفصائل متعددة تتبنى أفكار موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ، بدأ الصراع في يناير عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية لعام 1991 في الجزائر، والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً مؤكداً، مما حدا بالجيش الجزائري التدخل لإلغاء الانتخابات التشريعية في البلاد مخافة فوز الإسلاميين فيها.
ورغم إصرار الإسلاميين في مصر على السلمية، إلا أن سلطة الانقلاب تحاول دفعهم من جديد إلى العنف بعد تضييق أملهم في فرص الديمقراطية وتيئيسهم من أساليبها السلمية والمدنية وهذا ما سيعود بالسوء على المجتمع برمته، لأن الديمقراطية في شقها الفلسفي العميق لديها استطاعة متناهية على تقليم أظافر الراديكاليين وإدماجهم في أجواء التشارك السياسي التنافسي على أساس التعددية والاحتماء إلى مشتركات وطنية متينة تتيح للجميع تسجيل حضوره القاعدي والسلطوي دون دماء أو عداء .
* الإرهاب الحقيقي ينتعش:
في ظل هذه الأجواء المتوترة والاستقطابات الحادة بين الإسلاميين وخصومهم بما يحقق الانتفاع السهل لمجاميع الفلول والأنظمة القديمة البوليسية منها والعسكرية، بالإضافة إلى العسكرة المقيتة التي تعرضت لها الثورة السورية والاحتراب الطائفي الشائن على أراضي الشام العتيقة، والحرب الضروس العمياء على التيارات الإسلامية السياسية التي تصارع على البقاء بالحد الأدنى من اعتراف القوى المتغلبة في البلاد العربية والأدوات المتنفذة الخفية في جسد المنطقة ،يتنفس التيار التكفيري الصعداء بعد سقوط الرهان على خيار التغيير الديمقراطي من يد التيارات الإسلامية المعتدلة.
وكأن التيار المتشدد يضحك غروراً بنجاح فكرته التي نادى بها في الأصقاع وأسمع بها آذان رفقاء المنطلق وفرقاء الوسيلة بفساد المنطق الديمقراطي وخيانة الأنظمة القائمة لشعوبها وإصرارها على حرمان الفكرة الإسلامية وأحزابها ومناصريها من الوصول إلى السلطة، ها هو التيار المتشدد يستغل هذه الظروف ويتمدد من جديد في المنطقة ويستزرع أفكاره في عقول أبناء الإسلاميين الذاهلة من لحظة السقوط الإخواني الذريع .
* أين الخطأ الحقيقي؟
ربما أخطأت جماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكمها القصيرة للبلاد المصرية، ولكن يبقى هذا في حدود الخطأ السياسي الذي يعالج بالأدوات الدستورية والديمقراطية السلمية والقانونية، وعلى القوى المتنفذة والمعاونة لها أن تتراجع عن الاستخدام السيئ للمفهوم الإرهاب، وتعود إلى القناعة بحتمية التشارك السياسي والتنافس التعددي دون استعداء أو توظيف القوى القابضة على أدوات العنف داخل الدولة وأن تيارات الإسلام المعتدل فرصة إستراتيجية للتواصل والتعاون وإنماء البلاد .
وسيبقى التيار الإسلامي السياسي بقواه وحركاته وأشكاله المختلفة موجوداً في الواقع السياسي العربي بالنظر إلى جموعه المناصرة وأتباعه، بدليل فوزه بالاستحقاقات الانتخابية العديدة والجموع الغفيرة في مليونياته الحقيقية، مما يستلزم التعامل معه بواقعية واحترام دون تعالي طبقي على الشعوب واختياراتها أو كراهية عمياء تجاه كل ما هو إسلامي .
وعلينا أن نقتنع مجدداً بنجاعة الخيار الديمقراطي في تأمين البلاد من الاحتراب الأهلي والانشقاق الداخلي، وهو الحل الحقيقي لتخفيف حدة التيارات الإسلامية المتشددة وإقناعها بالتزام الأدوات السلمية في العمل السياسي وتحقيق طموحاتها المشروعة، والعكس كذلك إذ يتسبب الإقصاء والعداء لهم بنتائج وخيمة وإرغامهم على استخدام خياراتهم التدميرية بجنون .
ولن تجد الجيوش العربية موقعاً حقيقاً لها مثل حماية حدود البلاد وتطوير قدراتها بما يحقق لها المنافسة مع القوى العسكرية الصاعدة في المنطقة، والكف عن التدخل في الشأن الداخلي بما يشعل الانقسام أو الخضوع لأجندة القوى الدولية التي تبتزها بالمعونات المالية والحماية الأممية، وستنال لحظة عودتها إلى ثكناتها مزيداً من التقدير والاحترام .
ومن العدل أن يُحاكم كل من حرّض على العنف أو مارسه من جميع الأطراف وأن يلقى جزاءه وعقابه لقاء ما اقترفه في حق الشعب المصري العظيم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق