الخميس، 14 مايو 2015

أهمية القدس عند المسلمين


أهمية القدس عند المسلمين


الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من بفضله تتنزل البركات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، ثم أما بعد..

فإنه لشرف لي أن أقدم هذه السلسلة بعنوان:
"مواقف صلاح الدين في القدس.. دلالات حضارية في العفو والتسامح" حيث إن القدس تكتسب أهمية خاصة من الجوانب التالية:


1. أن الله باركها في جميع الكتب السماوية ولدى أنبياء الله جميعا، وقد ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم مرات عديدة نصا وإشارة.

2. أن فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى سيد الثقلين سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خلَّد الله تعالى ذكرها في القرآن الكريم بقوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" (الإسراء: من الآية1).

3. أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعا في المسجد الأقصى لما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي فَالْتَفَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ"[1]

وقال أحمد شوقي:
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم

لما التقيت بهم التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم


والحق أن هذه اللحظة التاريخية صيَّرت القدس وفلسطين أرضا إسلامية إلى يوم الدين.

4. ظل حلما للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحرر القدس من الرومان، وسيَّر لها أبو بكر جيوشا أربعة، فلما استعصت عليهم أقسم قائلا: "والذي نفسي بيده لأُنسين الرومان وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، ثم أمره أن يسير بجيشه إلى الشام، وتم في عهد عمر بن الخطاب تحرير القدس، واستلم مفتاحها بنفسه، وأظهر سماحة نادرة صارت مثالا يقتدى ويحتذى مع نصارى القدس وكنيسة القيامة.

5. ظلت القدس حرة أبية تفتح أبوابها لكل أصحاب الديانات في تعايش آمن وحقوق محفوظة. ومرت قرون حتى طغى الحقد الأسود على الكنيسة في أوربا وتحرك البابا "أوربان"[2] الثاني في 27/11/1095م فأشعل فتنة وحرك جيوشا جرارة إلى القدس، فارتكبت من الحماقات والمجازر والمآسي، مما صار مثالا صارخا في العداء المحكم والنفوس المريضة نحو كل خير؛ ولكن الله تعالى يختار للأرض المباركة - مهما طال الظلم وعشش وتربع وانتفش- من يستحق هذا الشرف الكبير لتحريرها؛ فاختار للقدس نور الدين محمود وعماد الدين زنكي، وتُوِّج ذلك بالبطل صلاح الدين الذي جعل الله تحرير القدس على يديه بفضله تعالى.

6. تعرضت القدس لاحتلال جديد على يد المغول حيث كانت أعينهم على القدس بعد احتلالهم العراق سنة 656 هـ، ولكن الله تعالى قيَّض لها العز بن عبد السلام سلطان العلماء وسيف الدين قطز لتعود القدس وأرض الشام إلى المسلمين سنة 658 هـ.


7. جاء الصهاينة إلى القدس وفلسطن بقرار ظالم، ومساندة آثمة من الدول الكبرى، وأُعلنت دولة محتلة سنة 1948م، وفي نكسة 1967م كان أول ما سطا عليه الصهاينة القدس، واليوم يقوم الصهاينة بتهويد القدس تقنينا وإعلاما وتزييفا وتحريفا للتاريخ الإسلامي في القدس، وإعلانها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وسيختار الله لها - كما حدث سابقا - من يكونون أهلا لتحريرها من الصهاينة المعتدين.

مما سبق تبدو أهمية القدس في القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين ومن بعدهم وأن السيطرة على القدس ظلت عنوانا للهيمنة والقوة الحضارية، فالحضارة الغالبة تسعى جاهدة إلى السيطرة على القدس قاطبة.

وقد اخترتُ موضوع: "مواقف صلاح الدين في القدس.. دلالات حضارية في العفو والتسامح" لبيان سمو ورقي الإسلام منهاجا وتاريخا أمام جرائم أعدائه التي تستفز أحلم الناس ولكن المسلم - مهما تجاوز غيره القيم والأخلاق والدين والإنسانية – لا يسعه، بل لا يجوز له إلا أن يكون ظلا ظليلا لشمس القرآن، حيث قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8)، كما يجب أن نتبع هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أحسن لمن حاربوه وطاردوه وظلموه وحرموه وأصحابه لقمة العيش وحرية الكلمة والإقامة في الحرم الآمن مكة، لكنه صلى الله عليه وسلم لما عاد منتصرا في فتح مكة عفا وصفح وغفر إلا عن ندرة من المجرمين، وقد رأيتُ فيما فعله صلاح الدين من الدلالات الحضارية والمنافع الأخلاقية والقيادة الربانية ما يستحق الذكر والتذكير، والكتابة والتحرير، والعز والافتخار بهذا التاريخ الحي الناطق بسمو الإسلام أمام جرائم أعدائه، كما أردت أن ألفت النظر بقوة إلى أن معاركنا يجب أن تتوجه إلى المحتل والعدو الخارجي الذي يتربص بنا، ونفرض الحق والعفو من منطق القوة لا الضعف، لا أن ننشغل ببعضنا في الداخل فيستقوي علينا أعداؤنا في الخارج، ونفقد صبغة الله في المؤمنين كما وصفهم الله تعالى: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ" (المائدة: من الآية54).

وأرجو من خلال هذه السلسلة أن نصل معا إلى الثوابت التالية:

1. زيادة اليقين بما جاء قطعي الدلالة والثبوت أن أعداءنا لا يريدون بنا خيرا، ولا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة، ولا يحفظون عهدا ولا عقدا، كما قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) (التوبة: من الآية10)، 
وقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية:120)،
 وقوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة من الآية:105)،
وقوله تعالى: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة من الآية:8).

2. أننا يجب أن نحفظ دائما صبغة الله في العدل والإحسان فلا نُستفز ويطير صوابنا فنتجاوز القيم الأصيلة في العفو والصفح عند المقدرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، وكما أحيا صلاح الدين هذه السنة الحميدة، لكن الأهم في هذا الاقتداء أن تُستعاد القدس وفلسطين مع التزام ضوابط الجهاد والقتال كما أمر الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوازن والوسطية الذي لايُضيِّع حقا ولا يعرف خرقا للقيم والمبادئ الأصيلة.

3. إذا كان مستوى الرقي الذي تعامل به صلاح الدين مع مجرمي الصليبيين المحتلين فبطريق الأولى يجب أن يتعايش المسلمون مع إخوانهم من أهل الكتاب أصحاب البلد الأصليين كمواطنين، بشرط ألا يكونوا لبنة مريضة في جدار دولة الإسلام تنخر في عظامها، وتشتت وحدتها، وتسخر من قيمها، وتتعاون مع أعدائها.

أسأل الله تعالى أن تحيا فينا همة وأخلاق صلاح الدين حتى نحرر الأسرى والأقصى والقدس وفلسطين من الصهاينة المعتدين، ونقدم نموذجا معاصرا للتسامح مع غير المسلمين.

والله ولي التوفيق..




أ.د/ صلاح الدين سلطان



منقول من كتاب "مواقف صلاح الدين في القدس .. دلالات حضارية في العفو والتسامح" للأستاذ الدكتور صلاح الدين سلطان.



[1] رواه أحمد ( 4 / 167 ) وفي إسناده كلام ، لكن يشهد له ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ" رواه مسلم (172).


[2] ٲوربانوس الثاني: ولد باسم أوتو اللاجيري، (1042م - 1099م)، فرنسي، وهو الرجل صاحب الحملة الصلبية الأولى في التاريخ، اختير لمنصب البابوية في روما، وتولى الكرسي البابوي إحدى عشرة سنة، وکان رجلاً سياسيًّا،جريئا، حاسما، متشددًا مثل من سبقوه من البابوات. http://ar.wikipedia.org/wiki





أقرأ للكاتب  ايضاً







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق