مفارقات
بين هيبة القضاء وأفعال الغوغاء
أ.د. صلاح سلطان
الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
هناك هيبة شكلية تأتي من خلال المواقع واللوائح، وهناك هيبة حقيقية تأتي من خلال المواقع والمبادئ، وهناك من لا يحتاج إلى مواقع أو لوائح لكنه صاحب هيبة كبيرة بين الناس، ومن هؤلاء بعد أنبياء ورسل الله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي قبل الخلافة وبعدها، وهيبة الأحنف بن قيس وهو أحلم العرب حتى قيل ما رآه أحد إلا استقبله واقفًا، وهيبة ابن تيمية الذي لم يكن قاضيًا ولا وزيرًا ولا أميرًا، لكنه كان يرهب أعداء الله من الفرنجة ويخاطب قادتهم لفك أسرى المسلمين والمسيحيين، فيوافق الفرنجة على إطلاق سراح المسلمين دون المسيحيين، فيرفض إخراج المسلمين حتى يكون معهم كل رعايا أمة الإسلام من المسيحيين وغيرهم، ومنهم العز بن عبد السلام حتى سمي سلطان العلماء، وقد رأيت الشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمه الله تعالى قبل أن يكون عضوًا لمجلس الشعب المصري وبعده مهابًا في كل مكان حلّ فيه، مطاعًا من الوزراء والمدراء في شفاعته لذوي الحاجات، حيث كان يدخل عليهم بقامته الكبيرة وعمامته العظيمة، وابتسامته الواسعة، فيجاب في شفاعته لكل ذي حاجة.
ولا شك أن هيبة القضاء جزء من الثقافة الإسلامية حتى إن الفقهاء نصوا على أن بغلة القاضي يجب أن تكون سليمة من كل العيوب، فمن اعتدى على بغلة أحد من الناس بقطع ذنبها يغرم بقدر ما نقص من ثمنها، أما من قطع ذنب بغلة القاضي فيغرم ثمنها كلها، وعللوا أن القاضي لا يجوز له أن يركب بغلة مقطوعة الذَنَب، بينما يجوز لغيره ذلك.
وقد خشي الأئمة الأربعة على أنفسهم أن يكونوا قضاة حتى وشي بهم الواشون لدى الخلفاء أنهم لا يقبلون منصب القضاء دليلاً على عدم تسليمهم بالبيعة للخليفة، فعذب بعضهم، وما قبل أحدهم أن يكون قاضيًا إلا خشية من الحديث الذي ورد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار" رواه الأربعة وصححه الحاكم.
حتى إن أبا حنيفة النعمان على علمه وفضله ومكانته يرفض أن يكون قاضيًا متعللاً للخليفة قائلاً: لست مأمونًا في الرضا فكيف آمن على نفسي في الغضب، فقال الخليفة: كذبت، بل أنت مأمون في الرضا والغضب، فقال أبو حنيفة في ذكاء نادر: حكمت على نفسك يا أمير المؤمنين كيف تولي قاضيًا كذابًا.
لكنا اليوم أمام عدد ليس بالقليل من القضاة، لا يمثلون جمهورهم، هم غير مأمونين لا في الرضا ولا في الغضب، ويتمسكون بالقضاء حتى حافة القبر، ولو علموا أن تراب ونخاع مصر يبغضهم لأنهم بقايا النظام السابق، وهم من كانوا "ترزية" القوانين الجائرة والأحكام الظالمة، وهم قضاة النظام لا العدالة، وهم أساطين تزوير الانتخابات في سبق لا يعرفه ولا يقدر عليه حتى الشيطان، وهم من يأكلون أكثر من عشرة مليارات من الميزانية من أجل نزاهة القاضي، ثم فاحت روائح الرشاوى والمنح بالترقيات بعد كل دبلجة لقانون أو تزوير لانتخابات أو محاكمات للأبرار من خيرة أبناء مصر، كيف يطلب منا هذا القطاع من القضاة أن نحفظ هيبتهم وهم لم يحترموا مكانتهم ومقامهم؟
يا قوم إن علماء الحديث ينقلون الحديث من الصحيح إلى الحسن لمجرد حدوث وهم من الراوي مرة واحدة، فإذا كذب مرة لا يكون الحديث ضعيفًا بل موضوعًا، والحديث الموضوع لا تجوز روايته إلا لبيان وضعه كما قال جهابذة علم الحديث، فكيف إذا صارت غوغاء وضوضاء، وكذب بالجملة لا القطاعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق