عندما يقف الجنرال في تيهه السحيق.. عاريا.. مرتجفا
د.بشيرموسي نافع
في لحظة حقيقة نادرة، نطق الجنرال، مستدعيا حكمة أجيال من الجنرالات الانقلابيين الذين مضوا من قبله، قائلا: «شرف المقاتل أنه لا يتآمر ضد الرئيس ولا يرتب لعزله».
نعم، شرف المقاتل ليس أن يدافع عن تراب وطنه، مهما كان حجم التضحيات، لا أن يحرس سيادة دولته وسلامة شعبه، ولا أن يحترم الدستور والقوانين، شرف المقاتل هو شيء غير ذلك تماما، شرفه ألّا يتآمر على رئيسه ولا يعمل من أجل الانقلاب عليه.
فأي تيه هذا الذي يخوض غماره الجنرال، أي تيه أنزل عليه هذه الحكمة الفريدة، أي تيه دفعه إلى الوقوف عاريا أمام شعبه والعالم، ليس ثمة ما يستر عوراته؟
لم يعرف الجنرال بامتياز علمي، ولا بالذكاء أو الحنكة والشجاعة، وليس ثمة ما يشير إلى أنه استوعب تاريخ بلاده كما ينبغي، ولا أهميتها ودورها وموقعها.
التحق الجنرال بجيش بلاده في وقت لم يعد للجيش من مهمة وطنية كبرى، بعد أن انتهى زمن الحروب، وعانقت الدولة أعداءها.
لم يخض الجنرال حربا، ولا قاد جنوده في معركة، ولم يسجل له من إنجاز عسكري مميز واحد، يرفع من قامته الصغيرة في صفوف الجنرالات من أمثاله.
ولأن زمنه كان زمن انحدار العقل والفكر واللغة، لم يتعلم الجنرال حرفة التأمل، ولا حرفة التفكير، ولا حتى قيمة الحديث بما يليق بجنرال.
كان جيش بلاده قد أصبح مؤسسة تجارية شبه صناعية، يخوض غمار السوق، منافسا في صناعة المواد الغذائية وأجهزة التبريد، كما في احتكار وكالات الصناعات الأجنبية.
تعلم الجنرال كيف يساوم، كيف يسمسر، كيف يعقد الصفقات، ويأخذ نصيبه من الكعكة، وما هو أكبر من نصيبه، بالحق، إن استطاع، وبالباطل، إن لم يستطع.
وكان جيش بلاده قد أصبح مؤسسة أمنية، تنافس ما تعارفت عليه الدول كمؤسسات أمنية متخصصة، يعمل على حفظ أمن الحاكم وسلامة أسرته واستمرار سيطرته، حتى إن تطلب الأمر قمع الشعب وإهانة كرامته، ويبذل كل الجهد للتعاون مع أعداء بلاده السابقين، لحفظ السلم على الحدود وتأمين استمرار المساعدات الأجنبية وازدهار العلاقات مع قوى العالم الكبرى.
فتعلم الجنرال كيف يصبح رجل أمن جيشه الأول، كيف يجعل نفسه ضرورة لشركاء السلام في الجوار، وشركاء أمن الإقليم في العالم.
وعندما خرج الشعب، في مناسبة نادرة وغير مسبوقة ليقول كلمته، لم يتردد الجنرال في ارتكاب أعمال القتل والاغتيال والتعذيب.
بيد أن الحياة كانت رحيمة بالجنرال، رحيمة إلى الدرجة التي أوصلته إلى ما هو أعلى وأكبر مما حلم به في حياته كلها، لا في ساعات النوم ولا ساعات اليقظة.
في لحظة حظ قدري، قلما أتيحت لجنرال مثله من قبل، غفل الكثيرون أو تغافلوا عن جهله وتواضع خلفيته العلمية، وعن فقدانه الإنجاز المهني العسكري، كما عن سطحية تفكيره وعقله المحدود ولغته السوقية.
في لحظة الحظ القدري تلك، ما كان للجنرال إلا الثقة بمهارات وتقاليد السوق والتجارة والأمن والتآمر، التي أصبحت ثقافة الجيش الذي نشأ فيه وتدرج في مرتباته.
ولأن البلاد كانت تعج بالاضطراب، وضياع البوصلة، وفقدان اليقين، لم تلبث الأقدار أن أتاحت للجنرال فرصته الثانية، فرصة أن يظهر للعالم قدراته في عقد الصفقات، في التآمر والخيانة والغدر، وفي القمع وسفك الدماء وإعادة الشعب إلى بيت الطاعة، الذي ظن أبناء الشعب أنهم غادروه بلا رجعة.
لم ينقلب الجنرال على رئيسه وحسب، بل وقام بانقلابين في وقت واحد: انقلب على الرئيس وأطاح به، وانقلب على شركائه من علية القوم وسفلتهم.
الحقيقة، أن الجنرال لم يكن يحتاج كل خصائل الغدر والتآمر والسمسرة التي ولد بها، وهذبها ورفع من مستواها خلال مسيرته المهنية.
كان الرئيس حسن الظن، على أية حال، وبالرغم من أنه لاحظ سوء طوية الجنرال ونزعته التآمرية، فقد حسب أن الشعب، الذي كان أشعل واحدة من أكبر الثورات في تاريخه كله، من القوة بحيث لا يمكن أن يسمح لجنرال أن يقوده مرة أخرى إلى هاوية الاستبداد والتخلف. وقد وجد الجنرال في نخبة بلاده، السياسية والاقتصادية والإعلامية، خير عون وخير أداة.
لم يكن الزمن قد انحط بالجيش وحسب، بل وانحط بكافة مقدرات البلاد ومؤسساتها، بحيث لم يعد من تعليم أو ثقافة أو فنون أو إعلام يعتد بها.
في بلاد ورثت حضارة تعود إلى آلاف السنين، لم يكن هناك الكثير من السياسيين الذين يدركون قواعد العمل السياسي، أو المثقفين الذين يتمتعون بمستوى لائق من الثقافة، أو الإعلاميين الذين يفهمون مسؤولية الإعلام، أو رجال الأعمال الذين يحملون درجة كافية من الشعور بالواجب. وسرعان ما التف هؤلاء جميعا حول الجنرال، مهدوا له الطريق، أعلوا من شأنه، وقدموه للعامة من الشعب باعتباره المنقذ والحارس والهادي. ظن هؤلاء البؤساء، في لحظة فقدان الوعي تلك، أن الجنرال، وما أن يطيح خصومهم الإسلاميين، حتى يعيد لهم مقاليد الحكم والسلطة. ولكن الجنرال، بالطبع، كان له رأي آخر.
في انقلابه الثاني، استند الجنرال لذلك القطاع من الشعب، الذي اشترى خدعة الإنقاذ والحراسة والهداية، وإلى حلفائه في الإقليم، الذين أرادوا منه اقتلاع الإسلاميين الأشرار، الذين دعوا إلى حكم الشعب وحفظ الثروات واستقلال القرار، ومعاقبة الشعب المتمرد، في الوقت نفسه. في انقلابه الثاني، أطاح الجنرال شركاءه في الانقلاب الأول، كما يطيح المرء حذاءه المهترئ، واستولى على مقاليد الأمر وحده، بلا شريك. صعد الجنرال إلى أقصى ما يمكن أن يصعد إليه جنرال، واعدا الشعب بالرفاه والأمن والحرية والكرامة.
ولكن الأمور لم تسر كما يجب. خلال سنوات ثلاث فقط من السيطرة والحكم، أخذ فشل الجنرال يتكشف لشركائه في الوطن والإقليم، ولشعبه والعالم، على حقيقته. بالرغم من سلسلة، لا يبدو لها من نهاية، من المجازر وحملات القمع والاعتقال والتشريد، لم تستعد البلاد أمنها واستقرارها.
وبالرغم من عشرات المليارات من الدولارات، التي رفد بها الشركاء الإقليميون مالية الجنرال وآلة حكمه، تستمر أوضاع البلاد الاقتصادية والمالية في التدهور والانهيار.
وبالرغم من أن الجنرال حرص من البداية على توريط مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية في الجرائم التي ارتكبها، ليطمئن إلى اصطفافها خلفه، تتقلص مساحة الحرية في البلاد كما لم تتقلص من قبل، وتهدد كرامة الناس كما لم تهدد من قبل.
وحتى الوعود التي كان أطلقها لحلفائه في الإقليم، من أغدقوا عليه وفتحوا له أبواب أصدقائهم في أوروبا وأمريكا، بأن يكون لهم درع وسيف عند الحاجة، سرعان ما حنث بها.
جهة واحدة، فقط، يمكنها أن تقول أن حكم الجنرال كان منحة كل الأزمنة لها: الدولة، العدو السابق، في الجوار. خلال سنوات ثلاث فقط من الحكم والسيطرة، وقف الجنرال عاريا، ليس ثمة ما يستر عوراته.
كانت بداية رد الفعل من مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، التي حملت الجنرال مسؤولية الخراب الذي جرت إليه بلاده، ودعته إلى أن ينجو بجلده في نهاية فترة رئاسته الأولى وأن لا يحاول التجديد لفترة ثانية.
ثم انطلقت أبواق وثيقة الصلة بالحلفاء الإقليميين، تصف الجنرال بسوء الإدارة، وتبديد ثروات بلاده، وتنقل إليه رغبة الأمراء والشيوخ من أصدقائه بالمغادرة في أول فرصة ممكنة.
وفي داخل البلاد نفسها، وبالرغم من أن من خانوا أشواق شعبهم باتوا يدركون حجم الكارثة التي يعيشونها، ولا يمنعهم من الحديث إلا الخوف، لحقت حفنة من المرتبطين بالأجهزة منهم وأعربت عن أملها في أن يمن الجنرال على البلاد بالتخلي عن الحكم.
لا يحمل الجنرال عقلا ثاقبا، ولا يتمتع بالذكاء، صحيح. ولكنه ليس من الغباء بحيث لا يرى نذر الخطر وعمق التيه الذي لا يجد من وسيلة للنجاة منهما. وهكذا، وفي لحظة حقيقة نادرة، وجد الجنرال نفسه، وبلا إرادة منه، يستدعي حكمة الجنرالات الانقلابيين من قبله.
فإلى أين يأخذ هذا التيه السحيق الجنرال؟ أليس لهذا التيه من نهاية؟ أليس من أمل بتدخل ميتافيزيقي يجعل من خيانته آخر الخيانات؟