الجمعة، 12 أغسطس 2016

إسلامنا بين "المتحجرين" و"المتحررين"

إسلامنا بين "المتحجرين" و"المتحررين"  
عبد الستار قاسم
تحيا الأمم بتراثها الثقافي والفكري، وبقدراتها على تطوير هذا التراث بحيث يجاري ويسابق التطورات العصرية على مختلف المستويات. الأمة الحية لا تأخذ كل جديد يظهر على الساحة الحضارية الإنسانية، لكنها تبقى دائما متيقظة لمواكبته فتصهره في مسيرتها الحضارية وفق ما يتلاءم مع تراثها الحضاري ووفق ما يمكن أن يعود عليها بالفائدة.

والأمم الحية لا تتخذ من التراث سجنا لها فلا تغادره، ولكنها تجري تقييما لسلوكها وعاداتها وتقاليدها ومنظوماتها القيمية باستمرار لكي تبقى متحفزة نحو المزيد من التقدم والعطاء والنهوض.

ليس مطلوبا من أمة أن تغادر تراثها ومقومات حضارتها ومكونات ثقافتها، لكنه مطلوب منها مراجعة مختلف الأمور حتى لا تبقى خلف الأمم أو تفقد قدرتها على المساهمة في الحضارة الإنسانية. الأمة التي تنفصل عن تراثها وثقافتها تنفصل حقيقة عن ماضيها وعن جزء لا بأس به من مكوناتها التربوية والنفسية، وبذلك ينفصم حاضرها عن ماضيها، وتفقد كنزا ومخزونا ثقافيا يعينها على القفز من واقع إلى آخر أفضل.
ليس مطلوبا من أمة أن تغادر تراثها ومقومات حضارتها ومكونات ثقافتها، لكنه مطلوب منها مراجعة مختلف الأمور حتى لا تبقى خلف الأمم أو تفقد قدرتها على المساهمة في الحضارة الإنسانية
من الخطأ والخطورة أن تضرب أمة بجذورها الثقافية جانبا لتتقمص ثقافة أخرى بعيدة عن مكوناتها التربوية؛ فربما تفقد هذه الأمة صلتها بتاريخها، ولا تتمكن من إتقان منظومة ثقافية جديدة. 
فكما أن المرء لا يستطيع أن يفكر بعقل غيره، أو أن يمشي بأرجل غيره، لا يستطيع أيضا أن يحيا وينظم أموره بثقافة أمة أخرى غير أمته.
 الأمم تأخذ بعضها من بعض، وتتبادل الأمم التجارب والخبرات، لكن الأمم لا تنفي نفسها لصالح الاستيراد الثقافي والفكري.

بين الإسلاميين والتحرريين
هكذا هي حالنا مع الإسلام ومع الإسلاميين المتحجرين، ومع التحرريين الذي يريدون إخراج الإسلام من المنظومة الثقافية العربية. هناك هجمة كبيرة على الإسلام بسبب تصرفات أغلب التنظيمات والجماعات الإسلامية، والهجمة تأتي في الغالب من قبل الذين لم يدرسوا الإسلام ويتطلعون إلى الحضارة الغربية على أنها الأرقى ومن المفروض التشبه بها. لا يجوز محاكمة الإسلام بناء على تصرفات المسلمين، كما لا يجوز محاكمة النظرية الماركسية بناء على تصرفات الاتحاد السوفييتي.

الكثير من تصرفات المسلمين لا تعكس الفكرة الإسلامية وهي خارجة عن المنظومة الأخلاقية الإسلامية وتسيء للإسلام. المسلمون هم أكثر من يسيء للدين الإسلامي، والدين يمكن أن يحيا لو تنحى الفقهاء جانبا وتركوا الدين للمفكرين.

الدين الإسلامي هو الأرضية الأساسية للثقافة العربية بغض النظر عن هوية المواطنين الدينية أو المذهبية.
 الدين الإسلامي هو الثقافة التاريخية للمسلمين والمسيحيين في الساحة العربية، ولمختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية. والعرب عرفوا تاريخيا بالإسلام، وعرف الإسلام بهم، ومن الصعب أن يتطور مستقبل ناهض للعرب بدون الإسلام، والإسلام لا ينهض إلا بالعرب.

الأمة تحيا بتراثها الثقافي والحضاري. الأمة التي تتخلى عن عوامل بنائها التاريخي يختل توازنها وتفقد سيطرتها على البيئة من حولها وتصبح عرضة للانحطاط والتخلف وهيمنة الآخرين. أمتنا أمة عريقة وذات حضارة متميزة ساهمت في الفكر الإنساني والبناء الحضاري وقادت العالم لفترة غير قصيرة من الزمن، ولا يوجد ما يبرر لها تقليد الآخرين أو السير حسب القوالب الفكرية للأمم الأخرى ومفاهيمها.

تتميز أمتنا بأنها أمة الإسلام وحاملة لوائه وناشرة مبادئه وشرائعه. بنينا أمجادنا بالإسلام وعرفتنا الأمم بالإسلام وثقافتنا يتصدرها الإسلام؛ ولذلك فإن تمسكنا بالإسلام هو تمسك بالذات، والتخلي عنه اغتراب عن النفس وتيه حضاري يعرضنا لأطماع الأمم. الإسلام حاضن للهوية والانتماء حتى للعربي غير المسلم الذي اصطبغت ثقافته بثقافة الإسلام.

لكن عن أي إسلام يتم الكلام؟ لقد تعددت المدارس الفقهية الإسلامية وليس الفكرية حتى تشتت المسلمون ونصبوا العداء بعضهم ضد بعض وحملوا السلاح واقتتلوا وما زالت دماؤهم تنزف.

الفكر الإسلامي
غياب الفكر الإسلامي يشكل أكبر مشكلة واجهها المسلمون عبر التاريخ وما زالوا يواجهونها حتى الآن. ركز المسلمون منذ البداية على قضايا الفقه الإسلامي، أي قضايا الحلال والحرام، ونحوا جانبا القضايا الفكرية، أو قضايا الحق والباطل.
 لقد قمع المسلمون العقل الإنساني وما زالوا يقمعونه حتى الآن، وحولوا الدين في كثير من الأوقات إلى موضوع كهنوتي منشغل بالغيبيات على حساب تفاعلهم مع الواقع ومسؤوليتهم في البحث العلمي وعقلنة الدين. 
لقد انشغلوا بسبب تركيزهم الفقهي في إصدار الفتاوى الفقهية على حساب الفتاوى الشرعية فابتعدوا عن الفكرة الإسلامية وأخذوا يدخلون في المحرمات تحت شعارات دينية كهنوتية.
أمتنا أمة عريقة وذات حضارة متميزة ساهمت في الفكر الإنساني والبناء الحضاري وقادت العالم فترة غير قصيرة من الزمن، ولا يوجد ما يبرر لها تقليد الآخرين أو السير حسب القوالب الفكرية للأمم الأخرى 
وبسبب ازدحام الفتاوى الفقهية، وغياب مرجعية دينية تضبط الأمر، تعددت اجتهادات الفقهاء وتنوعت وتناقضت، وأدت إلى ظهور الفرق الإسلامية فتشتت الناس وأخذت كل فرقة تكفر الأخريات إلى أن أصبح المسلمون مجموعات متناثرة تحاول كل واحدة أن تجعل من أزماتها النفسية ومآزقها الاجتماعية مادة دينية على حساب القرآن الكريم.

لقد أساء بعض الفقهاء للدين، ووضعوا الفكر جانبا مؤمنين بأن العقل الإنساني ضال ولا يهدي إلى الطريق القويم مستهترين بمئات الآيات في القرآن الكريم التي تشيد بدور العقل والفكر والتدبر والنظر في الوصول إلى الحقيقة. وعليه، يجب إخراج الدين الإسلامي مما اعتوره من شوائب ومتناقضات وهلوسات وغيبيات تعطل قدرات الإنسان العقلية والمنطقية والتحليلية والعلمية. ومن هنا تنبثق النقاط التالية التي سيساهم تطبيقها في تحويل الدين من دين فقهي غيبي إلى دين فكري علمي يستند إلى الإيمان وليس إلى التدين الكهنوتي:

مرتكزات الفكر الإسلامي
1- الإسلام دين أخلاق وعلم وعمل وجهاد؛ إنه يشرّع للفضيلة كأساس للمعاملات، وللمنهج العلمي الاستقرائي كأساس للتقدم، وللعمل كأساس للإنجاز.

2- الكهنوت ليس من الإسلام. عامل ينفع الناس أفضل بكثير من معتكف يستعطي، والتقوى لا تنحصر بالشعائر والأدعية وإنما هي في الأساس العمل الاجتماعي العام النافع، والعمل العلمي الذي لا تنهض أمة بدونه.

3- التطبيق العملي هو المؤشر الحقيقي على صدق الإيمان، ولا فوز بدون اجتماع الإيمان والعمل الصالح.

4- يركز الفكر الإسلامي على قضايا الحرية والبناء الأخلاقي والالتزام والتقدم العلمي والصالح العام والحس بالمسؤولية والنهوض بالإنسان ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا بهدف بناء الشخصية المميزة والقادرة على البناء والعطاء.

5- الفكر الإسلامي يقيم دولة العدل بين الناس، وهي ليست دولة دينية إذ لا يوجد في الإسلام مصطلح اسمه التدين. هناك إيمان فقط ويعني التمسك بمبادئ وقناعات مشفوعة بالعمل.

6- عدم التحيز ضد غير المسلمين، والتأكيد على أن المسيحيين خاصة جزء لا يتجزأ من الوطن والشعب. هم للمسلمين والمسلمون لهم دون تشنج أو حتى تفكير بالتمييز. نمطهم الديني خاص بهم، وهم شركاء في النمط الثقافي العام.

7- رفض العصبية بكافة أشكالها الدينية والقومية والعرقية والمذهبية والجنسية والحزبية.
8- يحيا الإسلام بالعدل والأسوة الحسنة وليس بالقمع وقهر الآخرين. العدل هو مركز الدعوة الإسلامية ومحورها، وإذا غاب العدل، غابت الرسالة الإسلامية. دولة العدل دولة مدنية تتقاطع مقوماتها الأخلاقية مع المقومات الأخلاقية الإسلامية.

9- الحرية مكفولة بالخلق وليس بالاجتماع. خلق الله الإنسان بقدرة تمييزية وله الحرية فيما يختار. الاعتداء على حرية الآخرين لا تشكل فقط مخالفة شرعية وإنما اعتداء على خلق الله.

الفكر الإسلامي فكر متحرك يعبر عن قدرة الأمة الإسلامية على التعامل المرن مع مختلف الظروف عبر الزمان والمكان، وعن واجبها في التطوير والابتكار والتجديد. إنه نقيض الفكر الجامد الذي يبقي صاحبه في دائرة التخلف والابتذال والضعف
الفكر الإسلامي فكر متحرك يعبر عن قدرة الأمة الإسلامية على التعامل المرن مع مختلف الظروف عبر الزمان والمكان، وعن واجبها في التطوير والابتكار والتجديد. إنه نقيض الفكر الجامد الذي يبقي صاحبه في دائرة التخلف والابتذال والضعف. لم يكن للأمة أن تتجرع الذل والهوان لو لم تتخل عن الفكر وتجدده لصالح الجمود الفقهي الذي أدخلها في تفاصيل كهنوتية تضر ولا تنفع. الفكر المتحرك يفتح المجال واسعا أمام الرأي والاجتهاد، بعكس الجامد الذي يصر على البقاء في الماضي وعلى تفاصيل حياتية يومية تثقل وتعسّر.

الفكر الإسلامي ليس منغلقا عن الثقافات والأفكار والفلسفات الأخرى. لا حدود للمعرفة والعلم من الناحية الإسلامية ومن واجب المسلم أن يطلع على ما يطرحه الآخرون، ومن حقه أن يستفيد من تجارب الأمم الأخرى وأفكارها ووسائلها وأساليبها في معالجة مختلف القضايا. التقليد الأعمى كما الانغلاق غير مقبولين إسلاميا. 

الفكر الإسلامي ليس مقيدا بعادات وتقاليد ولا يجوز تطويعه للعادات والتقاليد، وهو ليس فكرا تكفيريا يحمل سوطا لصد الآراء ومنعها من التعبير وتقديم الأدلة والبراهين، ولا بالفكر الذي ينشغل بتوسيع دوائر التحريم ليشل قدرة المرء على الانطلاق والتجديد.

هناك اتجاه نحو أسلمة التقاليد العربية، أي جعلها جزءا من الدين الإسلامي ومن ثم تقديسها وتكريسها. فمثلا تطورت في الوطن العربي مراسيم كثيرة للزواج وهي تثقل على أهل العريس والعروس وعلى الناس الذين عليهم أن يشاركوا فيها. وتطورت لدينا أيضا تكاليف الزواج بحيث أصبحت تستمر في التصاعد. وكلما تحدث أحد عن التكاليف الباهظة والتي تحول دون الشباب والزواج يخرج علينا من يقول إن امرأة تحدت عمر بن الخطاب في المهر فسكت لأن ارتفاع المهر لا يتناقض مع الإسلام. 

وأسلمة التقاليد العربية تظهر بوضوح في نظرة الناس إلى المرأة. لفقد طوروا ألبسة وأعرافا من شأنها عرقلة نشاط المرأة وعرقلة ظهورها العام ومشاركاتها باسم الدين الإسلامي. إنهم يثقلون المرأة بالكثير من التعاليم التي ليست دينية باسم الدين. وحتى فكرة الاحتشام خرجت تماما عما هو منصوص عليه في القرآن الكريم لتشكل تفصيلات لباسية كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان. العرب يعتبرون المرأة تاريخيا عارا، وما زالت جذور هذه النظرة قائمة حتى الآن، أما الإسلام فيعتبرها إنسانا عليها واجبات ولها حقوق.


الفكر الإسلامي ليس مقيدا بعادات وتقاليد ولا يجوز تطويعه للعادات والتقاليد، وهو ليس فكرا تكفيريا يحمل سوطا لصد الآراء ومنعها من التعبير وتقديم الأدلة والبراهين
الخطير في الأمر أن العيب أصبح في مفاهيمنا أهم من الحرام. إذا كان هناك عمل محرم فإنه من الممكن للشخص منا أن يتجاوزه ويغض الطرف عنه، أما العيب فيحظى باحترام أكبر من الحرام. أي أننا نخشى الناس في كثير من الأحيان أكثر مما نخشى الله سبحانه وتعالى. كثير من الناس يقدمون على أعمال يعتبرها الشرع نقيصة، ولكنهم يمتنعون عن أعمال يعتبرها المجتمع نقيصة.

وما هو أسوأ هو تطور الدين الكهنوتي على حساب الدين العلمي والعقلاني. الدين الكهنوتي يهتم بالتفصيلات الشعائرية، ويذهب بعيدا في البحث في غيبيات لا يمكن للعقل الدنيوي أن يتعرف عليها أو أن يهتدي إليها. وهذا يتناسب مع العقلية السحرية العربية التي تؤمن بالشعوذة والحظوظ وتغيب عقل الإنسان وقدراته. بينما الدين الإسلامي دين علم وأخلاق وجهاد وعمل، وليس دين كهنوت وتدين.

لا تدين في الإسلام وإنما هناك علم وعمل وإيمان. نحن نغرق الآن في الشعائر ونستمر في زيادة حجمها لكننا نبتعد كثيرا عن العبادات المنسجمة مع العطاء والإنتاج والجهاد والاشتغال بالعلم وتربية الأجيال. نحن نشوه الدين الإسلامي، ومشكلتنا الكبيرة أن الذين يشوهون الدين الإسلامي هم الذين يحكمون رؤى الناس العاديين للدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق