الاثنين، 18 فبراير 2019

دولة السلطان سليمان القانوني.. عهد القوة والحكمة والقانون


دولة السلطان سليمان القانوني.. عهد القوة والحكمة والقانون

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
كان عهد السُّلطان سليمان القانوني يمثِّل رأس الهرم بالنِّسبة لقوَّة الدَّولة العثمانيَّة ومكانتها بين دول العالم آنذاك. ويعتبر عصر السُّلطان سليمان هو العصر الذَّهبي للدَّولة العثمانيَّة، حيث شهدت ثمانية وأربعون عامًا قضاها السلطان سليمان القانوني في حكمه من 926 - 972هـ، الموافق 1520 - 1566م توسُّعاً عظيماً لم يسبق له مثيلٌ، بلغت قمة درجات القوة والسلطان، وأصبحت أقاليم الدَّولة العثمانيَّة منتشرةً في ثلاث قاراتٍ عالميَّةٍ.
   
ولد سليمان القانوني في مدينة (طرابزون)، وكان والده آنذاك والياً عليها، اهتمَّ به والده اهتماماً عظيماً، فنشأ محبَّاً للعلم، والأدب، والعلماء، والأدباء، والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدِّية، والوقار، ارتقى عرش السَّلطنة في السادسة والعشرين من عمره، وكان متأنِّياً في جميع شؤونه، ولا يتعجَّل في الأعمال الَّتي يريد تنفيذها، بل كان يفكِّر بعمقٍ، ثمَّ يقرِّر، وإِذا اتَّخذ قراراً؛ لا يرجع عنه.

مواجهة الفتن والتمردات في بداية حكمه
ابتلي سليمان في السَّنوات الأولى في عهده بأربعة تمرُّداتٍ شغلته عن حركة الجهاد؛ حيث ظنَّ الولاة الطَّموحون: أنَّ فرصة الاستقلال بأقاليمهم حان وقتها، فكان التَّمرُّد الأول حيث قام «جان برد الغزالي» والي الشَّام بتمرُّدٍ على الدَّولة، وأعلن العصيان عليها، وحاول أن يستولي على حلب إِلا أنَّه فشل في ذلك، وأمر السلطان سليمان بقمع الفتنة، فقمعت، وقطع رأس المتمرد «جان برد» وأرسل إِلى إستانبول دلالةً على انتهاء التَّمرُّد.

اهتمَّ السلطان سليمان بفتح رودس، وأعدَّ حملةً عظيمةً وشنَّ حرباً كبيرةً ابتداءً من منتصف عام 1522م، وفتحها، وأعطى الفرسان حقَّ الانتقال منها، فذهبوا إِلى (مالطة) وهناك أعطاهم (شارل كنت) حقَّ حكم هذه الجزيرة
وأمَّا التَّمرُّد الثاني؛ فقد قام به «أحمد شاه» الخائن في مصر، وكان هذا عام 930هـ/1524م وكان هذا الباشا طامعاً في منصب الصَّدر الأعظم، ولم يفلح في تحقيق هدفه، وطلب من السُّلطان أن يعيِّنه والياً على مصر، فعيَّنه. وما أن وصل إِلى مصر؛ حتَّى حاول استمالة النَّاس، وأعلن نفسه سلطاناً مستقلاً إِلا أنَّ أهل الشَّرع، وجنود الدَّولة العثمانيَّة من الإِنكشاريَّة قاموا ضدَّ الوالي المتمرِّد، وقتلوه، وظلَّ اسمه في كتب التاريخ مقروناً باسم الخائن.

والتمرُّد الثَّالث ضد خليفة المسلمين هو تمرُّدٌ شيعيٌّ رافضيٌّ قام به بابا ذو النُّون عام 1526م في منطقة يوزغاد، حيث جمع هذا البابا ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر، وفرض الخراج على المنطقة، وقويت حركته حتَّى أنَّه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيِّين الَّذين توجَّهوا لقمع حركته، وانتهت فتنة الشِّيعة هذه بهزيمة بابا ذو النُّون، وأرسل رأسه إِلى إستانبول.

والتمرُّد الرَّابع ضدَّ الدَّولة العثمانيَّة في عهد سليمان القانوني كان تمرُّداً شيعيَّاً رافضيَّاً أيضاً، وكان على رأسه «قلندر جلبي» في منطقتي قونية، ومرعش، وكان عدد أتباعه 000 , 30 شيعي قاموا بقتل المسلمين السُّنِّيِّين في هاتين المنطقتين. وتوجه بهرام باشا لقمع هذا العصيان، فقتله العصاة، ثمَّ نجحت الحيلة معهم؛ إِذ أنَّ الصَّدر الأعظم إبراهيم باشا قد استمال بعض رجال «قلندر جلبي»، فقلَّت قوَّاته، وهزم، وقتل. وبعد هذا هدأت الأمور في الدَّولة العثمانيَّة، وبدأ السُّلطان في التَّخطيط لسياسة الجهاد في أوربة.
  
التخطيط السياسي في أوروبة
- فتح رودس:
كانت رودس جزيرةً مشاكسةً؛ إِذ كانت حصناً حصيناً لفرسان القدِّيس يوحنَّا؛ الَّذين كانوا يقطعون طريق الحجَّاج المسلمين الأتراك إِلى الحجاز، فضلاً عن أعمالهم العدوانيَّة الموجَّهة لخطوط المواصلات البحريَّة العثمانيَّة، فاهتمَّ السلطان سليمان بفتح رودس، وأعدَّ حملةً عظيمةً وشنَّ حرباً كبيرةً ابتداءً من منتصف عام 1522م، وفتحها، وأعطى الفرسان حقَّ الانتقال منها، فذهبوا إِلى (مالطة) وهناك أعطاهم (شارل كنت) حقَّ حكم هذه الجزيرة.

- قتال المجر وحصار فيينا:
كان ملك المجر (فيلاديسلاف الثَّاني جاجليو) قد عزم على فكِّ أيِّ تعهُّداتٍ كانت قد أعطيت من قبل أسلافه لسلاطين الدَّولة العثمانيَّة، وذهب إِلى حدِّ قتل مبعوث السُّلطان سليمان إِليه، وكان المبعوث يطالب بالجزية السَّنويَّة المفروضة على المجر، ولهذا ردَّ سليمان في عام 1521م بغزوةٍ كبيرةٍ ضدَّ المجر، ولكن استمرَّت المعارك حتَّى أحرز الأتراك انتصارهم الكبير، في موقعة «موهاكس» عام 1526م، ودخل سليمان القانوني (بودا) في 11 سبتمبر عام 1526م، واستمرَّت المقاومة الهنغارية رغم هذا، وتابع السُّلطان ضغطه حتَّى بلغت جيوشه أسوار فينَّا عاصمة الإمبراطورية الرُّومانيَّة المقدَّسة عام 1529م، إِلا أنَّ طول خطوط المواصلات، وتحوُّل (شارل كنت) من قتال فرانسوا إِلى التَّصالح معه للتفرُّغ لحرب العثمانيِّين، ولإِنقاذ عاصمة الهايسبورج جعل من المستحيل على سليمان القانوني فتح هذه العاصمة، وتراجع عنها، بينما استمرَّ الصِّراع بين سليمان، والقوى الأوربيَّة المؤيِّدة لملك المجر من أجل السَّيطرة على هذه المملكة حتَّى وفاة سليمان.
على أنَّ أبرز حدثٍ تاريخيٍّ في السِّياسة الخارجيَّة العثمانيَّة على عهد سليمان القانوني هو علاقته مع فرانسوا، تلك العلاقة الَّتي تحوَّلت إِلى محالفة.

- سياسة التَّقارب بين سليمان القانوني وملك فرنسا:
بعد أن ظهرت قوَّة الدَّولة العثمانيَّة ومكانتها في العالم آنذاك وبروز قوة السلطان العثماني سليمان القانوني،كان لذلك أثره على دول العالم المعاصرة، وبالأخصِّ على دول أوربَّة، الَّتي كانت تعيش انقساماتٍ سياسيَّةً، ودينيَّةً خطيرةً، ولهذا تنوَّعت مواقف الدُّول الأوربيَّة من الدَّولة العثمانيَّة حسب ظروف كلِّ دولة. وكان تشارلز الخامس ملك الإمبراطورية الرُّومانيَّة المقدَّسة ينافس فرانسوا الأوَّل ملك فرنسا على كرسي الحكم للإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وكان البابا ليو العاشر منافساً للرَّاهب الألماني مارتن لوثر زعيم المقاومة البروتستانتيَّة.

ولهذا رأى فرانسوا الأوَّل أن يستغلَّ مكانة، وقوَّة الدَّولة العثمانيَّة، ويكسبها صديقاً له، فوقف منه موقف التودُّد، والرَّغبة في الوفاق معتقداً: أنَّ الدَّولة العثمانيَّة هي الَّتي ستحدُّ من طموحات تشارلز الخامس، وتُوقفه عند حدِّه، وبدأت مفاوضات فرنسا مع الدَّولة العثمانيَّة بعد معركة «بافيا» الَّتي أُسر فيها ملك فرنسا «فرانسوا الأوَّل» عام 1525م، وبعدها أطلق سراح الأسير بموجب معاهدة تمَّ عقدها في مدريد بين فرنسا وأسرة الهايسبرج سنة 1526م إِلا أنَّ فرانسوا بعد إِطلاق سراحه أرسل في عام 941هـ/1535م سكرتيره «جان دي لافوريه» إِلى السُّلطان سليمان بهدف عقد تحالف في شكل معاهدةٍ، سُمِّيت فيما بعد بـ «معاهدة الامتيازات العثمانيَّة الفرنسيَّة»، ونظراً لما ستكون عليه هذه المعاهدة من أهمِّيَّةٍ كبرى بعد ذلك نورد هنا أهمَّ نصوصها:

استفادت فرنسا من تقاربها مع الدَّولة العثمانيَّة عسكريَّاً، واقتصاديَّاً، وسياسياً، واتَّخذت من المعاهدة السَّابقة وسيلةً لفتح أبواب التِّجارة مع المشرق دون الخضوع للاحتكار التِّجاري الَّذي فرضته البرتغال بعد اكتشافها طريق رأس الرَّجاء الصَّالح
  1. حرِّيةُ التَّنقُّل والملاحة في سفنٍ مسلَّحةٍ وغير مسلَّحةٍ بِحُرِّية تامَّةٍ.
  2. حقُّ التِّجارة والمتاجرة في كلِّ أجزاء الدَّولة العثمانيَّة بالنِّسبة لرعايا ملك فرنسا.
  3. تدفع الرُّسوم الجمركيَّة وغيرها من الضَّرائب مرَّةً واحدةً في الدَّولة العثمانيَّة.
  4. الضَّرائب الَّتي يدفعها الفرنسيُّون في الدَّولة العثمانيَّة هي نفسها التي يدفعها الرَّعايا الأتراك.
  5. حقُّ التَّمثيل القنصلي، مع حصانةٍ قنصليَّةٍ له، ولأقاربه، وللعاملين معه.
  6. من حقِّ القنصل الفرنسي النَّظر في القضايا المدنيَّة، والجنائيَّة الَّتي يكون أطرافها من رعايا ملك فرنسا، وأن يحكم في هذه القضايا، وإِنَّما للقنصل الحقُّ في الاستعانة بالسُّلطات المحلِّية لتنفيذ أحكامه.
  7. في القضايا المختلفة الَّتي يكون أحد أطرافها رعيَّةً من رعايا السُّلطان العثماني، لا يستدعي، ولا يستجوب رعيَّة الملك الفرنسي، ولا يحاكم إِلا بحضور مترجم القنصليَّة الفرنسيَّة.
  8. إِفادات رعيَّة الملك في القضايا مقبولةٌ، ويؤخذ بها عند إِصدار الحكم.
  9. حرِّية العبادة محفوظة لرعايا الملك.
10.منع استعباد رعيَّة الملك.

وكان من نتائج هذه المعاهدة زيادة التَّعاون بين الأسطولين الفرنسي، والعثماني، وشنَّ الأسطول العثمانيُّ هجماتٍ قويَّةً على شواطئ مملكة نابولي؛ الَّتي كانت تابعةً لـ«شارل كنت»، وفي عام 1543م، تجمَّعت وحدات الأسطولين العثماني، والفرنسي، وهاجمت «نسير» التَّابعة لدوق سافوي حليف شارل كنت.

واستفادت فرنسا من تقاربها مع الدَّولة العثمانيَّة عسكريَّاً، واقتصاديَّاً، وسياسياً، واتَّخذت من المعاهدة السَّابقة وسيلةً لفتح أبواب التِّجارة مع المشرق دون الخضوع للاحتكار التِّجاري الَّذي فرضته البرتغال بعد اكتشافها طريق رأس الرَّجاء الصَّالح، كما حصلت بموجبها على الحقِّ الكامل في الحماية تحت علمها رعايا الدُّول الغربيَّة الأخرى، ممَّا جعل لها مكانةً مرموقةً بين دول الغرب الأوربيِّ.

وفي أواخر أيَّام الدَّولة العثمانيَّة صارت دول أوربة النَّصرانيَّة تتدخَّل في شؤونها تحت حماية الامتيازات، وللدِّفاع عن نصارى الدَّولة الَّذين كانوا يُعَدُّون رعايا للدَّولة الأجنبيَّة، وخاصَّةً في بلاد الشَّام. ولم يكن عهد سليمان القانوني العهد الذي بلغت فيه الدولة أقصى حدود لها من الاتساع، وإنما هو العهد الذي تمت فيه إدارة أعظم دولة بأرقى نظام إداري يحكمه القوة والعدل. وتوفي السلطان سليمان وهو يحاصر مدينة سيكتوار البحرية في (20 من صفر 974 هـ/ 5 من سبتمبر 1566م).

مراجع البحث:
  1. د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (164: 168).
  2. د. زكريَّا سليمان بيُّومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين، عالم المعرفة، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م، ص (77، 78).
  3. د. عبد العزيز نوّار، الشعوب الإِسلاميَّة، الأتراك العثمانيُّون، الفرس، مسلمو الهند، دار النَّهضة العربيَّة، طبعة 1411هـ/1991م. ص (147).
  4. د. محمد حرب ، العثمانيون في التاريخ والحضارة ، المركز المصري للدراسات العثمانية ، القاهرة، 1414ه/ 1994م ، ص (91).
  5. د. يوسف علي الثقفي، دراساتٌ متميِّزةٌ في العلاقات بين الشَّرق والغرب على مرِّ العصور، دار الثِّقة، الطَّبعة الثَّانيَّة، 1411هـ. ص (92).
  6. د. يوسف علي الثَّقفي، موقف أوربة من الدَّولة العثمانيَّة، ط1، 1417ه، ص 47.
  7. السَّلاطين العثمانيُّون، كتاب مصوَّر، طبع في تونس، ص (51).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق