الجمعة، 15 فبراير 2019

الرسائل المزعجة القادمة من فنزويلا

الرسائل المزعجة القادمة من فنزويلا

الذي زاد من عداء أمريكا لنظام مادورو ويدفعهم الآن لتغييره الدعم الصيني والروسي لفنزويلا، فبالنسبة للأمريكيين هذا يشكل خطرا استراتيجيا

عامر عبد المنعم
ما يجري في فنزويلا تصعيد في أساليب الهيمنة الأمريكية للسيطرة على الدول بفرض الرؤساء على الشعوب بقرار أمريكي أوربي، وهذا خطر جديد تواجهه دول العالم يهدر إرادة الشعوب ولا يبالي بنتائج الانتخابات، وإنهاء لفكرة السيادة، والعودة إلى أساليب الاستعمار المباشر القديمة.
اللعبة هذه المرة هي استخدام تيارات سياسية معارضة مصنوعة بالمال والإعلام بعد أن أفلتت جيوش هذه الدول من قبضة الولايات المتحدة، واستخدام الحصار والعقوبات للضغط على الحكام المتمردين لإجبارهم على الاستسلام وقبول الاستقالة وترك السلطة للطابور الأمريكي.
لا ننظر إلى ما يجري في فنزويلا على أنه قضية محلية في أمريكا اللاتينية، ولا تقنعنا الدعاية الإعلامية عن مبررات التدخل الأمريكي والأوربي بمزاعم الفساد والفقر، لأن المتدخلين هم الذين يحمون المستبدين الذين أفقروا شعوبهم في كل العالم، بل الذين يرفعون راية تحرير فنزويلا اليوم هم الذين خربوا دول أمريكا اللاتينية بالأمس وقتلوا شعوبها، وما زالوا.
اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالزعيم المعارض خوان غوايدو رئيسا لفنزويلا، والتهديد بالتدخل العسكري لإسقاط نيكولاس مادورو بالقوة، تتويجا لسلسلة من الاجراءات اتخذتها الولايات المتحدة لتطويق المد اليساري في أمريكا الجنوبية، الذي تصاعد منذ بداية الألفية، ويأتي دخول فرنسا والدول الأوربية وإعطاء الرئيس الفنزويلي المنتخب مهلة للتنحي وترك السلطة لشعور الأوروبيين بخطر اليسار الذي ظهر بوضوح في حركة السترات الصفراء في باريس، والتي زادت قوتها بعد تحالف حركات يمينية ومناهضي العولمة ضد سياسات الرأسمالية المتوحشة.
أهمية فنزويلا
يوجد في فنزويلا أكبر احتياطي للنفط في العالم، يبلغ 300 مليار برميل بنسبة 25% من الاحتياطي العالمي حسب إحصائيات منظمة أوبك، وبها ثامن احتياطي للغاز في العالم الذي يبلغ 5.7 تريليون متر مكعب بعد روسيا وإيران وقطر وتركمنستان والولايات المتحدة والسعودية والعراق بالترتيب.
 هذه الثروة النفطية تجعل فنزويلا مطمعا لأمريكا، تبذل من أجله كل جهودها للسيطرة عليه، لكن هناك أسباب أخرى تضاف إلى هذا البعد الاقتصادي وتعجل بالتحرك الأمريكي على النحو الذي نراه، في مقدمتها الدور القيادي الذي تقوم به الحركة اليسارية في فنزويلا والذي يمتد إلى بقية دول أمريكا اللاتينية.
تاريخيا تعتبر فنزويلا هي قائدة حركة التحرير من الاستعمار في أمريكا اللاتينية عندما قاد الزعيم الفنزويلي سيمون بوليفار شعوب القارة ضد الجيش الإسباني وسعى لتوحيد دول القارة لتشكيل الولايات المتحدة الجنوبية لكن الدولة الموحدة التي أسسها والتي كانت تتكون من فنزويلا وكولمبيا وإكوادور لم تستطع الاستمرار بسبب الفتن التي أشعلها أعوان الاستعمار المطرود، وانهارت، لكن بقي الحلم يراود أنصار بوليفار حتى الآن.
وبعد طرد الأوربيين من القارة سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة على دول القارة، واعتبرتها الفناء الخلفي الخاص بها وحدها، وقتلت الحكام الذين حاولوا التمرد والاستقلال، ونظمت الانقلابات العسكرية من خلال العسكريين الذين دربتهم، ودعمت الديكتاتوريات العسكرية ضد حركات التحرر.
وبعد نهاية الحرب الباردة وزوال الخطر الروسي وأمام ضعف الحكومات العسكرية الفاسدة تولى الحكم في  القارة حكومات منتخبة شعبيا، وحدث التغير الكبير  بعد فوز الزعيم اليساري هوغو شافيز برئاسة فنزويلا في عام 1999 ، الذي كان بمثابة الشرارة لاستيلاء اليسار اللاتيني على دول الجوار ففاز لولا دي سيلفا في البرازيل 2002، ونيستور كيرشنر في الأرجنتين 2003، وإيفو موراليس في بوليفيا 2005، وعاد القائد الثوري دانييل أورتيغا عام 2006، وفاز رافييل كوريا برئاسة الإكوادور في 2007، وتبعتها حكومات أخرى يسارية في الإكوادور 2009، وبوليفيا 2009، والأورغواي 2010.
ظاهرة شافيز
نجح شافيز في توجيه ضربات مؤثرة للنفوذ الأمريكي بوقف التعاون العسكري مع الولايات المتحدة وتخلص من قادة الجيش الذين تدربوا في أمريكا وأدخل أبناء الفقراء في المستويات العليا في القوات المسلحة، وقام بتأميم شركات النفط والاحتكارات الأجنبية، ووزع عائدات النفط على الصحة والتعليم وتسكين المواطنين وتوسيع دائرة التصنيع وتشغيل الشباب.
كانت خطة الولايات المتحدة المضادة والتي نجحت فيها بشكل كبير هي قصقصة النفوذ اليساري وحصار فنزويلا بتشجيع الأحزاب المدنية في دول الجوار، ونجحت في إسقاط الحكومات اليسارية في البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وشيلي، ولم يبق غير مادورو الذي خلف شافيز، وإيفو موراليس في بوليفيا حيث توجد أكبر نسبة للسكان الأصليين منذ حروب إبادة الهنود، وخليفة كاسترو في كوبا التي استعصت على الأمريكيين حتى الآن.
لكن مقابل خسارة اليسار في بعض دول القارة نجح اليسار في المكسيك حيث فاز اليساري أندرس مانويل لوبيز أوبرادور بمنصب الرئاسة في ديسمبر 2018 بعد فوز اليساريين بأغلبية الكونجرس المكسيكي قبلها بشهور لتكوين محور جديد يتكون من كوبا والمكسيك وبوليفيا وفنزويلا.
الذي زاد من عداء أمريكا لنظام مادورو ويدفعهم الآن لتغييره الدعم الصيني والروسي لفنزويلا، فبالنسبة للأمريكيين هذا يشكل خطرا استراتيجيا، يفتح القارة الجنوبية أمام الصين وروسيا لتطويق الولايات المتحدة، ويفوق خطر فنزويلا أضعاف المرات الخطر الذي كانت تشكله كوبا، لأن فنزويلا ليست جزيرة يمكن حصارها وإنما هي الرأس لجسم القارة، ومن يكسبه يكسب ما وراءه.
العرب وفنزويلا
الموقف العربي تجاه فنزويلا مؤسف لأنه مرتبط بالموقف الأمريكي، فرغم الإشارات الكثيرة من قادة أمريكا اللاتينية للتقارب مع العرب فإن التجاهل هو سيد الموقف، ورغم أن دعم فلسطين أصبح قضية محورية في السياسة الخارجية لقادة أمريكا اللاتينية فإن معظم الدول العربية لم ترد على هذه المبادرات بشكل إيجابي وتركت إيران تستفيد وحدها من التواصل مع هذه القارة المظلومة.
لقد حاول شافيز وبعده مادورو التواصل مع العالم الإسلامي لكن لم يستجب غير الأتراك الذين وطدوا العلاقات وأحسنوا التعاون، ومن الإشارات الرمزية للتقرب من المسلمين أن الرئيس الفنزويلي مادورو صرح بأنه يتابع المسلسل التركي الشهير قيامة أرطغرل الذي يحكي قصة تأسيس الخلافة العثمانية ونشر صورا له ولزوجته وهما يرتديان ملابس قبيلة الكاي التي ينتمي إليها أرطغرل.
دعم فلسطين
لكي نفهم أبعاد العداء الأمريكي الصهيوني لفنزويلا وحكام أمريكا اللاتينية فإن موقفهم من الكيان الصهيوني سبب رئيسي في عداوة الحلف الأمريكي الصهيوني، فالاعتراف بدولة فلسطين بند مهم في مواقف قادة اليسار اللاتيني، فهم ينظرون إلى "إسرائيل" الطفل المدلل للولايات المتحدة بنظرة عداء وساندوا الحق الفلسطيني في كل المنظمات الدولية بمواقف أشد من مواقف ممثلي الحكومات العربية.
لقد قطع شافيز العلاقات مع الكيان الصهيوني، ورفض مادوروا قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وفي المقابل صرح المعارض الفنزويلي غوايدو الذي تريد أمريكا تنصيبه رئيسا بأنه سيعيد العلاقات مع "إسرائيل" فور توليه السلطة.
ومما يؤكد هذا الموقف الجدير بالتحية أن الحكومة الكولمبية برئاسة مانويل سانتوس المنتهية ولايتها بعد خسارة الانتخابات أمام المعارضة المدعومة أمريكيا، أصدرت بيانا قبل تسليم السلطة في أغسطس 2018 أنها تعترف بـ "فلسطين دولة حرة مستقلة وذات سيادة”.
وفي الجبهة المقابلة الموالية للولايات المتحدة أعلن الرئيس البرازيلي الجديد جايير لبولسونارو فور فوزه بالمنصب في أكتوبر 2016 دعمه لـ "إسرائيل" وكانت البرازيل أهم دولة بعد الولايات المتحدة تعلن نقل سفارتها إلى القدس وأيد قرار الرئيس الأمريكي ترامب.
***
ما يجري في فنزويلا يهمنا كعرب ومسلمين، وعلينا أن نساند الشعوب واختيارها ونرفض التدخلات الخارجية وسياسة الانقلابات الأمريكية حتى ولو اتخذت شكلا مدنيا كغطاء للتدخل العسكري، وإن قبلنا ما يجري في أمريكا اللاتينية سيكون نموذجا يتكرر في بلادنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق