الأربعاء، 20 فبراير 2019

انقلاب على الذاكرة واصطفاف فوق الجثث

انقلاب على الذاكرة واصطفاف فوق الجثث



وائل قنديل

المسألة ليست، فقط، مواجهة انقلابٍ على شرعية، جاءت بصندوق انتخابٍ بعد ثورة.. وليست مواجهة ما يطلقون عليه "الانقلاب على الدستور"، وإنما الأكثر فداحةً ومدعاةً للأسى أننا بصدد انقلابٍ على الذاكرة، يقوده، هذه المرة، نفرٌ ممن زعموا أنهم ضد الانقلاب على الشرعية، وضد الانقلاب على الدستور.

تحت لافتة "الاصطفاف"، يتم دهس التواريخ المحفوظة، وركلها بالأقدام، على نحوٍ يشبه تمامًا عملياتٍ تبدأ بالحفر الهادئ الناعم تحت الأساسات، وصولًا إلى لحظة الانقضاض الشامل على البناء الأخلاقي والمعرفي للحكاية، كما سطّرت بالدم، انطلاقًا إلى إقامة بوتيكات وبازارات تجارية، تستهدف الربح، أكثر مما تتوخّى العدل والحق والإنصاف.

هذا ما يجري فيما تسمى معركة الاصطفاف من أجل التصدّي لتعديلات دستور عبد الفتاح السيسي، إذ ينطلقون من عنوان رئيس هو: التصدّي لزيادة رقعة الاستبداد، وإثناء نظام السيسي عن تمرير التعديلات الدستورية.

حسنًا، مرة أخرى: ماذا لو فاجأكم عبد الفتاح السيسي بإيقاف ماكينة التعديلات، وسحب المشروع، كما ألمح إلى ذلك حسام بدراوي، واحد من رجال نظام حسني مبارك الذي يمثل نظام السيسي طوره الأكثر وضوحًا وتجهمًا، حين عبّر عن توقعاته بأن السيسي سيفكّك لغم التعديلات؟.

هل ستتوجهون بالشكر إلى الزعيم الذي حافظ على منسوب الاستبداد عند الحدود الراهنة، ورفض أن يضاعف كميات استبداده؟ في ذلك يردّد بعض باعة الاصطفاف السّريحة ما قاله ضياء رشوان إن دستور السيسي الذي يدعونك إلى المشاركة في الاستفتاء على تعديلاته هو نفسه دستور 2012 "دستور مرسي".. فلنفترض صحة ذلك، وأنكم تصطفّون دفاعًا عن دستور 2012، فلماذا إذن تستنكفون أن تتمسّك أطرافٌ أخرى بأن محمد مرسي رئيس شرعي؟.

لماذا تطلبون من الناس المشاركة في الدفاع عن دستور مرسي، ثم تسخرون منهم، بحجّة الواقعية، إذا ما رفضوا التنازل عن الرواية الحقيقية للانقلاب على الرئيس المنتخب؟.
ولمناسبة الرواية الحقيقية، وحقوق الذاكرة، أتذكّر أن الدكتور محمد محسوب، الوزير السابق في نظام الرئيس مرسي، وشديد الحماس الآن للاصطفاف من أجل المشاركة في الاستفتاء على تعديلات دستور السيسي، كانت له مواقف معلنة حتى العام 2015، ترفض منطق الاصطفاف التجاري، على حساب الحقائق التاريخية والسياسية، فماذا جرى حتى ينسف ذلك كله، ويهرول مع المهرولين خلف الذين طعنوا الثورة وأراقوا دماء الحقيقة؟.

لماذا يصفّق بحرارة للذين يلهون بأحاديث الاصطفاف فوق جثث شهداء ميدان رابعة العدوية، وعلى أنقاض التاريخ الصحيح؟. في نهاية نوفمبر/ تشرين ثاني 2015، كتب محمد محسوب تحت عنوان "إلا تاريخنا"، يقول" لا أدري كيف يسهُل لعاقلٍ قلب حقائق لم يمض عليها عشرات السنين، إنما أحداث عاشها 99% من شعبنا". ويشرح: "عندما يتعلق الأمر بتاريخ شعب.. فإن الانحيازات السياسية تتراجع.. وعندما تتعلق بأرواح آلافٍ من شعبنا لم تجف دماؤها، فإن القيم الإنسانية هي ما يجب أن تسود".
ويقطع محسوب بأن "أما الأحداث منذ يناير 2013 حتى الانقلاب في 3 يوليو 2013 فكانت بتوجيه تام وواضح من الثورة المضادة، بعد أن وثقت من تمكّن الخلاف بين قوى الثورة.. وبعد أن أقنعت جزءا من رفقائنا بأن الجيش في صفهم، إن هم استطاعوا حشد مليون متظاهر في الشارع". كيف يمكن أن نمضي وراء محسوب 2019، وهو يلهث خلف اصطفافٍ مع الثورة المضادة والدولة العميقة، بينما لا نزال نصدّق محسوب 2015 الذي اختتم شهادته بعبارةٍ شديدة الاحترام، قال فيها نصًا: "نحن ندعو الجميع إلى اصطفاف يستعيد روح يناير ومطالب الشعب وأمل بناء دولة العدل والكرامة.. لكننا لا يمكن أن نسكت عن التلاعب بتاريخ أمةٍ وحوادث يملكها شعب كامل ولا يجوز استخدامها لفض خصومة سياسية".

ولأنني حريصٌ على محمد محسوب، الصديق القديم، فإنني متمسّكٌ بما قلته تأييدا لما ذهب إليه في 2015، وأكرّر ما قلته في ذلك الوقت "يبدو أن بعض الأطراف على استعدادٍ لأن يضحي بالحقيقة، وبالموضوعية وبالعدل، في سبيل اقتناص "لحظة اصطفاف" عابرة، تنتهي بالتقاط مجموعةٍ من الصور الفوتوغرافية، الثمينة، يقدّمونها إلى الرعاة".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق