شهادة مروّعة من بلاط الخديوي السيسي
ما الذي يجبر ممثلًا معروفًا، هو في الوقت ذاته من المقاولين الكبار، أن يشعل النار في حصاد خمسة عشر عامًا من الثراء الفاحش، الناتج عن تعاونه مع الجيش وجهاز المخابرات في مجال الإنشاءات والبناء؟
المذهل في الفيديو المتداول للمقاول الفنان الشاب إقدام صاحبه على تفجير نفسه في وجه من يعرف أنهم باطشون وقادرون، ولا سقف عندهم للانتقام ممن يتمرّد ويرحل، ويكشف المستور من فساد الأجهزة السيادية.
صحيح أنه يفعل ذلك، بعد أن فر من دائرة الجبروت السيادي، لكن المؤكد أن شخصًا، مهما بلغت جرأته على المخاطرة، لا يمكن أن يسلك على هذا النحو من التحدّي لمن لا يرحم، ويخوض حربًا حامية الوطيس، وحده، حتى لو حرص، طوال كل هذه الدقائق التي تحدّث فيها على تأكيد أن هناك شرفاء وأحرارًا كثيرين داخل المنظومة العسكرية والسيادية.
يضعنا هذا الأمر، نظريًا، أمام فرضية أن جهةً ما، داخل النظام، ربما تكون بالنسبة له حائطًا يستند إليه، وسقفًا يمكن أن يوفر له بعض الأمان، إلى الحد الذي يجعله يسرد الوقائع بالأسماء والأرقام والمناصب، واصلًا إلى اتهام عبد الفتاح السيسي وزوجته بالفساد والتربّح وشفط موارد البلاد وتبديدها في صناعة هالة خديوية، تذكّر بما ورد في المذكرات والشهادات التاريخية عن فترة الحكم الخديوية والملكية.
على أن قيمة هذه الشهادة، الانتحارية، أنها تأتي على لسان شاهدٍ من أهلها، وتكشف بدقة أسرارًا من مملكة الفساد الخديوي، وتبين دهاليز فن المقاولات ومقاولات الفن، إذ يحدّد المقاول الفنان أماكن قصور الأسرة السيسية وتكلفتها الخرافية، وعطاياه المليارية لطبقة الإقطاع العسكري التي انتعشت مع استيلائه على السلطة، وكيف تدار صراعات النفوذ داخلها، على نحوٍ يثير الدهشة والقلق على المؤسسة العسكرية التي تشير مظاهر عديدة إلى تفرغها الكامل للنشاط الاقتصادي والاستثماري، في دولةٍ قررت إشعال النار في الطبقة الوسطى، لتتساقط رمادًا ودخانًا فوق الطبقات الأقل، فتزداد اختناقًا.
كان واضحًا من البداية أن الجنرال عبد الفتاح السيسي، منذ أن استولى على الحكم بالقوة، يسلك كما لو كان ذلك الخديوي المهووس بمظاهر العظمة والفخفخة، كما بدا في هيئته الخديوية، وهو يحتفل على ظهر يخت المحروسة بافتتاح تفريعة قناة السويس، في حفل أسطوري يحاكي ما كان مع الخديوي سعيد، حين رهن مصر كلها للخارج، لكي ينعم مع أسرته بحياة البذخ والأبهة.
شخصيًا، أتمنى من صميم قلبي أن يكون كل ما ورد في هذه الشهادة كاذب، ذلك أننا لا نزال نتشبث بشعاع أملٍ هزيلٍ في جيش لم يستسلم كليًا لطوفان الفساد، كما لا أرى في صاحب الشهادة بطلًا مغوارًا، فهو يقرّ بأنه عاش في كنف هذه المنظومة الفاسدة، بتعبيره، خمسة عشر عامًا، لكن بيان كذبها من عدمه يتطلب قرارًا محترمًا بإطلاع الشعب على الحقائق بشفافية. ولكن كيف ذلك في دولة تُدار من الغرف المعتمة، دولة ميتة الضمير مفقوءة العين، فهذا برلمانها الذي هو ضمير الشعب إدارة عسكرية تنفذ تعليمات الجنرال والأسرة، وتفترس كل من يطرح سؤالًا أو يطلب تحقيقًا أو توضيحًا، وتلك صحافتها وإعلامها اللذان هما عينا الشعب قد فقدا البصر والبصيرة، ويتم تشغيلهما بمعرفة قصر الرئاسة.
قبل أقل من أسبوع على هذه الشهادة المدوّية، قلت تحت عنوان"إحراق الهامش.. ليس للجنرال من يشاركه" إنه مع سلطة الجنرال الجائع للتسلّط والتوحش والهيمنة، ليس ثمّة ضابط للجموح، ولا صحافة يمكن أن تتكلم، ولا رأي عام يستطيع الاحتجاج والغضب، أو حتى يجأر بالشكوى، في هذا الهامش الضئيل، المتروك عن قصدٍ من أهل سلطة حسني مبارك، فالجنرال السيسي يهيمن على كل تفاصيل المشهد، فيزرع أحد أبنائه ليكون الرجل الأول في المخابرات العامة، والثاني يهيمن على الرقابة الإدارية، لتتشكل ملامح دولةٍ ملكيةٍ عسكرية، تقوم على حكم الأسرة.
مرة أخرى، يحدونا الأمل في أن هناك من يرفض أن تُهان العسكرية المصرية، ويمسح بها بلاط الخديوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق