"خلال 150 عاماً من تاريخ مصر "1805 – 1952" حكم الباشوات بلادنا وملكوا كل شئ فيها: السياسه والجاه وصداره المجتمع ولكن من استولي علي القصور والاموال والضياع؟ السوبر باشوات: باشوات بلا القاب واشراف بلا شرف وناس بلا انسانيه ومواطنون بلا وطنيه".
هذه العبارات كتبها المؤرخ المصري حسين مؤنس، والذي تمر ذكري مولده 28 اغسطس 1911 ..
ونستعيد في السطور التاليه بعضا من افكار كتابه الشهير "باشوات وسوبر باشوات: صوره مصر في عصرين" الصادر عن زهراء الاعلام العربي، في صيف عام 1983 .
علي صفحات مجله "اكتوبر" ، بدا الدكتور مؤنس في نشر مقالاته التي صدرت فيما بعد في كتاب عام 1985، حيث قدم مراجعه نقديه لثورة يوليو في حقبتيها الناصريه والساداتيه، خاصه وقد اعفاه من الحرج ان تولي الحكم رئيسا جديدا ليس من رجال الثوره وهو مبارك.
يقول مؤلف الكتاب عندما اعلنت انجلترا انها اباحت للباحثين الاطلاع علي اوراق وزارة الخارجية التي انقضي علي احداثها ثلاثون عاماً ، كان - اي المؤلف - من اوائل الذاهبين للاطلاع علي وثائق مصر والعالم العربي. وبعد ان صور مئات الوثائق وعاد بها الي مصر وقراها كون في ذهنه صوره تفيد بان تاريخ مصر قبل الثوره يدل علي ان مصر عصر الباشوات والانجليز والملك. وتاريخ مصر قبل ثوره 1952 كان لعبه سيئه عقيمه بين هذه الاطراف الثلاثه من ناحيه والشعب المصري ويمثله الوفد المصري والحزب الوطني من ناحيه اخري.
يتابع : استطردت بعد ذلك الي ثوره 1952 فوجدت نفسي بالفعل في ظلام دامس، فالعصر الناصري كله عصر بلا وثائق ولا ميزانيات يمكن تصديها، انما هو صراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب ثم صراع بين عبدالناصر وزملائه. وهؤلاء يتصفون واحداً واحداً فلا يبقي في النهايه الا عبدالحكيم عامر، والصراع بينهما مرير طويل، وفي اثناء الصراع بين الاثنين ينتقل السلطان الفعلي الي طبقه غريبه من فئران السياسه يسيطرون بالخبث والمكر والجهل والجشع علي مصائر الناس وتحت ستار حمايه النظام ارتكبوا اعمال عدوانيه بالغه علي هذا الشعب وامواله وقيمه.
ونهبوا الاموال بلا حساب واوهموا رئيسهم ان شعب مصر كله يتامر عليه وان القتله والمغتالين يتربصون به عند كل منعطف ولم تقتصر عمليات القبض والمصادرات ونهب الاموال علي الخصوم السياسيين من رجال الاحزاب والاخوان المسلمين، بل وضعوا في السجون مئات من الناس ممن لا تخطر السياسه لهم علي بال، وبعضهم كانوا "عيالاً" حقاً، حبسوهم ومضوا يعذبونهم بحثاً عن اوهام مثل "التنظيم السري للاخوان" وما وجدت في دراساتي دليلاً واحداً يثبت انه كان هناك تنظيماً سرياً لاخوان بعد ان اصيبت الحركه كلها بضربه قاصمه عقب اعدام رؤوسها الخمسه بعد محاوله اغتيال عبد الناصرفي ميدان المنشيه في 26 يوليو عام 1954، وهي محاوله مدبره يدور حولها الف شك وشك.
قبل ثوره يوليو كما يقول مؤنس في كتابه كان في مصر عالم قائم بذاته محوط باسلاك شائكه عاليه ومحرم علي غير اهله ، وهو عالم يسمي الباشوات.
الغالبيه العظمي من الباشوات كانوا وزراء لان الباشويه تاتي في العاده مع الوزاره، ولم تات بمفردها الا لنفر قليل جدا من العباقره من امثال مصطفي كامل باشا، وطلعت حرب باشا، واحمد عبود باشا، وعندما تستعرض اسماء الباشوات تتعجب من ان بعضهم كان لا يخرج من وزاره الا دخل وزاره، كان حكومة مصر لا تصلح ابداً ولا تجوز الا اذا كان معاليه فيها.
وصاحب الرقم القياسي في هذا هو حسين فخري باشا الذي تولي الوزاره 26 مرة، ويليه حسين سري باشا الذي تولاها 25 مره، ثم علي ماهر باشا 23 مره، وكان المفروض ان كل الباشوات اغنياء, ولكن واقع الحال ودفاتر البنوك تقول ان عشرات الباشوات كانوا افقر من الافنديات، وبعضهم كان كل ما عندهم مرهوناً حتي السياره وفي اكثر من مره ادخلوا رجلاً الوزاره حتي يستطيع ان يسدد ديونه ويصلح احواله ويجهز بناته لان الباشوات في جملتهم كانوا عقلاء مدبرين ولكن الست هانم حرم سعاده الباشا كانت دائماً مسرفه تنفق من غير حساب.
وينتقد المؤلف الملك فؤاد ويصفه بانه كان طماعاً لا تعمر قلبه ذره من حب حقيقي لمصر ولا يفكر في رفاهيه شعبها، وقد استعان في عمله بباشوات السراي وبخاصه من كانوا يتولون رياسه الديوان الملكي منهم ، وقد وقفوا جهدهم علي خدمه انفسهم عن طريق الطاعه المطلقه الذليله للملك والسفير البريطاني احياناً، وهذا وحده كان كافياً لكي يبغضهم الشعب بغضاً بالغاً.
من يفكر في عصر ما قبل الثوره يتصور ان مصر عاشت في عصر الباشوات مئات السنين، مع ان الباشوات ظاهره قصيره العمر في تاريخ مصر، عمرها لم يزد علي 150 سنه ففي سنه 1800 لم يكن في مصر الا باشا واحد هو طاهر باشا الوالي التركي، وفي سنه 1805 اختار المصريون باشا جديداً هو محمد علي باشا واعطوه الجنسيه المصريه وطلبوا الي السلطان العثماني ان يعينه والياً علي مصر ووافق السلطان وسافر طاهر باشا الي استامبول وبقي في مصر باشا واحد نصف تركي ونصف مصري هو محمد علي وتلك هي بدايه قصه الباشوات في مصر.
ويكتب عن انتهاء عصر الباشوات قبل الثوره قائلاً انه في الفتره من 1936 الي يوليو 1952 ظهر بجلاء ان كل القوي العامله في الميدان السياسي قد استهلكت والفراغ السياسي اصبح واسعاً ورشح الإخوان المسلمون انفسهم لسد الفراغ.
وخلال سنتي 1951 و1952 ظهر بوضوح ان عالم الباشوات قد انتهي واصبحوا عاجزين عن السيطره علي الامور وقياده المجتمع، ومع بدايه 1952 وحريق القاهره كان هذا نذير خطر وانذار بيوم 23 يوليو 1952 وفي الفرنسيه مصطلح يعني "افلاس النظام" فيظل النظام قائماً ولكنه خاو من الداخل وقد فقد قوته وفاعليته وفقد ثقه الناس واحترامهم وتقديرهم واصبح سخريه. هذه بالضبط كانت صوره عالم الباشوات قبيل ثوره يوليو 1952.
لقب يطلقه المؤلف علي رجال ثوره يوليو، فيقول مؤنس ان رجال الثوره حلوا في القياده محل الملكيه والانجليز والخواجات فالباشوات ويتبعهم الباكوات كانوا يشغلون مساحات ضخمه من حياه مصر، وقد سدت قياده الثوره فراغ القياده ولكن بقيت مساحات شاسعه واموال ضخمه بلا شاغل او مالك، هنا دخل واحتل وتربع وتملك طراز جديد من الناس هو طراز السوبر باشوات.
يتابع: دخلنا في دوامه الناصريه وتحول الحكم الي استبداديه عسكريه وفرضت الرقابه علي الصحافه وكل صوره من صور حريه الراي، واصبح لمصر كلها سيد واحد وكان الاخوان اول الامر شركاء لشيعه عبدالناصر، فلما تم له النصر عصف بهم فلم يستثن الا الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي اعلن انفصاله عنهم قبل ان يدخل الوزاره.
ويؤكد الكاتب في الكتاب ان طائفه معينه هي جماعه من ضباط الصفوف الثانيه وما تحتها ممن كانوا يعملون في مكاتب رجال الثوره نهبوا اموال وممتلكات القصور الملكيه ونهبوا الاموال من اصحابها وكان من المفروض ان يحصوها احصاء دقيقاً ويحافظوا عليها لتظل في ملكيه الشعب، وقد تسلموها ولا احد يدري ماذا جري لها بعد ذلك لانها اليوم غير موجوده، والامر كما يقول لا يقتصر علي املاك الملك ومحتويات القصور الملكيه وهي ثروه قوميه، ولكن جاءت بعد ذلك مصادرات اموال كل طبقه الباشوات واسرهم واتباعهم ثم املاك الخواجات وشركاتهم ومتاجرهم واموالهم اي مدخرات مصر خلال 150 عام، فاين ذهبت؟.
يتابع قائلاً ان عبد الناصر كان يسمي عصر ما قبل الثوره عصر النصف في المئه، اي نصفاً في المئه من اهل مصر كان يملك مصر كلها بمافيها، وبقيه اهل مصر 99.5% لا يملكون شيئاً، ولا يزالون لا يملكون شيئاً فاين ذهبت اموال مصر ومدخراتها خلال قرن ونصف؟ يسال عن ذلك السوبر باشوات، واستمر هذا العصر حتي موت الرئيس السادات في ضحي 6 اكتوبر 1981 كما يقول المؤلف.
اعجب الاعاجيب كما يقول مؤنس ان مخلفات من عثرنا علي قبورهم من الفراعنه ملوك ممصر القديمة يبلغ عدد قطعها اكثر من مئتي الف قطعه. وهذه مخلفات ملوك وامراء واشراف مصريين مضي علي وفاه اقربهم الينا 3000 سنه اما الباقي من مخلفات ملوك مصر وامرائها من اسره محمد علي فلا يزيد عدد قطعه علي 11247 قطعه، هي المحفوظه الان في خزائن البنك المركزي!.
وعن الفساد وبدايته في مصر يرجعه الكاتب الي امر صدر في ديسمبر 1952 بمصادره املاك الملك واسرته واملاك كل افراد الاسره المالكه من اراض وقصور ومحتوياتها والاموال. وتمت العمليه علي اسوا صور الفوضي فان وزير الماليه اذ ذاك اصدر امراً بان يخرج كل افراد الاسره من بيوتهم وتغلق وتشمع حتي يتسني للجان الجرد حصر محتوياتها، ثم تعاد اليهم علي ان تعتبر القصور وما فيها عهده في امانتهم يسالون عنها، علي ان يسمح لكل منهم بالاقامه في قصر واحد من قصوره وتترك له سياره واحده ويظل الامر علي هذا الوضع حتي تتخذ الدوله ما تراه في القصور واصحابها وما فيها.
وتكونت لجنه مركزيه للمصادره والجرد، والي كل قصر من قصور الملك والمراء وعدد اسرهم 417 اسره ومعظمهم كان يملك اكثر من قصر كانت تذهب لجنه جرد.
والمساله بدات بقصور الملك والاسره المالكه ثم اتسع الموضوع بمصادره اموال من سموهم بالاقطاعيين، ثم بعد حرب السويس في صيف 1956 بمصادره املاك الاجانب وشركاتهم وبيوتهم ومتاجره وبنوكهم، ثم اصبح الامر فوضي بلا ضابط، حتي اممت مخابز ومحلات حلوي ومصانع اثاث ومتاجر صغيره، لان الامر اصبح عمليه نهب يقوم بها جيش من الغزاه.
وفي تلك السنوات نشا ما يسني بالشرعيه الثورىه ومعناها ان الثوره لها شرعيه خاصه بها تسمح لها بالاعتداء علي الاموال والانفس دون حساب او محاسبه.
بلغ عصر السوبر باشوات ذروته من 1956 الي 1970 وليس ادل علي ذلك من هزيمه يونيو 1967، فمؤامرات السوبر باشوات حالت بين جيش مصر ودخول المعركه التي انتهت قبل ان تقوم، فجيش مصر لم يدخلها قط، تميز عصرهم كذلك بمعاداه اهل العلم معاداه صريحه.
ويقول مؤنس : عبدالناصر كان يذل الناس ويعذبهم ويمتهن كرامتهم لانه كان يحس ان مصر لا تتسع لانسان اخر عزيز النفس مرفوع الراي الي جانبه.
ويرجع الكاتب لعصر عبدالناصر جذور مشاكل اليوم الفوضي وعدم احترام القانون وضعف الاحساس بالجماعه وقله الشعور بالانتماء.
تحميل كتاب باشوات و سوبر باشوات - حسين مؤنس اضغط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق