المستقبل للإسلام.. سنة الله ودرس التاريخ
د. عبد الحليم عويس
نحن أمة -بعد تجربة أربعة عشر قرنًا- لم تدرس تاريخها، ولم تستخلص منه العبر على النحو الذي يليق به وبها. ونحن -كذلك- أمة لم تدرس مصادر دينها وحضارتها من قرآن وسنة -بعد أربعة عشر قرنًا- دراسة سننيّة وحضارية؛ لتدرك منها موقعها الصحيح الذي أراده الله لها في معترك الحضارات.. بعد أن كلف الله نبيها وإمامها العظيم بحمل راية (النبوُّة الخاتمة) وبعد أن استهلَّ الله لها وجودها المادي والمعنوي بآيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
فتحددت رسالتها في تقديم الدين الصحيح الخاتم الذي ينصف كل الرسالات وكل الأنبياء.. ويعيد للنبوّة -في معترك الأفكار والعقائد والحضارات المتوالية- صفاءها وتألقها، كما أنزلت على الأنبياء من السماء نقيَّة غضة لا تحمل شوائب أو نفايات أفكار وضعية أو إسقاطية. كما تحددت رسالتها أيضًا في تقديم العلم الصحيح مع الدين الصحيح؛ فالقراءة للكون أو للحياة أو للأفكار يجب أن تكون {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.. ولا تكون مجرد قراءة نفعية يقوم تسخيرها للطاقات التي تبثها في الكون على القهر والإذلال والعبث والمتعة العابرة، وإشباع الغرائز والأنانية والمادية والعنصرية.
وإنما يقوم هذا التسخير على الحبِّ والتراحم والإفادة من طاقات الكون بطريقة كريمة تحفظ لمفردات الكون -من حيوانات ونباتات وجمادات- لحقوق وجودها في إطار من التسخير العادل الرحيم الذي تتَّجه النيَّة فيه إلى تعمير الكون (باسم الله الخالق)، وتتحدد الغاية منه (العبادة لله الرازق)، وتتخذ فيه وسائل تليق بطريق يقصد منه الوصول إلى الحق والنفع العام ورضا الله.
الإسلام.. قدرة دائمة على الانبعاث
لكن المسلمين بعد قرون الألق الأولى، اهتزت في رؤيتهم الفكرية وسلوكياتهم العملية طبيعة الرسالة التي كلفوا بها.. فغالوا في بعض جوانب الدين دون أن يمزجوا فكرهم بالرؤية الشمولية وبالعلم الإيجابي الذي يبني ولا يهدم، ويجمع بين قراءة الوحي والعقل والحياة والكون، ويستخلص -من مجموع هذه القراءات- قوانين في عالم الفيزياء والنفس والفلك والطب والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وغيرها.
ومع ذلك -أي مع هذا الانحراف الجزئي- فإنهم قد قدموا الكثير، وغيرَّوا مجرى الحضارة لنحو عشرة قرون، حتى كلت سواعدهم، وأصاب الغبش أبصارهم.. فقبلوا الواقع المريض، وظهرت فيهم عوارض المرض الخطير، وهو "القابلية للإذلال" والتكيف معه، سواء كان هذا الإذلال قادمًا من الخارج "القابلية للاستعمار" -حسب تعبير مالك بن نبي- أم كان قادمًا من الداخل (القابلية للتكيف مع حكم الجور وحكومات الاستبداد والظلم).
نعم، لقد ظهرت هذه القواطع كثيرًا في تاريخنا بتأثير اضمحلال فكري أو قهر سياسي أو تذبذب طارئ وقع فيه الفصل النسبي بين حركة الدين والعلم.. لكننا -مع كل ذلك- لم تهزمنا الضربات العسكرية ولا الغزوات الفكرية أو القهر السياسي الداخلي، وما يتبعه من تمزق وفوضى. لقد بقينا دائمًا -بقيادة صفوة مؤمنة مجددة واعية- قادرين على الانبعاث والاستئناف، والعودة إلى وقود مصادرنا الأصلية التي لا يأتيها الباطل؛ قرآنًا وسنة وسيرة عملية نبوية.
وكم من مرات وقعنا، وظن الذين لم يفقهوا السنن القرآنية ولا النبوّية ولا موقعنا الحضاري أنها (نهاية التاريخ) بالنسبة لنا.. لكننا سرعان ما يظهر منا الفارس المؤمن الواثق بدينه ووعود ربّه في قرآنه الكريم.. وسرعان ما يلتفّ الناس حول أساتذته الذين علموه حقيقة الإسلام، ورجال آخرون مخلصون كانوا ينتظرون اللحظة.. وبه -وبهم- يعود قطار الأمة إلى قضبانه الصحيحة، ولا تمضي سنوات قليلة، أو عقد من العقود، حتى تتحرك الأمة؛ مثبتة أنها -بحق وعلى الرغم من الخائنين والمنافقين- خير أمة أخرجت للناس، وأنها الأمة الباقية إلى يوم القيامة، شهيدة على الناس، حارسة لموازين القيم والأخلاق الجديدة بالإنسان، ولميزان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما أراده الله.
تجارب العصر المثالي (النموذج)
انظر منذ بداية تجربتنا الإسلامية القرآنية المحمدية على الأرض، كيف نجا رسول الله محمد بن عبد الله وصاحبه الصديق (ثاني اثنين) من حصار عنيف وتخطيط إبادي للدعوة ورجالها حين خرج مهاجرًا ليبني دولة الإسلام الأولى في يثرب التي أصبحت "مدينة رسول الله". ولم تمرّ سنوات قلائل حتى كان قائد هذه "الدولة" المدنية يخاطب -بقوة إيمانية- أباطرة العالم القديم وملوكه يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسالته، جامعًا في خطابه بين أدب الدعوة وقوة البلاغ، غير مرتاب ولا هياب!!
وانظر كيف نكصت كثير من قبائل العرب على عقبيها بعد وفاة القائد الأعظم والإمام الأتقى والأذكى.. فارتدّت عن الإسلام رافضة دفع الزكاة، أو منحرفة عن الإسلام كله خلف دجالين كذابين من أمثال مسيلمة الكذاب، لكن الرجل الذي يوزن إيمانه بإيمان الأمة كلها.. أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يأبه بكل المعادلات المادية والعسكرية، وقاتلهم قتال حياة أو موت بأحد عشر جيشًا أخرجهم من مدينة الإسلام وممن حولها من المؤمنين الثابتين، ونصره الله ونصر جيوشه، ولم يقف النصر عند هذا الحدّ، بل بدأ ينتقل من موقع الدفاع والانكفاء في المدينة وما حولها، إلى موقع الانسياح في الأرض، خروجًا بالمعركة إلى أرض الأعداء، وإشعارًا للعالم بأن هناك خلافة إسلامية عظمى تقود دعوة الإسلام وحركته في العالم.
وانظر إلى ما يسميه بعضهم بالفتنة الكبرى (35- 41هـ) التي وقعت بين الصحابة بتأثيرٍ يهودي ونفاقيّ وفارسيّ.. وظن بعضهم أن الإسلام سينتهي بين الكوفة (عاصمة الإمام علي) ودمشق (قلعة معاوية) رضي الله عنهما، وأن أمر الجزيرة قد انتهى إلى الخمول والتآكل.
لكن سرعان ما أدرك الحسن -وجزاه عن الإسلام خير الجزاء- مصلحة الإسلام العليا فآثرها غير مبال بسفاهة السفهاء ولا باعتراض المعترضين.. وكان عام (41هـ) هو عام الجماعة، وحمل بنو أمية (41- 132هـ) راية الجهاد وفتحوا معظم أقطار العالم القديم.
غارات قاتلة يعبرها الإسلام
وانظر إلى الحروب الصليبية التي استمرت أكثر من قرنين من الزمان، وكانت غارة عامة تعاونت عليها أوربا كلها، وأرادت منها أن تكون احتلالاً كاملاً لبلاد العرب مشرقها ومغربها.. وحتى مكة المكرمة ومدينة رسول الله فكرَّ بعض الصليبيين الحمقى في اجتياحهما.. مثل القائد الصليبي المجرم (أرنولد - أرناط) الذي قتله صلاح الدين الأيوبي بيده لكثرة جرائمه، واستخفافه بالإسلام وبرسول الله محمد .
لقد استولى المسلمون على القلاع الصليبية كلها (طرابلس والرها وأنطاكية وبيت المقدس) بفضل عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ثم بفضل دولة المماليك وريثة بني أيوب.
ولا نستطيع أن نتجاهل درس التتار المروِّع الذي حوَّل بغداد إلى أنهار من الدماء وأسقط الخلافة العباسية سنة 656هـ.. وظن الناس أن سقوط الخلافة العباسية يعني قرب يوم القيامة، و(نهاية التاريخ).. لكن -وهذا من معجزات الإسلام العظمى- لم يمض أكثر من عامين حتى كان المماليك بقيادة الفارس المسلم (سيف الدين قطز) وبرعاية العالم التقي الورع الذي لم يخش في الحق -ولا في الجهاد- لومة لائم "العزّ بن عبد السلام".. حتى كان التتار يُضربون من جنود الإسلام الضربة التي قضت عليهم وعلى كل آمالهم، وذلك في موقعة "عين جالوت" سنة (658هـ) تحت راية (واإسلاماه) التي رفعها سيف الدين قطز .
ولم تمض سنوات أخرى بعد (عين جالوت) إلا وكان هؤلاء التتار قد أسلموا بعد أن عرفوا الإسلام بعيدًا عن جوِّ الحروب وصدام الحضارات والتشويه والكذب الذي يتعامل بعضهم به -ضمن استراتيجيتهم- مع خصومهم.. حتى ولو كان خصومهم هؤلاء أرقى منهم حضارة، وأذكى منهم عقولاً ونفوسًا.
الإسلام من الدفاع إلى الهجوم
وها هي حركة الإسلام في التاريخ تقدم -بفضل الله- معجزة كبرى، فقد تحول المسلمون من الدفاع إلى الهجوم، وظهرتالخلافة العثمانية سنة (720هـ- 1299م) التي ظل اسمها يرعب أوربا، لمدة أربعة قرون، وقد سيطر العثمانيون على أوربا الشرقية، واقتربوا من قلب أوربا الغربية لولا ظهور الخونة "الصفويين مدّعي التشيع" الذين ضربوا العثمانيين من الخلف، واضطروهم لتغيير خططهم والانسحاب من أوربا الغربية!!
لكن دولة آل عثمان حَمَت العالم الإسلامي من الغزو الصليبي الذي أراد عبور جبل طارق وجزيرة طريف وغزو العالم العربي من الشمال الإفريقي، بعد أن فشل في غزوه من الشرق البيزنطي.. ونجح العثمانيون في استعادة ما كان الصليبيون قد استولوا عليه في تونس والجزائر والمغرب الأقصى، وطردهم تمامًا من هذا الجانب.. ونجحوا أكثر في ضرب أوربا شرقًا ضربة قاضية حين استولوا على (القسطنطينية) وشرق أوربا، وقضوا على الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وحصروها في الجانب الأوربي الروماني الغربي.. وكان ذلك بقيادة شاب لم يتجاوز سنُّه الثانية والعشرين.. وهو الفاتح العظيم (محمد بن مراد الثاني) .
وكما تعاونت أوربا في حروبها الصليبية الأولى تعاونت -كذلك في حروبها الصليبية الثانية- ضد الخلافة العثمانية، حتى أسقطتها بقيادة بعض الخونة من العرب والأتراك واليهود سنة (1924م/ 1342هـ).
ومع انفراط عقد العالم الإسلامي، ومع الاحتلال الأوربي (بريطانيا وفرنسا بخاصة) لكثير من أقطار المسلمين الكبرى والصغرى، والقيام بحركة تمزيق كبرى إلى مجموعة من الدولة القطرية المستبدة الوريثة للاستعمار، والتي كثيرًا ما تحمل مسمى (الدولة) -أو الدولة المستقلة- والتي فاوض رجال الاستعمار قياداتها الاستقلالية -غير الإسلامية- على خطة للاستقلال تحتفظ للدولة باستقلالها الجغرافي القطري (التمزيقي) وبشعار (الدولة المستقلة)، وتحتفظ دولة الاستعمار لنفسها ببقية أوراق الحياة؛ اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
انبعاث الأمة الإسلامية
ومع ذلك كله تألقت الأمة المسلمة، وحملت الراية الإسلامية، ولم تتركها لطبقات الساسة يساومون عليها أو يتاجرون بها، حفاظًا على مقاعدهم وامتيازاتهم.. وظهر مصلحون ومجددون هنا وهناك يحاولون تبصير "الدولة المستقلة" بوظيفتها، ويحملون همَّ بذر بذور الإيمان، ويبعثون في الأمة روح الأمل؛ انطلاقًا من أن (اليأس) في القرآن صفة مقرونة بالكفر {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وانطلاقًا من "إشراقات الأمل" التي كانت لازمة من لوازم قائدهم الأعظم ونبي الله الكريم محمد -عليه الصلاة والسلام- في أصعب المواقف.. حتى وهو في (الخندق)، وحتى عندما لحق به (سراقة بن مالك في الهجرة).. وانطلاقًا من طبيعة رسالتهم التي يجب أن تبقى لأنها (النبوّة الخاتمة) التي لا نبوّة بعدها، ومن أنهم جميعًا (أمة متبعة عليها واجب البلاغ) بأمر ربها في القرآن، وبأمر نبيها في السنة، حتى ولو قامت القيامة وبيد أحدهم فسيلة، فإن عليه أن يغرسها. وكذلك انطلاقًا من تجربتهم التاريخية الحافلة بالصراع مع أهل الباطل، كفارًا كانوا أو منافقين.
صفوة مؤمنة وأمة واعية
وحفلت هذه المرحلة الأخيرة بدعاة ومفكرين من طراز نادر، دعوا إلى الاستقلال الحقيقي، والانبعاث الحضاري، ومقاومة اليأس، والجمع بين التدين الرشيد والعلم السديد، والأخذ بأسباب التقدم والإيمان بالتفوق الإيماني والقيمي والعقلي في نظرته للإنسان والكون والحياة والعلاقة بالله.
وقد أثبت هؤلاء -والأمة من ورائهم بحق- أننا أمة لم تستسلم قط لليأس، ولم تتعوّد عليه (كما يقول المفكر المسلم سيد نقيب العطاس)؛ إذ ليس مسموحًا لنا في عقيدتنا الإسلامية التوحيدية أن نيئس، وأن نفقد الثقة بأنفسنا؛ وليس من الممكن لنا أن نجلس مكتوفي الأيدي دون أن نعمل شيئًا غير الصراع فيما بيننا، والهذيان بالشعارات الفارغة والحركات السلبية.. لقد بدأ الوعي بهويتنا الإسلامية يلوح في الأفق، ويتفتق في ضمير الأجيال الصاعدة من المسلمين.
وعندما يصل هذا الوعي إلى مرحلة الصحوة التامة بفضل شروق شمس المعرفة، سينبعثُ يومها من بيننا رجال ونساء ذوو نضج روحي وفكري نابع من صميم الأصالة، وسيؤدون المهمة المنوطة بهم بحكمة ورصانة ترفع راية الحق عالية بإذن الله تعالى.
إننا نقول لكل المسلمين، المؤمنين حقًّا بالقرآن وبرسالة النبوّة الخاتمة: من أين لكم اليأس وهل في دينكم شيء يسمح به؟ ولماذا لا تعملون وتأخذون بالأسباب في حدود (إلا وسعها - وإلا ما آتاها) ثم تتركون الأمر لله الذي حوَّل (عصا موسى) -وهي مجرد عصا- إلى أداة سحرية تفلق البحر ويَضرب بها موسى الحجر -واثقًا في الله- فتنبجس منها اثنتا عشرة عينًا يشرب منها قوم موسى؟!!
وهل تتذكرون قصة صاحبنا الذي أسلم في أيام الخندق بعد أن زلزل المؤمنون زلزالاً شديدًا.. إنه نعيم بن مسعود.. الذي أخبر الرسول بإسلامه وعرض عليه خدمات في هذا الوقت العصيب، فقال له الرسول كلمة واحدة.. كأنها (منهاج عمل): "فخذِّل عنا". فاستطاع الإيقاع -بسلاح التخذيل- بين قريش واليهود، وبدأت رحلة هزيمة المشركين.. مع أنه (رجل واحد)!!
إمكانات عصرية قليلة ونجاحات كثيرة
ولم يخل عصرنا الحديث من دروس رائعة للأمل.. مع قلة الإمكانات، وأحيانًا مع انعدامها.. لكنه الإيمان، ولكنها الثقة في الله صانعة هذه المعجزات لهذا الدين الخالد خلود الشمس والقمر؛ ففي أحلك ظروف سقوط الخلافة العثمانية -سنة 1924م في تركيا- ومع زحف اليهود والصليبيين والعلمانيين والتخطيط لتجفيف منابع الإسلام.. ظهر بعض الرجال العظماء الذين قاوموا اليأس، وجاهدوا، وأنقذوا عشرات الملايين من براثن الإلحاد والانحلال.. بعيدًا عن الصدام بالسياسة أو الانشغال بها أو بأهلها.. وكان لبديع الزمان سعيد النورسي، وتلميذه العظيم فتح الله كولن، وسليمان حلمي، وغيرهم.. اليد الطولى في هذا الطريق الرائع الذي شق مجرى جديدًا ليبعث المسلمين ويعود بالإسلام إلى مكانته بأسلوب عصري ملتزم لخدمة هذا الدين الصالح لكل زمان ومكان.
ولأن المجال لا يسمح باستعراض هذه التجارب الرائعة التي نجحت نجاحًا تجاوز كل الحدود لقيامها على الثقة في وعود الله والأمل في عودة الإسلام للقيادة، نكتفي بتقديم بعض الكلمات التي التزم بها إمام من أئمة النهضة الكبار، وهو بديع الزمان النورسي لنضعها.. ونخضع تجربته في الأمل والثقة والعمل، بين يدي أمتنا، ممثلة في دعاتها وشعوبها وحكامها.
يقول المجدد (النورسيّ) الذي عاش في عصر (أتاتورك) و(سقوط خلافة آل عثمان) و(ظروف إخراج الإسلام من تركيا وإحلال اللادينيّة).. يقول على الرغم من كل هذه الأوضاع: "إن الحق المغلوب أمام باطل، ليس مغلوبًا بذاته.. وإنما بوسائله.. ولكن (الحق يعلو) بذاته -أولاً- ويعلو بالعاقبة -ثانيًا- فالعاقبة دائمًا للمتقين!! و"إذا ما انتصر الباطل -في مكان وزمان معيَّنين- فقد كسب معركة، لكنه لم يكسب الحرب كلها؛ لأن "العاقبة للمتقين"!!
"يا معشر المسلمين، لقد أزف بزوغ أمارات الفجر الصادق، ودنا شروق شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية.. وإنني أعلن بقوة وحزم؛ بحيث أسمع الدنيا كلها -(وَأنْفُ اليأس والقنوط راغم)-: أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده.. إن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان...".
الإسلام وحده المؤهل لقيادة المستقبل
"إن مَدَنيّة الإسلام التي تتضمنها الشريعة الغراء هي وحدها التي ستظهر وتسود عند انقشاع هذه المدنيّة الأوربية التي تقوم على (القوة) و(المنفعة) و(العنصرية) و(الصدام) و(الهوى).. وإن الإسلام -وحده- هو الذي يملك أسس الحضارة الإيجابية البناءة.. القائمة على (الحق) و(الفضيلة) و(الرابطة الدينية والوطنية الإنسانية) و(التعاون)... إن المدنيّة الإسلامية قادمة قريبًا بإذن الله؛ لتضع (الهدى) بدل (الهوى).. ولتحكم -من خلال أسسها الإيجابية- على الخدمات التي تقدّم للبشر في ظل ضوابط (الهدى) التي من شأنها رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، بينما شأن (الهوى) الذي يقود المدنية الأوربية.. أن يرتدَّ بالإنسانية إلى أسفل سافلين.
وأنتم.. أيها المسلمون القادمون بعدنا، الصاعدون إلى ذُرا المستقبل الرفيع.. لقد جئنا نحن في شتاء الحياة، أما أنتم فطوبى لكم ستأتون في ربيع زاهر كالجنّة.. إن ما نزرعه اليوم وما نستنبته من بذور النور، سيتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. ونحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا أن تعوجوا إلى قبورنا، وأن تغرسوا بعض هدايا ربيع الإسلام على قمة القلعة التي تضم أجسادنا.
أجل، إن يوم الإسلام قادم.. وإن مئات المبشرات تؤكد لذوي الألباب والبصائر اقتراب هذا اليوم.. لقد عاشت البشرية أكثر من ثلاثة قرون تحت وطأة مدنية لا تعرف الرحمة ولا السلام.. فحروبها موصولة، وصدامها الحضاري لا يهدأ.. ومشروعات تدميرها النووي والأخلاقي للحياة والكون لا تنتهي.. ولا حدود لها.. وقد حان وقت العودة.. عودة الإنسانية إلى الرحمة والتعارف والعدل.. وقد آن للبشرية أن تستظل براية الإسلام وتستريح.. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
د. عبد الحليم عويس
الأحد
02 أيار/مايو 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق