قصة أكتوبريْن!
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
في 6 أكتوبر 1973 كان المشهد العربي يختلف جذرياً عن المشهد في 6 أكتوبر 2013.
ظهر العرب للمرة الأولى، ولبرهة من الزمن، يقاتلون إسرائيل معاً، ولم يقاتلوها قط صفاً واحداً كما فعلوا يومئذ.
كنت وقتها طفلاً، وكان سميري المذياع، أستقي منه أنباء المعارك، وخطب أنور السادات، ومواقف الملك فيصل الشجاعة ضد إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسن ووزير خارجيته هنري كيسنجر.
ولم تكن الإذاعات العربية، بما فيها إذاعة الرياض، تتوقف لحظة عن زف أخبار الانتصارات، وبث الأغنيات القومية مثل: «أخي جاوز الظالمون المدى»
ولايزال يرن في مسمعي صوت مذيع الرياض وهو يتحدث عن عمليات القوات المصرية بلغة الجمع: «قامت قواتنا»، و «أسقطت قواتنا»، و «ضربت قواتنا»، في حال فريدة ورائعة من التماهي بين السعودية ومصر ضد عدو مشترك للأمة كلها. وقتها شاع مصطلح «التضامن العربي» بوصفه تجسيداً للحد الأدنى من وحدة الصف ضد العدو وحلفائه.
قاتلت مصر في 6 أكتوبر 1973 بكل ما تملك، ووقفت وراءها السعودية بكل ما تملك، بما في ذلك النفط، الذي أشهره فيصل في لحظة تاريخية، مذكراً الغرب بأن العرب أمة لم تمت، وأنها تستطيع أن تنال ممن يعتدي عليها ويزدري كينونتها.
ذكريات تلك الأيام ما فتئت تلح علي، ومشاهدها راسخة في أعماقي. أتذكر خطب السادات في مجلس الشعب.
كم كانت طويلة، ولكن، ويا للغرابة، لم أكن أمل منها. كانت لغته تعجبني، بالرغم من أنه كان يمزج العربية بالمحكية، لكنه كان يتلو الآيات القرآنية بفصاحة، وكان، حتى وهو ينتقد الإسلاميين، يتقمص دور الأب، ويتحدث عنهم بلطف (مثلاً: ولادي في الجماعات الإسلامية).
هذا في الغالب، لكنه أيضاً كان عنيفاً ومحبطاً وهو يظهر التعالي، ويوزع الشتائم، مثل قوله عن الشيخ أحمد المحلاوي، بعد أن زج به في المعتقل: «أهو مرمي في السجن زي الكلب»!
كنت في الليلة التي يخطب فيها السادات أسهر لأسجل خطبته كاملة في شريط كاسيت. سجلت كثيراً من خطبه، ولا أدري أين ذهبت كل تلك التسجيلات مع مرور الزمن.
من المشاهد التي لا أنساها، زيارة فيصل لمصر بعد أن وضعت الحرب أوزارها، حيث ذهب إلى خط بارليف، ولما وصل إليه، كبر الله وأثنى عليه. أيام لا تُنسى، أشعرتني بالقدرة الكامنة لأمتنا على إذلال العدو.
ولكنها كانت أشبه بالحلم الذي مر سريعاً، ثم أفقت منه، وعبثاً أردت العودة إليه لإكماله. لم يكن أضغاث أحلام، كان عرساً لم يكتمل. لم يكن وهماً، لكنه مر كلمح البصر، أو كما قال لسان الدين بن الخطيب:
وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى..
أنه مرَّ كلمْح البصرِ..!
بعد الحرب بعامين، اغتيل الملك فيصل، وأصبح فؤاد أنور فارغاً، فنفخ فيه الأميركيون من إغوائهم وإغرائهم، وزينوا له سوء عمله، فعظمت في أحشائه الخيانة، وكبرت، وكبرت، حتى أنجب لقيطاً اسمه «كامب ديفيد»، وأسدل الستار.
لازلت أذكر نبأ مقتله، إذ كنت في عرفة حاجاً، وإذا برجل يهتف: قتلوا السادات! قتلوا السادات!
استدار الزمان، وها نحن نشهد مرور أربعين عاماً على الحرب. اختلف الوضع كثيراً، رغم وجود أوجه شبه. السلطة القائمة في مصر لا تخوض حرباً ضد إسرائيل هذه المرة، بل ضد أعداء إسرائيل. وهي لا تقتل جنوداً صهاينة يحتلون أرضاً مصرية، بل تقتل مواطنين مصريين مسالمين. وهي لا تأسر إسرائيليين محاربين، بل تختطف أبناء مصر وبناتها الذين هم ثروة مصر الحقيقية ومصدر قوتها.
قاتلت مصر عدوها الصهيوني في 6 أكتوبر 1973، وها هي سلطتها الحالية في 6 أكتوبر 2013 تقاتل بالوكالة عن هذا العدو، وتحقق ما عجز عن تحقيقه(قتل الجيش المصري في إطار احتفالاته بذكرى 6 أكتوبر نحو 60 مواطناً مصرياً ، وأصاب نحو 300 بجراح).
حتى قطاع غزة، الذي تتحمل مصر تاريخياً وزر اغتصابه عام 1967، يتعرض للحصار في 6 أكتوبر من قبل مصر أخرى؛ مصر مُختطَفة هذه المرة، وأحد خاطفيها هو جلاد غزة نفسه: الكيان الصهيوني.
في عام 1973، وقف عرب مع الحق في مصر وانحازت أمم كثيرة ضدهم. في عام 2013، وقف عرب وراء الباطل في مصر وساعدتهم أكثر أمم العالم.
في المرة الأولى، كان الانتصار لمصر التي تقاتل الاحتلال.
وفي هذه المرة، يجري الانتصار لمصر المسلوبة؛ مصر التي ضيّعت الطريق، وفقدت البوصلة.
شتان بين مصرين، وبين أكتوبرين. لكن نصر 1973 لم يكن حقيقياً، أو لم يكن مكتملاً، ولهذا أتى بفاجعة كامب ديفيد. وربما كان العرس الديموقراطي الذي أعقب ثورة 25 يناير زائفاً وشكلياً، الأمر الذي أنجب فاجعة الانقلاب. لم يكتمل الانتصار على العدو الخارجي عام 1973، ولم يكتمل الانتصار على العدو الداخلي عام 2011، ولاتزال مصر تقاتل أعداء حريتها ونهضتها. الذين لا يريدون لمصر وللأمة أن تكسر قيودها وتبني مستقبلها هم الذين أجهضوا جنين النصر في 1973، وجنين الثورة في 2013.
ذكرى حرب أكتوبر تعلمنا أن درب التحرر طويل، ويتطلب حذراً دائماً ويقظة مستمرة. التخلص من الاحتلال الأجنبي وأوصيائه في الداخل ليس مهمة سهلة، لكنه حتماً في المتناول. الإيمان يقهر المستحيل، والصمود يقلب المعادلات. لكن الحرية ليس لها ثمن. الحرية لا تُقدّر بثمن.
ومن يخطب الحسناءَ لم يُغْلِها المهرُ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق