البكاء على القدس بعيون وقحة
أشد الناس عداوة للربيع العربي على الترتيب: الكيان الصهيوني، ثم بقايا كنوزها الاستراتيجية المخلوعة، ثم امتدادات هذه الكنوز ممثلة في نظم ما بعد الانقلاب على الربيع.
لذلك لن تجد اختلافاتٍ كثيرة بين خطاب بنيامين نتنياهو، وعلاء حسني مبارك، وممثل الإمارات في اجتماع وزراء الخارجية العرب، لمناسبة مناقشة قرار الرئيس الأميركي بشأن القدس.
الأخيران ليسا مشغولين بمأساة القدس، بقدر انشغالهما بمواصلة الانتقام من الثورات التي أزعجت إسرائيل، فتسمع ثغاءً يتهم الربيع العربي بضياع القدس، ينطلق بعبارات واحدة على لسان ابن مبارك، صديق بنيامين بن أليعاذر، الذي بكى حين أسقطته يناير، والوزير الإماراتي.
كان الربيع العربي، في أحد وجوهه، تعبيراً عن أشواق الجماهير في تحطيم الجدران التي تحول بينها وبين حق الكفاح ضد الاحتلال الصهيوني للقدس، بشكل مادي مباشر، ولعواصم عربية، من خلال تثبيت أنظمة حكم تعتنق "عملية السلام" ديناً ومنهج حياة.
وعلى ذلك، كان إسقاط حسني مبارك في مصر تحرّراً من سجون "كامب ديفيد" التي حبست الفعل الجماهيري العربي من أجل القضية الفلسطينية عقودا طويلة، وتدشيناً لمرحلة جديدة بات معها التطهر من تركة التطبيع الثقيلة مطلباً للنخب الوطنية، وأتذكر في هذا السياق أني كنت مشاركاً في حوار تلفزيوني، ضم نائب رئيس الحكومة المصرية بعد ثورة يناير، علي السلمي، والباحث إبراهيم الدراوي، في ضيافة المذيعة ريم ماجد، ودار النقاش حول ما ينبغي عمله دعماً للنضال من أجل فلسطين، في أجواء شعبية ملتهبة، طهرت سماء القاهرة من علم الكيان الصهيوني، وأطلقت دعوات بالزحف إلى غزة.
فاجأني السيد علي سلمي في تلك الليلة بأنه طالب بالانعتاق من قيد كامب ديفيد، والتحرّر من تلك التي تسمى"معاهدة السلام".
صحيح أن السلمي تحول، فيما بعد، إلى أحد عساكر الثورة المضادة في 30 يونيو/ حزيران 2013 التي آلت إلى انقلاب عسكري، مخطط له ومدعوم إسرائيلياً بشتى الوسائل السياسية والمالية والاستخبارية، غير أنّ استدعاء هذه القصة مهم للدلالة على أنّ الوصول إلى لحظة الوقاحة الأميركية بمنح القدس إلى الاحتلال الإسرائيلي، ما كان ليحدث من دون إسقاط ثورة يناير المصرية، عن طريق تحالفٍ دوليٍّ، في الرأس منه واشنطن، وفي قلبه تل أبيب، وعلى أطرافه عرب يكرهون ربيع التغيير، ويحتشدون بكل إمكاناتهم للقضاء عليه.
بدأت النكبة الفلسطينية الثانية مع "كامب ديفيد"، واستفحلت مع "مدريد" و"أوسلو"، ثم كانت تلك اللحظة الساطعة في شتاء 2011 حين هبت رياح التغيير العربي، لإنهاء زمن العروش التي تفضلها إسرائيل، وكما قلت سابقاً عندما أشرقت على العرب شمس الربيع، شعر الكيان الصهيوني بالصقيع، فانطلقت حناجر فتيّةٍ تزأر بالهتاف مجدّدا لفلسطين، وانفتح كتاب الأرض والدم، وقرأ الجيل الجديد سطورا من التاريخ المطمور تحت ركام عقود من الفساد والاستبداد، واستعاد الورد ذاكرة العبير، فهبّت نسائم الشوق لتحرير الأرض المحتلة، بعد أن رأى الشباب العربي، فيما يرى الثائر، أن عملية تحرير للإنسان العربي قد تمت أو أوشكت.
كانت أعلام فلسطين، في العام 2011، حاضرةً في كل ميادين الثورات، من تونس الخضراء إلى القاهرة التي تحاول استعادة خضرتها، مرورا بصنعاء ودمشق، في كرنفال تحرير مفتوح وممتد بطول وعرض خارطة الأحلام العربية.
في تلك الأثناء، عادت القضية الأم تتبوأ مكانها ومكانتها، في قائمة اهتمامات الجيل الجديد، واستعاد صنّاع الربيع قصة الأرض، وأدركوا بالفطرة البسيطة أين يقف العدو الأصلي بعد التخلص من وكلائه، وكان هذا بالتحديد، الفارق الذي صنعته ثورات الربيع العربي، والثمرة الأولى لمحاولة تحرير المواطن العربي من احتلال دولة الاستبداد والقهر. وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم سر هذه الهمّة الإسرائيلية في دعم واحتضان كل المشاريع العكسية المضادة للثورات العربية.. إنهم لا يريدون جيلا يتذكّر أسماء أسلافه الذين ماتوا دفاعا عن الأرض، أو يحفظ أسماء المدن وتواريخ المجازر والمذابح.
أخيراً، إذا كنت تصدق أفيخاي أدرعي، وهو يستخدم أحاديث نبي الإسلام، مهنئاً بذكرى الإسراء والمعراج، فمن الممكن أن أستوعب تصديقك دموع كنوز إسرائيل الاستراتيجية، قديمها وجديدها، على القدس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق