القدس ومعركة الوعي (1-2)
د. محمد عياش الكبيسي
القدس نقطة التماس الحادّة في الصراع الطويل والمرير والذي يأخذ في كل عصر طابعاً مختلفاً بحسب طبيعة العصر وتوازن القوى الإقليمية والدولية، وبهذا السياق يأتي قرار الرئيس ترمب كحلقة طبيعية ومتوقعة من حلقات هذا الصراع، ومعبّرة أيضاً عن حالة التفرعن الطاغي لأميركا ومشاريعها الإخطبوطية في مقابل حالة الوهن والتفكك التي تعيشها أمتنا الإسلامية على مختلف الصُعد.
كالعادة لا تجد شعوبنا العربية والإسلامية إلا الغضب السلبي الذي تعبّر عنه بمسيرات وتجمعات احتجاجية إزاء كل عدوان أو استفزاز، ثم تهدأ فورة الغضب دون أن يتوقف العدوان أو الاستفزاز، ومع هذا فليس من الصحيح تخذيل هذه الجماهير وإشعارهم باللاجدوى، لأن هذا الغضب يعبّر على الأقل عن بقاء قضية القدس حيّة وطريّة في قلوب الناس، والمطلوب تنمية هذا الشعور، والبناء عليه وليس هدمه أو التشكيك فيه.
إن على شعوبنا أن تدرك أن هذا الغضب العاطفي والانفعالي لا بد أن يقترن بحالة من الوعي، الوعي بطبيعة المرحلة التي نمر بها، والوعي بالأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحال، والوعي بقدراتنا وإمكانياتنا الذاتية التي يمكن الاستناد إليها وتوظيفها بالشكل الصحيح لعبور القنطرة التي توقّفنا عندها كثيراً، ثم تشتتت بنا السبل في حالة أشبه ما تكون بحالة التيه.
إنه ليس عيباً أن تنتكس أية أمة من الأمم، فهذا قانون تاريخي يحكم حركة الأمم كما يقول ابن خلدون، فلكل أمة آمادها في النهوض والانتكاس، لكن العيب كل العيب أن تطول حالة الانتكاس أكثر مما هو معتاد، وهذا هو مقدار التحدي، ليس أن لا ننتكس، بل كيف نقصّر مدة الانتكاسة لننهض من جديد، كما فعلت أمم أخرى كألمانيا وفرنسا واليابان.
إننا في حالة الانتكاسة هذه والتي طال أمدها أكثر مما ينبغي لن نتمكن أبداً من تحرير القدس، ولا أن نؤثّر في القرارات الدولية، بل ولن نستطيع أن نحافظ على عواصمنا ومقدّساتنا الأخرى، هذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي أن تعيها شعوبنا، بل نقولها بصراحة ووضوح أن الأنظمة كذلك لن تستطيع في هذا الوضع أن تفعل شيئاً حتى لو أرادت ذلك، بل قد تذهب هي ودولها ضحية أو ثمناً لمثل هذه الإرادة، وأصدق مثال على ذلك تجربة صدّام حسين في العراق، ومن ثم فإن اللوم الذي نوجهه إلى حكّامنا ليس لأنهم لم يحرروا فلسطين والقدس فهم أضعف من ذلك بكثير مجتمعين ومتفرقين، لكن اللوم الذي ينبغي أن يوجّه لهم هو لتقاعسهم عن تقديم أي شيء لتقصير عمر هذه الانتكاسة التي نمرّ بها، بل العكس نحن مستمرون على عهدهم في الهوي نحو قعر الانتكاسة وعمقها اللامتناهي.
إن ضياع فلسطين لم يكن في الحقيقة هو المرض الذي نعاني منه، بل هو عرض المرض، ونتيجته الطبيعية، هذا المرض الذي جعلنا نفقد أربع عواصم عربية بعد القدس!
إن واجبنا الأول هو تشخيص هذا المرض، والمضيّ بخطوات عملية صبورة ومتدرجة للعلاج والنهوض، وقد يتطلب هذا وقتاً طويلاً، هذا أمر طبيعي، لكن المهم أن لا نيأس، ولا نتوقّف، ولتستمر أيضاً أساليب المقاومة والمشاغلة بكل أدواتها المتاحة والممكنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق