فلسطين.. إليكم الحقيقة
نحن الآن في مواجهة الموجة الأعنف من تيار التطبيع، إذعاناً ورضوخاً للإرادة الصهيونية، إلى الحد الذي بات معه حكامٌ عربٌ لا يمتلكون جرأة المشاركة في قمة إسلاميةٍ، تتصدّى لتهويد القدس، وابتلاع فلسطين.
يتزامن ذلك مع تيارٍ كاسح يحاول صهينة الوعي العربي، من خلال فقهاء سلاطين، وخدم ثقافة، ينشطون في الحفر تحت المقدسات، بهدف هدمها وإنهاء وجودها المعنوي في الوجدان العربي، وهي العملية الأخطر من هدمها مادياً، انطلاقاً من مخطط يسير بخطىً محسوبة، يعبث في التاريخ والمعتقد، عبّر عنها بوضوح الباحث يوسف زيدان، قبل أكثر من عام، حين شرع في تدمير المسجد الأقصى معرفياً وتاريخياً، معترفاً في تسريبٍ مسجل بأن ذلك يأتي في إطار المشروع السياسي الذي من أجله تم تمكين عبد الفتاح السيسي من حكم مصر، لتتمدّد هذه الروح السيسية، فيما بعد، وتحل في حكام، أو مشاريع حكام، عرب آخرين، تفضّلهم إسرائيل، فوق عروش لطالما كانت بعيدة عن التطبيع المباشر، وإن كانت الوقائع تنطق بأنهم كانوا منخرطين فيه عبر وكلاء أو واجهات سياسية تدور في فلكهم.
أكثر الصهاينة تفاؤلاً لم يكن ليتخيل أن يأتي يوم يصبح فيه الغضب من أجل فلسطين وقدسها موضوعاً لاشمئناط وسخرية من محسوبين على العرب، ينتظمون في جيوش إعلام تقليدي وإلكتروني، ويصبّون بذاءاتهم فوق كل من يطالب بموقف عربي مسؤول، يجابه عربدة دونالد ترامب بقدس أقداسنا.
وفي اللحظة التي تحتفل فيها "حماس" بعيد تأسيسها، حركة مقاومة، في زمن الخضوع الرسمي العربي، تتحول فكرة المقاومة ذاتها إلى لائحة اتهام بالإرهاب، من أنظمةٍ عربيةٍ تولي وجهها شطر البيت الأبيض، وتقدّس نصوص صفقات التسوية الحرام.
في هذه اللحظة البائسة، اسمح لي أن أحدثك عن سياسي وكاتب بريطاني، دافع عن القضية الفلسطينية، ووضع كتاباً في منتصف القرن الماضي، حورب بسببه، ويفضح خيوط المؤامرة على فلسطين، ويعيد للتاريخ اعتباره. هو الباحث والصحافي البريطاني ج ف ن جيفريز، وكتابه "فلسطين إليكم الحقيقة" صدر مترجماً عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر عام 1971 بعد 32 عاماً من صدوره بالإنجليزية، وترجمه أحمد خليل الحاج، وراجعه الدكتور محمد أحمد أنيس، ويروي الكتاب القصة من البداية إلى النهاية، وكيف تواطأ العالم في التمكين لاغتصاب وطن واقتلاع شعب.
يسقط الكتاب كل الأساطير التاريخية التي بني عليها مشروع انتزاع فلسطين من شعبها وتسليمها للصهاينة، بحيث تشعر وأنت تقلب صفحاته بأن المؤلف يردّ بالوثائق على ليكود المؤرخين والمثقفين العرب، المتطوعين في فيالق صفقات التطبيع.
يقول المترجم، في تقديمه الكتاب، إن الصهاينة وشركاءهم من رجال الدولة البريطانيين والأميركيين وغيرهم من الاستعماريين لم يتركوا أي وسيلةٍ يمكن وأده بها إلا لجأوا إليها.. لقد اشتروا طبعاتٍ كاملة منه وأحرقوها، وحين تبين لهم أن الوسيلة ليست نافعة، لجأوا إلى المكتبات البريطانية والفرنسية والأميركية، فاشتروا ذممها بعمولة عدم بيعه على أن تكدّس الكتاب لديها وتنكر وجوده على طالبيه، وكذلك فعلوا مع شركات التوزيع.
أما الوزارة البريطانية التي كانت تضطلع بالحكم، حين صدر، فقد حاولت أن تمنع نشره بصورة مغايرة، لقد حاولت أن تستغل شهامة الرجل الوطنية، فأرسلت إليه من يناشده باسم بريطانيا التي تمر بمحنةٍ عظيمة، بسبب شبح الخطر النازي الفاشي الذي كان يخيم على أوروبا، ويتهدد الوطن البريطاني، ألا ينشر هذا الكتاب في ذلك الحين 1939، قائلة له إن بريطانيا تحاول أن تجمع شعوب أوروبا في جبهة معها لدرء هذا الخطر الغاشم، وأن نشر مخازي بريطانيا في هذا الوقت بالذات، تلك المخازي التي جلبها عليها بعض ساستها السابقين، من شأنه حتما أن يجعل هذه الشعوب لا تثق فيها، فلا تأمن التحالف معها، فيكون هذا الكاتب قد سدّد طعنة نجلاء إلى وطنه.
يقع الكتاب في أربعين فصلاً تملأ 728 صفحة من القطع الكبير، بالإضافة إلى مقدمة من 12 صفحة. ويكتب مؤلفه في المقدمة، شارحاً أسباب إقدامه على هذا العمل، مقتبساً من روبرت بريدجز في "روح الإنسان":
"ربما نتبين أن حماقاتنا وآثامنا القومية قد استحقت العقاب.. وإذا كنا لا نستطيع، نحن أنفسنا، أن نبدو في هذه التعرية للعفونة أبرياء تماما، فإننا مازلنا أحرارا وصادقين مع أنفسنا، وفي وسعنا أن نطمع في تكفيرها عنا من خلال الندم".
ماذا يمكن أن يقال أجمل من ذلك في زمنٍ يتنافس فيه عربٌ على كأس العفونة الفكرية، تزلفاً للاحتلال الصهيوني؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق