القدس ومعركة الوعي (2-2)
د. محمد عياش الكبيسي
إن العدو الذي تمكن من اغتصاب فلسطين في غفلة من الزمن وفي مرحلة انتقالية خطيرة أعقبت سقوط الخلافة وقبل أن تتمكن الأمة من إعادة تشكيل نفسها، قد أعدّ لهذا اليوم عدّته، واستطاع أن يضع رؤيته المتكاملة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً، وأن يحشد لهذه الرؤية دعماً دولياً ليس بالقليل، إضافة إلى تجميع الشتات اليهودي حول هذه الرؤية بالرغم من اختلاف انتماءاتهم القُطرية والقومية.
إنه لشيء كبير يجب أن نعترف لهم به أن يتمكنوا من توحيد رؤيتهم الداخلية رغم الشتات الذي عاشوا فيه لقرون طويلة، وقدرتهم أيضاً على جمع رصيد من المال قادر على سدّ ديون إمبراطورية مثل الإمبراطورية العثمانية حيث عرضوا ذلك بالفعل على السلطان عبد الحميد، فمن أين جمعوا كل هذه الأموال ولم تكن لهم يومئذ دولة؟ ثمّ لما رفض عبد الحميد عرضهم هذا تبيّن أنهم يمتلكون أدوات أخرى حسمت الموقف لصالحهم حتى داخل العاصمة العثمانية.
في مقابل هذا المشروع الخطير الذي يمتلك الخيارات المناسبة لكل حدث ولكل طارئ تقف الأمة العربية والإسلامية في حالة أشبه بحالة الفوضى وشتات الرأي والموقف والخيار والقرار، هذا إضافة إلى كثير من حالات الاختراق والتي قد تصل إلى حد الخيانة في أعلى المستويات.
بعد مرور قرابة القرن من الصراع نجد أن الفارق قد اتسع بشكل يفوق الخيال بين ما وصل إليه العدو وبين ما وصلنا إليه، فالعصابات الصهيونية القادمة من شتات الأرض قد تمكنت اليوم من منافسة الدول العظمى حتى في مجال التصنيع العسكري، وأنا أقرأ أن دولة مثل روسيا قد اشترت السنة الماضية عدداً من الدبابات الإسرائيلية، وأقرأ أيضاً أن نسبة ما تنفقه إسرائيل في مجال تطوير البحث العلمي يزيد على مجموع ما تنفقه الدول العربية في هذا المجال ثماني مرات، وأن نسبة اليهود المؤيدين لإسرائيل في الدول الأوربية مثلاً قياساً بالجاليات العربية والإسلامية هناك فإنها نسبة قليلة جداً، لكنها نسبة مؤثرة جداً بسبب الكفاءات المتميزة والقادرة على التحكم في الكثير من مفاصل الحياة، إضافة إلى التعاون فيما بينهم والتنسيق المتواصل في كل المجالات، بخلاف حالة العرب والمسلمين الذين تقتلهم خلافاتهم وتوجهاتهم المتناقضة حتى في أرض غربتهم.
إذاً معركة القدس الحقيقية هي ليست تلك التي تجري اليوم في القدس أو غزة أو الضفة، إنها أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
نعم إن قضية القدس لا زالت حيّة في الضمير العربي والإسلامي، لكنها حياة متوقفة عند ردود الفعل الآنية، التي لم تتمكن لحد الآن من صناعة المشروع المكافئ للمشروع المقابل.
أما المقاومة الفلسطينية -والتي لا يستطيع المنصف إلا أن يقدّر لها صبرها وطول نفسها- فهي مقاومة يتيمة وفقيرة مما جعلها تتأرجح في ولاءاتها وتحالفاتها بحسب تقلّبات الساحة من حولها، ولا شك أنها في وضع لا تحسد عليه، حتى على مستوى قناعاتها الداخلية.
إن معركة القدس بالأساس هي معركة وعي، معركة هوية وعقيدة وتاريخ، وأن الأمة التي تفرّط ببغداد ودمشق وصنعاء، وتفرّط بهويتها وعقيدتها وكرامتها لا ننتظر منها أن تفكّر بتحرير القدس.;
أقرأ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق