شخصية مصر جمال حمدان مصر والعرب
• لن أقف أمام ما حفلت به الموسوعة من دراسات حول الشخصية الاقليمية، وخريطة الاقتصاد المصري، والصناعة المعدنية والتعدين، والسد العالي، والسياحة، والزراعة.. فما يعنيني هو الصفحات التي تبدأ من (13) وحتى (146)، حيث تحدث جمال حمدان عن الانسان المصري في تطلعاته لاستلهام المستقبل من خلال البعد القومي لمصر.
يقول جمال حمدان: ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعوني أو الاقطاعي، وسواءً عُدَّ هذا اقطاعاً عادياً بنمطه المعروف، أو عُدَّ قمته أعتى صورة كما يرى الكثيرون، وأياً كانت النظريات المطروحة، فإن الطغيان والاستبداد الغاشم هو من أسفٍ حقيقة واقعة في مصر، من بدايته اليوم مهما تبدلت أو تعصرت الواجهات والشكليات.
وسواءً كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية – هي النقطة السوداء والشوهاء – في شخصية مصر بلا استثناء، هي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة، ليس على مستوى المجتمع فحسب بل والفرد أيضاً، لا في الداخل ولكن في الخارج كذلك.
ثم يقول: لقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها، فهي ما تزال تعيش بين (أو فوق؟) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها، وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي الديموقراطية الشرقية، أو بالأحرى (الديموكتاتورية).
والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور الى دولة عصرية وشعب حر، إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة.
تلك سلسلة متداعية من السمات والخصائص الأساسية البارزة أو الكامنة في شخصية مصر على مستوى الموضع أو من الداخل. غير أن هذه الشخصية لا تقل في خصائصها تبلوراً أو تميزاً وتفرداً على مستوى الموقع أو من الخارج.
ويقول جمال حمدان: وهكذا جمعت مصر في آنٍ واحد بين قلب أفريقيا وقلب العالم القديم، وأخذت من المداريات زَبَدَها دون زِبْدها، فظفرت من النيل بجائزته الكبرى دون موقعه الداخلي الصحيق المعوق، واستبدلت به موقع البحر المتوسط المتقدم المتألق، واكتفت من العروض السفلى واستبدلت بحرارتها الحيوية المشرقة دون تطرفها الوائد، ثم استكملتها بمؤثرات عروض الخيل الملطفة المنعشة، فكان صيفاً بلا سحاب وشتاءً بلا صقيع هي أصلاً حياة بلا مطر.
وفي جميع الأحوال فإن مصر هي واسطة كتاب الجغرافيا تحولت الى فاتحة كتاب التاريخ. وفي جميع الأحوال أيضاً فإن السبق الحضاري ملمح أساسي بلا نقاش في شخصية مصر.
ثم هي – مصر – وإن تكن إفريقية بأرضها ومائها، إلا أنها قوقازية أوروبية بجنسها ودمائها، والمصريون بهذا المعنى أنصاف أو أشباه أوروبين. هي إذاً قطعة من إفريقيا، لكنها بضعة من أوروبا، في إفريقيا وليست منها، ومن أوروبا وليست فيها. غير أنها الى ذلك آسيوية التوجيه والتاريخ والتأثير والمصير، إنها بآسيا وإليها. وفي المحصلة الصافية فإن مصر نصف أوروبية، ثلث آسيوية، سدس إفريقية. وفي داخلها تبدأ أوروبا عند الاسكندرية، وآسيا عند القاهرة، وإفريقيا عند أسوان. وكما أن تعدد هذه الأبعاد يعني تعدد الجوانب وثراء الشخصية لا انفصامها، فإن مصر لا تشعر بينها، بدوار جغرافي – قط – إنما تظل في التحليل الأخير وفي نواتها الدفينة، مصر العربية فقط دون ازدواجية.. كيف، ولماذا؟.
فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب. غير أن كلا الأب والجد من أصل مشترك ومن أعلى واحد. فعلاقات القرابة والنسب متبادلة وسابقة للاسلام بل والتاريخ. وما كان الاسلام والتعريب إلا إعادة توكيد وتكثيف وتقريب.. ولهذا فإن التعريب وإن كان أهم وأخطر انقطاع في الاستمرارية المصرية، إلا أنه لا يمثل ازدواجية بل ثنائية. فلا تعرض ولا استقطاب بين المصرية والعربية، إنما هي اللحمة والسُداة في نسيج قومي واحد.
ويؤكد جمال حمدان على تمسكه الشديد بعروبة مصر:
والواقع إن مصير العرب مصري حضارياً، كما أن مصير مصر عربياً سياسياً. فالعرب بغير مصر كالجسم بلا رئة، ومصر لا مستقبل عالمي لها خارج العرب.
ومصر بالذات محكوم عليها بالعروبة، ولكن أيضاً بتحرير فلسطين، وإلا فبالاعدام. فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها حتى لو أرادت – كيف؟ - وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر الى النهر وهادت وهادنت، خانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضاً على نفسها بالاعدام، بالانتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها الماضي، والمستقبل، والتاريخ، والجغرافيا.
لكن مصر، رغم ثلاثية النكبة والكارثة العظمى، لا يمكن أن تركع وتستسلم للعدو تحت أي شعار زائف أو ستار كاذب. ومصر مستحيل أن تكون خائنة لنفسها ولشقيقاتها، وليس فيها مكان لخائن أياً كان موقعه. ورغم كل شيء فإن كل انحراف حدث في مصر – الى زوال – وإن عجز الشعب، يفعلها التاريخ نفسه.
غير أن على مصر، كما على العرب، أن ترتفع وترتفع الى مستوى التحدي والمسؤولية: الأولى: بأن تعطي العرب قيادة عبقرية جديرة قادرة، لا قيادة قميئة عاجزة خائرة، والثانية: بأن تعطي مصر كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية تدير بها الصراع. إن مصير مصر ومكانتها في العالم سيحددها مصيرها ومكانتها في العالم العربي، ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين.
ثم يسترسل جمال حمدان بهذا التحليل القومي المتوهج.. والذي أشرت الى أجزاء منه في مقالتي (كامب ديفيد رأس الحية يا قادة مصر) فيقول:
ولقد خلق البترول العربي نمطاً جديداً، وقد كان ثانوياً مؤقتاً من توازن القوى السياسية داخل العالم العربي، وهذا الاختلال أثار وعرَّى كل كوامن الحساسيات الوطنية بين العرب، حتى ليوشك أن يتحول الى عامل تفريق للعرب بعد أن كانت مأساة فلسطين عامل تجميعهم. وبين هذا وذاك فإن فلسطين نفسها مهددة بخطر الضياع المطلق، ولكن كذلك مصر، فضلاً عن العرب عموماً.
فحجم مصر بين العرب مهدد في عصر البترول الخرافي بالتضائل النسبي (لا المطلق): الدخل القومي والموارد والانتاج، والموقع الاستراتيجي، وقناة السويس، والرقعة الزراعية، حتى عدد السكان.. الخ. وليس أمام مصر من فرصة ذهبية لاستعادة كامل وزنها وزعامتها إلا بتحقيق نصر تاريخي مرة واحدة والى الأبد بتحريرها فلسطين كاملة، تماماً كما فعلت مع الصليبيات والمغوليات في العصور الوسطى. ولن تصبح مصر قط دولة حرة، قوية، عزيزة، متقدمة، يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تصفي وجود العدو الاسرائيلي من كل فلسطين. فهذا وبه وحده تنتقم لنفسها من كل سلبيات تاريخها وعار حاضرها. الى أن تحقق هذا فستظل دولة مغلوبة مكسورة راكعة في حالة انعدام وزن سياسي تتذبذب بين الانحدار والانزلاق التاريخي، دولة كما يصمها البعض شاخت وأصبحت من مخلفات التاريخ تترنح وتنزاح بالتدريج خارج التاريخ. وذلك – نحن نثق – لن يكون.
• ورد ذلك في صفحة (80 – 81 – 82) من كتاب شخصية مصر لجمال حمدان.
بالطبع سيشمر دعاة التطبيع!!.. والذين يؤمنون أن اسرائيل وجدت لتبقى!!.. وأن التاريخ لا يعود الى الوراء!!.. وإن اسرائيل ورائها أمريكا وأوروبا!!.. سيشمرون عن سواعدهم: ليقل ذلك من يريد قوله، فما جئت عليه كتبه مفكر مصري في موسوعة تُعد من أفضل الدراسات التي كُتبت عن مصر وعن شخصيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق