تركيا الجديدة... هل تصدُق فيها أطروحة هنتنغتون؟
احسان الفقيه
من أكثر الأطروحات الفكرية إثارةً للجدل في العالم بأسرِه، فكرة صراع الحضارات التي اشتُهر بالتنظير لها، السياسي الأمريكي والأستاذ بجامعة هارفارد لما يزيد عن خمسين عاما "صامويل هنتنغتون"، وعلى الرغم من أنه ليس أول من كتب في صدام الحضارات، حيث سبقه إلى ذلك أرنولد توينبي وبرنارد لويس، إلا أن هنتنغتون قد أحدث ضجة كبيرة غير مسبوقة نظرا لأن فكرته الأساسية في أطروحته للنظام العالمي الجديد، هي الاختلاف الثقافي بين شتى حضارات العالم، والذي ينتج عنه حتمية الصدام بين تلك الحضارات.
ينطلق هنتنغتون من فكرة أن الصراعات الناشئة بعد الحرب الباردة لن تكون أطرافها دول قومية، وإنما تظهر مواجهات بين حضارات مختلفة لأسباب ثقافية ودينية.
تركيا كان لها نصيب من توقعات السياسي الأمريكي في أطروحة صراع الحضارات، وكان من أبرز ما قاله بشأنها: "إذا تخلّت تركياعن العلمانية كشيء غريب عن وجودها، وتركت تسوّل عضوية الاتحاد الأوروبي، وظهرت كمتحدث باسم الإسلام، ساعتها سترقى بنفسها وتقود الأمة الإسلامية".
استوقفتني عبارة هنتنغتون بالنظر تجاه المسيرة التركية مع بدايات الألفية الجديدة وتولّي حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية زمام الأمور، فالرجل قد وضع مُقدمات تقود إلى نتيجة واحدة وهي قيادة تركيا للأمة الإسلامية.
فأما المقدمات التي ذكرها هنتنغتون، فتتمثل في ثلاثة عناصر:
أولا: التخلي عن العلمانية
وصفها السياسي الأمريكي بأنها شيء غريب عن وجود الدولة التركية، وهذا جلِيٌّ وواضح أمام من تتبع تاريخ الأتراك، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية منذ نشأتها ترتكز على الفكرة الإسلامية، وبها استطاعت مزج العديد من القوميات الأخرى والتعايش معها، وكانت في عهد السلطان عبد الحميد خلافة إسلامية سقطت بسبب تآمر دولي أجاد استخدام النعرات القومية في الداخل.
وتحوّلت وريث الإمبراطورية العثمانية إلى جمهورية علمانية سعت إلى إقصاء الدين إلى أبعد الحدود، معتمدة في ذلك على فصل الأتراك عن تراثهم وتاريخهم.
بيد أننا نستطيع القول بأن الشعب التركي احتفظ إلى حد ما بالمكونات الثقافية في حين ظلت مؤسسات الدولة وخاصة المؤسسة العسكرية غارقة حد النخاع في العلمانية، إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية بعد عقود من الانقلابات العسكرية على أي حكومات لا تنسجم مع المبادئ الكمالية.
فهل تخلّت تركيا عن العلمانية؟
شئنا أم أبينا فإن الحزب الحاكم له جذوره الإسلامية المعروفة، لكنه قد دخل معترك الحياة السياسية بوعي وتقدير للحالة التركية، واستفاد من التجارب السابقة للأحزاب الإسلامية، فجاء كنسخة أكثر تعاطيًا مع الواقع، فأسقط من حساباته المبدئية وبصفة مؤقتة صبْغَ المجتمع التركي بالصِّبغة الإسلامية، إلى درجة أن أردوغان الذي كان رئيسا للوزراء آنذاك، أرسل ابنته لتلقي تعليمها في أمريكا حتى لا تضطر إلى نزع الحجاب تجنّبا للصدام مع العلمانية الشرسة في تركيا.
بعد سنوات من تولّيه زمام الأمور في تركيا، استطاع الحزب الحاكم إحداث نقلة بعيدة في الاقتصاد التركي، كان لها الأثر الأعظم في تمريره العديد من القرارات التي تصب في صالح الفكرة الإسلامية، بعدما استحوذ على ثقة المواطن التركي، واتّكأ فيها على فكرة الحريات، ومن ذلك قضية الحجاب التي طرحتها القيادة باعتبارها حقا شخصيا للمرأة التركية، إضافة إلى المدارس الدينية، والاهتمام بالنشء من جهة التربية الإسلامية، والعديد من المظاهر الأخرى لذلك التوجه.
تسعى القيادة إلى تقديم نموذج يمزج الإسلام بالقومية التركية بما يسميه البعض ( تركنة الإسلام ) ، وبناء على ذلك تبذل جهودا واضحة لإحياء التراث العثماني وربط الأتراك به.
خلاصة القول أن العلمانية في تركيا آخذة في الانحسار إذا أخذنا في حساباتنا مبدأ التدرّج البطيء الموزون الذي تنتهجه القيادة التركية في التعامل مع الموروث العلماني الثقيل، ولا يستطيع أحد إنكار أن تركيا اليوم ليست كتركيا الأمس فيما يتعلق بالمظاهر الإسلامية.
ثانيا: ترك تسوّل الاتحاد الأوروبي
كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حلم كل الحكومات التركية المتعاقبة، لما يترتب على ذلك من ازدهار اقتصادي وتحقيق لمصالح الأمن القومي والعديد من المكاسب التي جعلت كل حكومة تسعى للتوافق مع القيم الأوروبية لتحقيق هذا الهدف.
يغلب على ظني أن حكومة العدالة والتنمية كانت تُخطط للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي – رغم صعوبته – حتى تدور في فلك الديموقراطيات الغربية الرافضة لحكم العسكر، حتى تأمن الحكومة الوليدة مخاطر الانقلابات العسكرية.
شيئا فشيئا أدركت القيادة التركية أن عدم انضمام تركيا المسلمة إلى الاتحاد خيار استراتيجي لأوروبا، والتي تخشى من تحوّل القضايا الإسلامية في تركيا إلى قضايا أوروبية نظرا لأن تركيا دولة مسلمة، خاصة وأن عدد سكانها الذي يقدر بحوالي 80 مليون يجعلها ثاني أكبر عضو في الاتحاد، وهو ما يعطيها الحق في عدد أكبر من المقاعد داخل البرلمان الأوروبي، وبالتالي سيتم تناول عدد كبير من النواب للقضايا الإسلامية على المائدة الأوروبية.
إلى جانب مخاوف أخرى اقتصادية تتعلق بتدفق المهاجرين الأتراك إلى دول أوروبا كما يرى البعض.
غير أن حكومة العدالة والتنمية استمرت تفاوض في الانضمام إلى الاتحاد، حتى في ظلِّ التراشق مع بعض دول الاتحاد، ولم تُخْفِ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل توجهها لمنع تركيا من الانضمام، حيث قالت عن تركيا في مناظرة تلفزيونية "لن تصبح أبدا عضوا في الاتحاد الأوروبي".
ومع أن تركيا تستمر في تعرية القيم العنصرية الأوروبية وتستمر في المفاوضات الشكلية للانضمام، إلا أنها تدرك جيدا أن هذا الباب مُغلق من الأمس إلى الغد.
ثالثا: التحدث باسم الإسلام
الإنجازات التي قامت بها حكومة العدالة والتنمية ولمَسَها المواطن التركي بوضوح، لم تتعلق فحسب بالحالة الاقتصادية، بل جزء كبير من هذه الإنجازات كانت في السياسة الخارجية التي أعطت للأتراك شكلا وطابعا مميزا في الصورة الذهنية لدى دول العالم، حيث تعاظم الدور التركي في المنطقة، وصارت الدولة أكثر تفاعلا وتأثيرا في المحيط الإقليمي.
لقد أعاد أردوغان وفريقه تركيا إلى حضن العالم الإسلامي مرة أخرى، حيث جعل منه مجالَهَ الحيوي الذي يتحرك فيه، وأحسَن استغلال القوة الناعمة التي نشرت الثقافة التركية في العالم الإسلامي والعربي.
لقد أصبحت تركيا مؤخرا لا تنفك عن التفاعل القوي مع قضايا العالم الإسلامي باعتبارها جزءًا أصيلا منه، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال المواقف الجريئة لأردوغان في الدفاع عن الإسلام واتهامه بإنتاج الإرهاب، والموقف من أزمة مسلمي بورما سواء على الصعيد الدبلوماسي أو الإعلامي أو الإغاثي، والتنديد بجرائم المُتشددين البوذيين ضد المسلمين تحت سمع وبصر الحكومة، ومؤخرا كان الموقف التركي تجاه إعلان ترامب القدس كعاصمة لإسرائيل هو الأجرأ بين الدول الإسلامية ، رغم أنه ليس لديه إلى الآن ترجمة على أرض الواقع، فلا تترك تركيا مناسبة تتعلق بقضايا العالم الإسلامي إلا وكان لها مواقف مشرفة، وصار تحدُّث أردوغان عن بلاده بصفتها دولة إسلامية هو الخطاب السائد.
فهل يمكن القول بأن تركيا قد اكتملت لها مقومات قيادة العالم الإسلامي وفقا لهنتنغتون؟
ربما تكون الإجابة بنعم مرهونة بعدة أمور، أهمها مدى قدرة النظام التركي على الاحتفاظ بالاستقرار الاقتصادي الذي يحقق لها الاكتفاء ، وهو ما يضمن بذاته استقلالية القرار السياسي.
وثاني هذه الأمور الحفاظ على ثوابتها في السياسة الخارجية، والجمع بين ثنائية المصلحة والأخلاق، لأن اللعب في تلك الثوابت حتما يُفقد تركيا أهلية قيادة العالم الإسلامي.
وثالث هذه الأمور حجم وصلابة التحالفات التي تبنيها تركيا مع دول العالم الإسلامي خاصة الدول المؤثرة ذات الثقل الاقتصادي والعسكري، إلى جانب مدى توغلها في القارة السمراء..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق