الشيخ الخضر.. عالم المغرب العربي وشيخ الأزهر
د. محمد الجوادي
كان الأستاذ الشيخ الخضر حسين من الشخصيات التي أسعدني الحظ بالكتابة عنها أكثر من مرة حتى صدر كتابي عنه، وقد ركزت في كتابي عنه على فقه السياسة في الإسلام وهو الموضوع الذي أدلى فيه بآرائه القيمة التي لم يصل غيره إلى استيفائها واستكمالها على نحو ما استكملها هو.
وقد اكتملت في شخصية الشيخ الخضر حسين مقومات زعامة حقيقية مارست القيادة ونجحت في فرض ذاتها وسلوكها وأمانيها. فقد كان من الذين يظلون الآخرين بفضلهم، كما كان من الذين يسعى الناس للاستظلال بظله، وكان من الزعماء الحقيقيين الساعين قولا وفعلا إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وليس أدل على هذا من أن الجمعيات التي رأسها أو وجهها لم تشهد انقساماً أو تحزباً، كما يكفي للتدليل عليه أن اسمه كان يدل على نشأته وتعليمه في تونس، وأن اسمه بالصورة التي انتهى إليها كما بينا في المقدمة يدل على استيطانه دمشق والقاهرة، وهو قبل هذا جزائري الأصل والميلاد والصبا.
وفي بيت الشيخ بالقاهرة كان المغاربة من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وموريتانيا يلتقون ويجتمعون، وفي جمعياته كانوا يجاهدون ويخططون ويتعلمون ويتناقشون، وهو في كل هذا قدوة حانية تأخذ بيد الجميع. كان الشيخ الخضر زعيما عاملا متفاعلا بقوة مع مجتمعه نشطا مواظبا حاضرا لكنه مع هذا كان مترفعاً عن الصغائر في حياته، وفي جداله، وفي مناقشاته العلمية، وقد وصف الشيخ بأنه هادئ النقاش هادئ الحديث عف اللسان مع كونه جريء الجنان. وكان حبه للإصلاح بمعناه الخلقي السامي يأخذ عليه مجامع نفسه، ويغلب على موضوعاته ومقارباته، حتى إن بعض الناشرين الذين نشروا كتبه آثروا أن يتخذوا من عنوان "رسائل الإصلاح" عنواناً لعدد من مؤلفاته القيمة.
لم يكن هذا الشيخ معنياً بالتقدير الوظيفي ولا الاجتماعي، ومع هذا فقد كان حريصاً على التقدير العلمي، ويذكر له أنه لم يجد أي حرج أن يتقدم لامتحان الشهادة العالمية في الأزهر بينما كان أستاذا معروفا |
كان الشيخ واسع الاطلاع في الآداب العربية والأجنبية، ويذكر له على نطاق واسع أنه صحح لبعض الغربيين معتقدهم الفاسد في أن ابن خلدون قال بأن العرب لا يصلحون لملك ولا يحسنون حكماً للأمم، وقد أشار الشيخ الخضر لهؤلاء أن ابن خلدون إنما قصد بهذه العبارة عرب الجاهلية، وأن ابن خلدون نفسه قرر في مقدمته أن العرب في الإسلام أحسنوا السياسة وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وأنه خصص لهذه الحقيقة فصلاً في كتابه، ومن العجيب أن بعض المسلمين والعرب المعاصرين لا يزالون يجتزئون عبارة ابن خلدون ويحتجون بها على دعواهم الفاسدة الملفقة القائلة بأن الإسلام (وليس العرب فحسب) لا علاقة له بالسياسة وممارستها وبالتفوق فيها.
لم يكن هذا الشيخ معنياً بالتقدير الوظيفي ولا الاجتماعي، ومع هذا فقد كان حريصاً على التقدير العلمي، ويذكر له أنه لم يجد أي حرج أن يتقدم لامتحان الشهادة العالمية في الأزهر بينما كان أستاذا معروفا مارس العلم والتعليم في تونس ودمشق والجزائر وإسطنبول وألمانيا لأكثر من عشرين عاماً.
وعلى سبيل العموم فإن مؤلفات هذا الرجل كاشفة عن شخصيته، كذلك فإن شخصيته مؤثرة في كتاباته، وليس لنا أن نعجب حين نجد هذه اللمحات البارزة في بحوث ومحاضرات هذا الإنسان والعالم الكبير، وذلك من قبيل بحثه عن "حياة اللغة العربية"، وعن "الخيال في الشعر العربي"، وعن "القياس في اللغة العربية"، وعن "نشأة علم البلاغة"، ونجد بالموازاة لهذه البحوث الأصيلة، والمحاضرات الضافية بحوثاً مشابهة في الفكر الإسلامي فهو يكتب عن "الحرية في الإسلام"، وعن "الدعوة إلى الإصلاح"، و"مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها".
روى الأستاذ محمد على النجار في تأبين الشيخ محمد الخضر حسين أن الأستاذ محمد شفيق غربال أعطاه كتاباً لمستشرق كندى وضعه في تاريخ الإسلام في العصر الحديث، وقد تحدث هذا المستشرق في فصل من هذا الكتاب عن مقالات الشيخ محمد الخضر حسين في مجلة "نور الإسلام" ـ التي أصبحت بعد ذلك تسمى "مجلة الأزهر" فأثنى على عمق النظر فيها كما أثنى أطيب الثناء على شخصية الأستاذ الخضر ووصفه بأنه مثالي: "أما أنه رجل مثالي فهذا ما يتبادر من كتابته، وهو مثالي من الوجهة النفسية والأخلاقية على حد سواء".
وقد تحدث الأستاذ محمد على النجار نفسه عن المثل العليا التي امتاز بها الأستاذ محمد الخضر حسين فقال: "ومثله في المشاركة الفعلية، وجهاده في إصلاح المجتمع، ومثله في الدماثة الشخصية حتى مع أعدائه، ولكن مع التحرر من معرة الملق والمداهنة، ومن نقيصة التظاهر والرياء، ومثله في الكمال العقلي الدقيق، واحترام النفس، والاعتدال، والبعد عن النقائص، مثل الكبر والمهانة، هذه المثل وغيرها يصورها الخضر بصورة واضحة خاصة به لرسم طابعها الخلقي".
قد ترك الشيخ محمد الخضر حسين كثيراً من الآثار الشعرية التي تحث قراءها على الثورة وتدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة المعاصرة، وتحديث أساليب الحياة
وهذه فقرة جميلة للأستاذ خليل مردم يتحدث فيها عن سعادته بمعرفة الشيخ محمد الخضر حسين طيلة الفترة التي أقامها في دمشق، وحسرته حين علم بنيته مفارقة دمشق: "إن من خير ما أثبته في سجل حياتي وأشكر الله عليه معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، وإخوانه الفضلاء وصحبتي لهم، فقد صحبت الأستاذ عدة سنين، رأيته الإنسان الكامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط نفسي على ظفرها بهذا الكنز الثمين حتى فاجأني خبر رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل "بقدر التواصل تكون حسرة التفاصل".
وقد ترك الشيخ محمد الخضر حسين كثيراً من الآثار الشعرية التي تحث قراءها على الثورة وتدعو إلى الأخذ بأسباب الحياة المعاصرة، وتحديث أساليب الحياة، وهو ما يمكن وصفه بلغة زماننا الحاضر، بتعبير "معرفة المجتمع"، والأخذ بأسباب القوة العصرية، وفي هذا فإنه يشير إلى أن الصنائع قد ذللت وأصبحت متاحة للجميع، وفي هذا المعنى يقول:
أبناء هذا العصر هل من نهضة
تشفي غليلاً حسره يتصعد
هــــذى الصنــــائع ذللـــــت أدواتـها
وسبيلها للعالمين ممهد
إن المعــــارف والصـــــنائــع عـــدة
باب الترقى من سواها موصد
وكان الأستاذ محمد الخضر حسين فيما نظم من شعر يتمنى أن تكون أخراه في صورة يسيرة رحيمة، وهو لهذا يؤثر أن يجد مَنْ يدعو له بعد موته، فذلك أحب إليه من أن يقال الشعر في رثائه، وهو يقول في هذا المعنى أبياتاً جميلة يتمنى فيها أن يحظى بدعاء الساجد له على أن تقال فيه أشعار من وزن فعولن فاعلات:
تساءلنى هل في صحابك شاعر
إذا مت قال الشعر وهو حزين
فقلت لها :لا هم لى بعد موتتى
سوى أن أرى أخراى كيف تكون
وما الشعر بالمغني فتيلا عن امرئ
يلاقى جزاء والجزاء مهين
وإن أحظ بالرحمى فما لى من هوى
سواها وأهواء النفوس شجون
فخلى فعولن فاعلات تقال فى ..
أناس لهم فوق التراب شؤون
وإن شئت تأبينى بدعوة ساجد
به بين أحناء الضلوع حنين