الخميس، 28 ديسمبر 2023

هل من الممكن صناعة الغباء؟


هل من الممكن صناعة الغباء؟

«السياسة في القرن الأفريقي» نموذجا

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

١ – هناك من يولد غبيا، ذلك لأن لديه مرض عقلي، أو تخلف عقلي، ومن هنا فهو يعانى مرضا يتطلب علاجا، وفي الغرب مدارس متخصصة في معالجة تلك الأوضاع الخاصة، وهي استثناء، وليست قاعدة، ولكن في العالم العربي والإسلامي غباء من نوع آخر، وينتج من سلوك بعض السلطات التي تختار من الشعب أكثر الناس غباء، ولهذا يصبح البعض أغبياء حتى يتم اختيارهم للعمل العام.

٢ – كتب المفكر المصري الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل بأن الرئيس الأسبق في مصر السيد حسني مبارك كان يخطط فقط أن يكون مستشارا في سفارة مصرية في الخارج، أو على الأكثر أن يكون سفيرا، ولكن الرئيس الأسبق محمد أنور السادات اختار ليصبح نائبا له، لأنه علم بأن طموحه ضئيل، وأنه غبي فوق العادة، وحينما وصل إلى منصب رئيس الجمهورية ظهر بأنه لم يكن غبيا، ولكنه تغابى، وهذه سياسة غبية، ولكن البعض يستفيد منها لتحسين موقعه من الإعراب.

٣ – الغباء في العالم العربي والأفريقي أنواع، طبيعي، ومصطنع، والمصطنع نوعان، غباء منهجي، وغباء اصطناعي، الأول من صناعة الأنظمة، والثاني من صناعة المواطن، والخطورة حين يجتمع النوعان في الشخص، والأخطر من ذلك كله حين يكون الغباء الطبيعي معيارًا للسلطات في الاختيار.

٤ – يبحث المفكرون الاستراتيجيون حول مسألة فشل الدولة في العالم العربي والقارة الأفريقية، هل الأسباب من الخارج؟ أم هي من الداخل؟ أم هي مركبة؟ كيف يكون إنسان بدون أدنى معرفة رئيسا لدولة في القرن الواحد والعشرين؟ وكيف يقبل المثقفون الكبار قيادة الجاهل لهم؟

قد يسأل أحدنا سؤالا مفاده، من هو الغبي السياسي؟ وكيف يعرف صاحب الغباء السياسي؟ هل للغباء السياسي معايير؟ كيف يكون قائدا من لا يقرأ؟ وكيف يقود الأمي العلماء والمثقفون؟ ولماذا يتراجع دور أهل الفكر لصالح دور أهل الجهل؟

٥ – الغباء السياسي خارج عن الزمان، ويعيش فقط في عالم خاص، هو يحسن إصدار القرارات، ثم يعرف أن قراراته خاطئة، ذلك لأنه يصدر القرار بتعليمات آتية له من الجهات الأمنية والعسكرية فقط، يُؤْمِن بالبطش والقوة، ويعتقد أن الحياة لا تستقيم بدونه، وله قرارات عجيبة كما فعل الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي دعا المصريين إلى العمل ليلا، والنوم نهارا خلافا للفطرة، أو السيد حسنى مبارك الذى واجه المشاكل المصرية برؤية أمنية، أو كما فعل السيد بن علي الذى قال في الوقت بدل الضائع، فهمتكم، أو ذلك الحاكم في الإقليم الخامس في إثيوبيا سابقا عبدى إيلي الذى حسب بأن زمن ملس ما زال موجودا، ثم انتهى به المطاف في خارج التاريخ، أو ذاك الحاكم الذى يتخبط في خارج الزمن ليحكم وإلى الابد ولو بالجوع والضنك.

٦ – الغباء السياسي المنهجي هو من يفعل الخطأ السياسي الذي حصل من قبل دون أن يدرس مآلات العمل السياسي السابق من قبل، والغبي السياسي هو من لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، وكيف يفهم من يعيش بعيدا عن الناس؟ أو يعيش لأجل العيش؟ أو يعيش لأجل لقمة العيش فقط؟ أو يرى السياسة من خلال زاوية قبيلته فقط في زمن العولمة؟ أو يرى الحياة من خلال زاوية منطقته فقط في لحظة الانفجار المعرفي؟ إنه الغباء بلا سقف.

الغبي السياسي يقرأ ما يريد، ويجتمع مع من يريد، ويخاف من مواجهة المشاكل، ويحب أن يسمع من الناس الأوهام والخرافات، ولديه فريق يمجد، ولا ينتقد، ويحب الشكليات، ويكره المضامين، ويعيش مع من يشابهه، ويبتعد عن من يفارقه، ويكرر ذاته، وذات من يشابهه، وعلى أية حال، الغباء مكتسب، ويصبح بعد الاكتساب حالة طبيعية، الغبي مع (چيلة) الجيبوتي بلا حساب، أو مع (فرماجو) سابقا بلا دليل، أو مع سياسات كينيا بلا رؤية، أو مع حاكم جوبا لاند بلا منهجية، فهو يتخبط في مناحي الحياة، إنه بلا بوصلة سياسية، فهو معارض حتى الكرسي، أو محافظ لأجل محافظة الكرسي، ليس لديه برنامج سياسي يدافع عنه، أو فكرة محورية ينطلق منها.

٧ – الغباء السياسي حالة ثقافية وسلوكية، فالغبي يعيش في بلاد الأغبياء، ويكره أن يعيش في بلاد الأذكياء، ولهذا فهو يحاول أن يكون الناس أغبياء مثله، وينشر ثقافة الغباء السياسي، ولديه رجال أعمال تحرروا من مراقبة الضمير، ورجال إعلام يصرخون بلا منهجية، ونظام تعليمي بلا مضمون، وفريق سياسي بلا أفكار، وطبقة فنية بلا حياء، ويختار مجموعته بعناية فائقة، ولكن هو بهذه الخيارات يدمر مستقبل البلاد، ومن هنا نجد أن الجميع يتحولون من عالم الذكاء إلى عالم الغباء، ومن عالم النشاط إلى عالم البلادة، ومن عالم الفاعلية إلى عالم الكلّ، ذلك لأن الجميع يخطط العيش لأجل العيش فقط.

الغبي السياسي لا يتحرك، فهو ساكن الأفكار، ويخاف من التبدل الفكري، ومن مراجعة الحسابات، ومن قراءة الامور من كل الزوايا، فهو بلا حركة فكرية، وإن تحرك فمن خلال معدته (السياسي المتسوّل)، وليس من رأسه، أو من خارج عقله، وليس من عقله، أو من أفكار مجموعته، وليس من خارج مجموعته، فالسليم من وافق أفكاره، والمريض من خالف أفكار مجموعته، إنه الغباء السياسي، والتفاهة السياسية، والخروج من سياق التاريخ بدون مبررات.

٨ – في بلاد الغباء السياسي يكثر فيها التصفيق، ويقلّ فيها العمل، وتكثر فيها الأقاويل، ويهرب منها الأذكياء، ويعيش فيها الناس على حساب الناس، لا أحد يفكر في الإنتاج، وقد تجد الكاتب وهو يكتب عن التقويم القبلي، لا عن تقييم القبيلة، ويكتب الشاعر عن مجد الحاكم، لا عن مجد الشعب، ويربط الفن بين الدولة والشخص، فلا مكان للفصل بينهما.

يصبح رجل الدين في بلاد الغباء السياسي محترفا (الداعية المتسوّل)، وليس ممثلا عن القيم، فهو يربط الواقع بالحكم، وليس بالقيم، وينفصل عن السماء، ويخلد إلى الأرض، ويدعو الناس إلى المؤسسات، لا إلى الله، ومن هنا تجده يصدّ عن دين الله، ويعمل في العوج، ذلك لأنه أصبح جزءا من الغباء السياسي.

لقد عشت زمنا مع الغباء، فحسبت أن الغباء ذكاءً سياسيا، وعشت مع الناس كما يريدون فكنت بلا برنامج، وعشت معهم كما يريدون، لا كما أريد، ولكن بعد المراجعة الدقيقة عرفت بأن الزمن ليس لصالح المجموعات المتشابهة، ولا لصالح الناس الذين يفكرون في داخل القفص وكأنهم مجموعات بيولوجية في حظائر، فالإنسان كائن ذكي لديه إمكانيات غريبة، ونجح ابن تيمية في الخروج من القفص، ورفض أن يكون كالناس، ولكنه كان مع الناس، وهنا الحكمة، لا تكن كالناس، ولكن كن مع الناس.

٩ – الغبي السياسي يبحث في المجتمع من هو أكثر منه غباء، ذلك أمر عسير، ولكن بعض النخب لديهم ذكاء غير عادي، فيجعلون أنفسهم أغبياء فوق العادة، ولهذا تجد البعض يتسلق جدران قصر الحاكم بذكاء، ولكنهم حين يصلون يتحولون إلى أغبياء، فالحاكم الغبي لا يريد ذكاء سياسيا، والغريب أن الغباء السياسي مدرسة كبيرة تتبنى صناعة الغباء في المجتمع.

إن الغبي السياسي يحارب الكفاءة، والعقول، ويجعلهم خونة للدولة، ذاك منهج قديم استخدمه فرعون، وهو الأب الروحي للغباء السياسي (ما أريكم إلا ما أرى)، الرأي له وحده، والعقل له وحده، والتخطيط منه وحده لا شريك له في الرأي لأنه ينطلق من رأي سديد (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

وهناك غباء مجتمعي، أي كن مع الناس تسلم، ولدينا غباء قبلي، وهو أن تفكر مع قبيلتك فقط، فلا تخرج من حظيرتهم، وهذا دليل على حب الإنسان لمن كان في حظيرته، ولدينا غباء حركي وحزبي، فيجب أن تقدم الولاء على الفكر، والعمل على الرأي، ولدينا اليوم غباء أممي، هناك من يفكر لأجل الأمم المتحدة، وحتى تكون مقبولا في المحافل الدولية يجب أن تكون تافها من حيث القيم، والغريب هناك من يعمل لصالح الخارج كمهرّج سياسي، ولكنه يرى بأن ذلك من الواقعية السياسية، إنه الغباء بعناوينه المختلفة.

١٠ – يخطط الغبي السياسي صناعة المناخ السياسي اللائق به، فهو يحاول صناعة المعارضة من داخل بيته، يختلف حينا مع أولاده، أو مع أصهاره، أو مع رفقاء الدرب معه في الغباء السياسي، فتتحول الساحة إلى مساحة حرب وهمية، ويحسب السذج أن هذه حقيقة، وما هي من الحقيقة، بل هي من صناعة الغبي السياسي، والعجيب أن الذين يعيشون في مناخ الغباء السياسي يعتقدون بأن هذه حقيقة.

إن مشروع الغباء السياسي هو الوصول إلى الحكم، والوصول إلى الحكم في بلاد الأغبياء يتطلب أمرين، المال الفاسد، والأمن الفاسد، فعليك بهما، ولهذا تجد كل من يخطط الحكم في بلاد الغباء السياسي يهتمون بالمال الفاسد، والأمن الفاسد، ولديه مافيا من رجال المال الفاسدين، ومن رجال الأمن الفاسدين.

هذا هو الغباء السياسي في العالم العربي والإسلامي، ولا يستطيع أحد من العقلاء أن يستمع إلى الإعلام الفاسد، فالإعلام لا يقدم سوى صيحات فارغة، وأخبار كاذبة، وبرامج غير واقعية، وقراءات عاطفية، ودراسات غير موضوعية، وآراء غير ناضجة، وأغاني بلا مضامين، وبرامج دينية منوّمة ومخدّرة، ويتم كل ذلك في لحظة الغباء السياسي، لأن الغبي السياسي يصنع عالمه ومناخه، ويحاول أن يجعل كل الناس أغبياء سياسيين.

في عالم الغباء السياسي يكون حديث الناس عن الأمن فقط، ويخافون من الحديث عن الحرية، ويتناولون في أحاديثهم عن العيش، وليس لهم حديث عن التنمية، فهم دوما في خوف من اللاخوف، وفي فقر في بلاد يصبح الانسان فيها غنيا بين عشية وضحاها، وفقيرا في لحظة قبل أن يرتد إلى الإنسان ظرفه، فهو عالم غريب، وخارج عن السياق التاريخي، ولا يملك أدنى شروط النهضة.

إن الغبي السياسي يستخدم طاحونة كبيرة لإعداد مشروع ما بعد الغباء السياسي، فالغبي السياسي يقول: إما أنا أو الدمار، ومن هنا نجد أحاديث الناس في زمن الغباء السياسي، كيف تكون الحياة بعد هذا الغبي السياسي؟ من الغباء السياسي أن يكون فرماجو وحده وطنيا، أو السيد حسن شيخ، وأن يصبح غيرهما من المواطنين أعداء، ومن الغباء السياسي اختزال الوطنية في مشروع فرماجو أو إسماعيل چيلة، أو حسن شيخ، أو السيسي أو ابن سلمان، فهذا مشروع للأغبياء، وليس مشروعا للأذكياء.

الغباء ليس مشكلة سياسية فقط، بل هو أيضا مشروع فكري، وسياسي، واقتصادي، واجتماعي، ومن هنا يجب أن تكون المواجهة شاملة، وليست قاصرة، ومن ظن أن التصحيح يكون في داخل المشروع السياسي الناتج من الغباء فهو واهم، لأنه يريد استنساخ الغباء، وتبديل الغباء بغباء، ولكن المواجهة قد تكون صعبة، ولكنها ضرورية، وتحصل من بعض الموجودين في المناخ السياسي تحت قيادة الغبي السياسي تمنّعا ومقاومة، لأنه لا يعرف سوى هذا النوع من الحياة.

ليس من الغباء أن تكون مع الأفكار، ولكن الغباء أن تكون مع الأشخاص بلا حدود، وليس من الغباء أن تعيش في زمن التبدلات المنهجية بلا حكمة، ولكن الغباء أن لا ترى ذلك بعيونك، وليس من الغباء أن تعيش بعيدا عن الوطن، ولكن الغباء أن تعيش فيه بلا كرامة، كن أنت بلا نفاق، وعش بلا حساسية مع قيمك، ولا تلتفت إلى المزاج الشعبي (القبلي) وارفع رأسك، فالناس يريدون من ينجح في إخراجهم من الأقفاص الفكرية والسياسية والقبلية، لأنهم في زمن التفاهة والتافهين كما ذكر الدكتور آلان دونو الفيلسوف الكندي في كتابه (نظام التفاهة) ولو كنت أنا في مكانه لكتبت (صناعة الغباء السياسي)، وبدأت أكتب عن هذه الصناعة الخطيرة، وشكرا.

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق