الاثنين، 25 ديسمبر 2023

إسرائيل على خطى الاستعمار في أفريقيا

 

إسرائيل على خطى الاستعمار في أفريقيا


على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تمارس إسرائيل أبشع مجازر القرن في قطاع غزة دون حسيب، ضاربةً بكل قيم الإنسانية عرض الحائط.

ومن المخزي والمؤسف أن دول الغرب – بكل تبجّحها بحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية، التي تضعها دومًا خنجرًا في خاصرة دول العالم الثالث- لم تحرك ساكنًا تجاه إسرائيل، بل تتحدّث بكل وقاحة عن حق إسرائيل -وهي قوة احتلال- في الدفاع عن النفس. ومنها من يحث إسرائيل علنًا ودون حياء على إكمال مهمتها في الذبح والتهجير.

هذا الموقف غير الأخلاقي -الذي كشف الوجه الحقيقي للنخبة الحاكمة في الغرب- يمكن فهمُه بسهولة، إذا أجرينا مراجعة تاريخية سريعة لمُمارسات الدول الاستعمارية الغربية في العالم الثالث عامة، وفي القارة الأفريقية خاصة. عندها سنرى وجه الغرب الكالح الوالغ في دماء الأبرياء حتى الثمالة، وتسقط دعاوى وشعارات حقوق الإنسان والحريات العامة ومبادئ الإنسانية.

إن الذي ينبُش في التاريخ الدموي واللا أخلاقي للاستعمار الغربي في أفريقيا، يدرك بسهولة لماذا يخرس القادة الغربيون عما يدور من مذابح وانتهاكات جسيمة في غزة، ويدرك أيضًا أن القيم والمبادئ الإنسانية عند معظم القادة الغربيين ليست غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لإخضاع الآخرين. ولأن القادة المجرمين في إسرائيل يعرفون ذلك، فإنهم لا يترددون أن يقولوا لكل من يذكرهم بقيم ومبادئ حقوق الإنسان: من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر.

في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد

ألمانيا.. أول مجازر القرن العشرين

استعمرت ألمانيا عدة دول أفريقية، أهمها ناميبيا وتنجانيقا، واعتبرت هذه الدول أرضًا منحها لها الربّ مباشرةً بسبب عِرقهم الفريد. وبهذا الفهم العنصري، مارس المستعمر الألماني حملة تطهير عرقي شاملة، كانت هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين. استهدفت الإبادة عرقيتَي الهيريرو والناما في ناميبيا، في أسوأ مجزرة سجلها التاريخ الأفريقي. بدأت هذه المجزرة في العام 1904، ويطلق عليها المؤرخون "الإبادة الجماعية المنسية".

تولّى الحاكم الألماني فون تروتا تنفيذ المذابح التي لم تستثنِ أحدًا. أصدر أوامره بإطلاق النار على كل شخص من شعب الهيريرو أو الناما دون تمييز، سواء حمل السلاح أم لم يحمله، رجلاً كان أو امرأة أو طفلًا، تمامًا كما تفعل إسرائيل في غزة اليوم.

أدّت هذه الحملات المسعورة إلى إبادة 65 ألفًا من الهيريرو، ونصف عرقية الناما. والبقية تم تهجيرهم إلى الصحراء، وخصصت لهم محميات لا تتوفر فيها مقومات الحياة، ففتكت بهم الأمراض والمجاعة.

وفي تنجانيقا، قُدر ضحايا حملات الإبادة الألمانية المنظمة بأكثر من 100 ألف من السكان الأصليين. خرّبت هذه الحملات منازلهم ومزارعهم وقتلت حيواناتهم بشكل همجي. والأنكى من ذلك أن أعدادًا كبيرة من السكّان الأصليين استخدموا كتجارب علمية في المختبرات لإثبات تفوق العِرق الألماني.

بلجيكا وقطع الأيدي

استعمرت بلجيكا أكبر دولة في وسط أفريقيا وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومارست أسوأ أنواع الاضطهاد والتمييز بحقّ السكان الأصليين. والغريب أن الملك ليوبولد الثاني شخصيًا (1885)،  اعتبر أن أرض الكونغو ومَن عليها من بشر وحجر ووبر، ملكٌ له شخصيًا، يتصرف فيها كما يشاء.

وبموجِب ذلك، تم إجبار كل شعب الكونغو على العمل دون مقابل، وبكل همة ونشاط في مزارع الملك في بلدهم، وفي حالة التقاعس- عن العمل في مزارع الملك- تقطع أيدي المتقاعسين، ويمثل بهم. وبسبب هذه السياسة المتوحشة أصبحت الكونغو تضم أكبر عدد من مقطوعي الأيدي في القارة الأفريقية.

مارست بلجيكا حملة إبادة ممنهجة في الكونغو، شملت المذابح الوحشية، والتجويع، ونشر الأمراض المعدية، وبلغ إجمالي ضحايا هذه الجرائم ضد الإنسانية عشرة ملايين كونغولي. وقد أطلق الكاتب البريطاني آرثر كونان دويل على هذه المذابح: "أعظم جريمة سجلت في تاريخ البشرية."

لقد علِقت هذه المجازر في الذاكرة الجماعية للشعب الكونغولي، وظل يطارد بها بلجيكا حتى اضطر الملك الحالي فيليب ليوبولد الثاني إلى زيارة الكونغو والاعتذار لشعبها، وأكد في اعتذاره "أن الحكم الاستعماري قام على الاستغلال والسيطرة، وهي فترة اتسمت بالأبوية والتمييز والعنصرية، وبالتالي أدّى ذلك كله إلى الوحشية والإذلال."

فرنسا.. إطلاق نار حر

لم يكن الاستعمار الفرنسي أقل وحشية، ولا سيما أنه امتد ليشمل ثلث القارة الأفريقية تقريبًا. سفك الاستعمار الفرنسي، الدماءَ بوحشية من الجزائر إلى رواندا، مرورًا بغرب ووسط أفريقيا. وقد واجه مقاومة جادة في الغرب الأفريقي قادها زعماء وشيوخ مسلمون، وربما منذ تلك المرحلة بدأ رهاب الإسلام يقلق القادة الفرنسيين، حتى بلغ أوَجه في العهد الماكروني الحالي.

في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد.

ومن أجل إخماد هذه الثورة، دعا الحاكم الفرنسي 400 عالم وشيخ مسلم؛ بغرض التشاور معهم حول إدارة البلاد، وشرح نوايا فرنسا الطيبة في مساعدة تشاد، ولكنه غدر بهم وقتلهم جميعًا بدم بارد، في يوم واحد، وتم دفنهم في مقبرة جماعية بالقرب من منطقة أم كامل. وبعدها بدأت فرنسا في إخضاع تشاد بالحديد والنار.

أما في الجزائر، فإن مجازر فرنسا تعد ولا تحصى، فقد استحقت الجزائر بسببها تسمية بلد المليون شهيد. استخدمت فرنسا كل وسائل القتل والعنف النفسي؛ لكسر إرادة الشعب الجزائري، ولكنها لم تفلح، وخرجت خائبة من الجزائر. يكفي أن نشير فقط إلى ثورة سطيف ومجزرة مايو 1945، حيث دمر الجيش الفرنسي أكثر من مائة قرية، وكانت حصيلتها أكثر من 70 ألف شهيد، واعتقال عشرات الآلاف، الذين أعدموا بعد ذلك.

لم تتوقف مخازي فرنسا في التاريخ المعاصر، حيث دعمت الحكومة الاشتراكية في باريس في العام 1994 نظام الهوتو الدكتاتوري في رواندا، وزودته بالسلاح، وغضت الطرف عن حملاته الشرسة ضد التوتسي، والتي انتهت بمذبحة التوتسي في رواندا، التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف قتيل. وقائمة مذابح الاستعمار الفرنسي في أفريقيا طويلة، من المغرب إلى مدغشقر، والسنغال، وغينيا، وهذا غيض من فيض.

بريطانيا.. الإخضاع بالمدافع

تمدّدت الإمبراطورية البريطانية حول العالم، وملكت مُلكًا عظيمًا. حتى إن الملك جورج سار على نهج الخليفة الرشيد في بغداد، وخاطب السحاب: "أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك". ولكن بريطانيا جعلت ساحة المستعمرات كلها ساحة إطلاق نار حر.

لقد سفكت الإمبراطورية الدماء كثيرًا في أفريقيا ظلمًا وجورًا، واستعبدت أهلها، وجعلت أعزة قومها أذلة. ومجازر بريطانيا في أفريقيا تحتاج أسفارًا تنوء بها العصبة أولو القوة. فقط نذكر بمجزرتَين عظيمتَين في القارة الأفريقية: أولًا: قمع ثورة الماو ماو (جيش الحرية والأرض) في كينيا، والتي استمرت حوالي عشر سنوات، وانتهت في العام 1960. كانت الماو ماو حركة تحرير لاسترداد أراضي السكان الأصليين التي صادرتها بريطانيا، وجعلت أهل الأرض عبيدًا للسخرة. شاركت في هذه الحركة عدة قبائل، كلها تضررت من سياسة مصادرة الأرض جورًا. ولكن رد الفعل الاستعماري كان قاسيًا ووحشيًا، فقد جرى قمعُ الثورة بقوة البارود، وقتل خلال هذه الثورة حوالي 90 ألف قتيل، واعتقل أكثر من 100 ألف آخرين.

أما في السودان، فقد كانت معركة "كرري" في أم درمان نموذجًا آخر للسعار البريطاني، وسفك الدماء من أجل السيطرة على الأرض والثروات. في هذه المعركة استخدمت بريطانيا- لأول مرة في تاريخ أفريقيا- المدافع الآلية في القتال. وقتلت في ساعتين فقط أكثر من عشرين ألف شهيد، وجرحت أكثر من 30 ألفًا من جيش المهدية الذي قاتل باستبسال.

لقد كانت سياسةُ الأرض المحروقة، والتشفي، والمجازر، والولوغ في دماء الأبرياء، نهجًا ثابتًا للاستعمار الغربي في أفريقيا. سارت على هذا النهج أيضًا إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وهولندا، مما يضيق المجال لسرده. ولا يتطرق هذا المقال إلى الجرائم ضد الإنسان والإنسانية التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، فهي أكبر قوة ارتكبت مذابح، وسفكت دماء الأبرياء في التاريخ المعاصر.

فلسفة استعمارية خاطئة

انطلقَ الاستعمار الغربي من فلسفة عمياء تقوم على أن أفضل وسيلة لإخضاع الشعوب والتحكم فيها وفي أراضيها ومواردها، هو العنف والقهر، حيث يؤدي ذلك إلى الانهيار النفسي أمام القوة القاهرة والاستسلام. وربما أفلحت هذه السياسة في تدجين بعض الشعوب، فخضعت للمستعمر، وأسلمت له أمرها رغبًا أو رهبًا.

هذه السياسة الدموية البلهاء ينتهجها الآن قادة إسرائيل ونخبها، لذلك نرى أنهم يستخدمون القوّة المفرطة في حربهم القذرة على غزة، ويدعمهم القادة الغربيون؛ لأنهم يؤمنون بالسياسة ذاتها التي مارسوها في المستعمرات من قبل. ولكن الذي يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أن هذه السياسة لن تفلح لدى الشعوب المسلمة، بل تؤدي إلى مفعول عكسي تمامًا، فهي تذكي روح الجهاد والاستشهاد وتبقي القضية حية من جيل إلى جيل.

لنتذكر فقط نموذجًا واحدًا في التاريخ المعاصر، وهو أفغانستان. لقد استخدمت أميركا القوة المفرطة والمميتة ضد الشعب الأفغاني، وسعت بكل الوسائل الوحشية لكسر إرادته للاستسلام. ولكن رغم عشرين عامًا من القهر المطلق، لم ينكسر هذا الشعب، بل انتفض بإباء وشموخ، انكسرت أمامه شوكة أميركا؛ فخرجت خائبة تجر أذيال الهزيمة.

ولتعلم إسرائيل أن الشباب الذي يقاتل الآن بعزة وشجاعة في غزة هم أبناء وأحفاد أولئك الذين هجروا من أرضهم ظلمًا وجورًا في نكبة 1948. وسيبقى زخم هذه القضية حيًا من جيل إلى جيل حتى النصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق