الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

معبر رفح.. خنجر في الخاصرة

 معبر رفح.. خنجر في الخاصرة

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما 
في كلية الإعلام بجامعة مرمرة


في ظاهر معبر رفح ملايين الأطنان من المواد الغذائية والطبية والإغاثية، مئات الشاحنات المكدسة على مدّ البصر، وآلاف الشحنات التي ربما أكل بعضها العطب من الوقوف في صحراء سيناء، وسائقون لم يملّوا من الانتظار سبعين يومًا، والذهاب والعودة "بالقطّارة"، شاحنةً شاحنة، انطلاقًا نحو نقطة التفتيش الإسرائيلية، ثم دخولًا إلى الجانب الفلسطيني من المعبر منزوع العبور، مسلوب السيادة، مذبوح المعنى.

وفي باطنه، صنوفٌ من العذاب، أقوام جوعى، وأطفال يرحلون ببطء شهداء كسرة الخبز، ونساء يمزقن من الخيام قطعًا من القماش البالي بديلًا كارثيًّا عن الفوط الصحية، ورجال جفت حلوقهم وشفاههم وشحبت وجوههم وجحظت عيونهم من العطش، والبحث عما يصلح لإطعام أسرهم، التي قد يعودون ولا يجدونها إلا أشلاءً، أو قد تسلم، ولا يعودون هم، أو قد يهلكون جميعًا، فيتناولون الوجبة التالية في الجنة.

شمال معبر رفح أفواهٌ مفتوحة على مصاريعها، وجنوب المعبر شاحنات مكدسة إلى أفواهها، شمال المعبر جرحى يموتون نزفًا حتى الرمق الأخير، وجنوب المعبر مخزون العالم من الطب والمهارة والتمريض والتطبيب، شمال المعبر مستشفيات متوقفة عن العمل لأنه لا قطرة وقود واحدة تنقذ نفسًا واحدة، وجنوب المعبر غازٌ ووقود وسولار. وبين جانبي المعبر ضباطٌ محليون ينتظرون سماعة الهاتف من القاهرة وسيناء، للاطمئنان على إذن إسرائيل، لتسمح بما تسمح به، وتمنع ما تمنع، في مسرحية صورية، شكلية، مبتذلة، يؤديها مهرجٌ كعروسةٍ من قطن، يحركها من الأعلى مخرِجٌ "عاوز كدا".

أي اتفاق بين سلطتين هو والعدم سواءٌ حين لا يتفق مع القانون الدوليّ، تمامًا كأن تعقد اتفاقًا لاكتراء منزل، أو صفقة تجارة، بما يخالف قانون العمل، ودستور البلاد، فستكون باطلة لأن ما بُني على باطل فهو باطل، ومن هنا، بتلك البساطة، تُلقى الحجة المصرية الضاحدة في أقرب صندوق قمامة، لنضع نقطةً، ونبدأ من أول السطر.

أرض فلسطينية بالأعلى، وأرض مصرية بالأسفل،    ورفح بينهما كخنجر في الخاصرة، بدلًا من أن يكون نطاقًا يشد على البطن وقت الجوع                           

الأمر ليس أمر قوانين، ولا أعراف، ولا اتفاقيات، ولا يحزنون، وليس للسيادة -أيها السادة- أي دور في الموضوع، مجرد كلمة مبتذلة أخرى من كلمات العمل المهزَّأ، وإنما كل ما في الأمر أن أحدهم ينسق مع أحدهم لقتل جميعهم في مكانٍ ما، وذلك يمثّل أنه يأذن، وهذا يمثل أنه يستأذن، بينما المعنيّون الوحيدون بالأمر لا يجدون خشاش الأرض حتى يأكلوه، ولا يصلون إلى ماء البحر حتى يشربوه.

أرض فلسطينية بالأعلى، وأرض مصرية بالأسفل، ورفح بينهما كخنجر في الخاصرة، بدلًا من أن يكون نطاقًا يشدّ على البطن وقت الجوع، وضمادةً تشد على الجرح وقت النزف، بل بدلًا من ذلك كله يكون هو بوابة العذاب، لأنه موجود، ولو لم يكن موجودًا لكان أهون بكثير، ولكنه متنفس السادية، ومتعة الأذية، وتلذذ القاتل بآلام المقتول، ورؤيته يتمنى ولو شربة ماء، ولو لقمة طعام، بينما ينازع الموت وينازعه.

يقول المدير العام لوزارة الصحة في غزة، منير البرش: "لو كان الأمر بيدي لأغلقت معبر رفح حتى لا يُحسب علينا"، وتلك هي القصة، وذاك مربط الفرس، هي تلك اللَّقطة التي يريد أن ينتفع منها بكل السبل جلاد مصر الأول، الذي يجوّع 100 مليون مصري فداءً لغروره، ولا يتورّع عن تجويع أكثر من مليوني إنسان، تحت القصف والموت والقتل، فداءً لجبنه وخيانته، وحفاظًا على "أمن إسرائيل" الذي يعني "أمن دولته"، ولو تزعزع هذا لتزعزع ذاك، ولو سقط لسقط، فلا يحرس بوابنا المعبر بذلك الإخلاص إلا لحاجتين في نفسه: أنه يحرس أسياده لا سيادته، وأنه يحرس حظوظه لا حدوده.

لكن التاريخ لا ينسى، والديان لا يموت، والمعبر لا يُفتح إلا حين يُهدم، وكلب الحراسة لا يكف عن النباح، إلا حين تقف عظمة زائدةٌ، بحكم الطمع، تقف في حلقه حتى تقطع نفسه إلى الأبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق