الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

اغتيال التاريخ وسحق الحضارة..

اغتيال التاريخ وسحق الحضارة.. 
كيف أباد الروس تراث وذاكرة الشعب الشيشاني؟




امتلك الشيشانيون إثباتًا ماديًا وتراثًا غنيًا يدل على تأثيرهم الثقافي والمادي وتفاعلهم مع الثقافات المختلفة عبر التاريخ، ولطالما كان هذا التراث الملحمي شاهدًا على ذاكرة الأمة وعائقًا أمام الدعاوى الروسية المزيفة، لذا وقع ضمن أهم الأهداف العسكرية التي خططت الأنظمة الروسية لمحوها، بدءًا من الإمبراطورية الروسية ثم السوفيتية وصولًا إلى الخلفاء الحاليّين.

على مر تاريخ الصراع الشيشاني الروسي، لم يكن احتلال الأرض الهدف الوحيد، فبشكل دؤوب، صاحب احتلال الروس الأرض وإخضاع السكان، إبادة الموروث الثقافي والذاكرة التاريخية للشيشانيين وتدمير أي مؤسسات ثقافية أو فكرية تساند ذاكرتهم أو تضفي شرعية على المقاومة، فقد كان الروس على وعي تام بأن التراث الشيشاني لا يرمز فقط إلى أعدائهم، لكنه شكل أصيل من أشكال الحياة، لذا أرادوا طمسه ومنعه من التكوّن من جديد، ليسهل عليهم إخضاع الشيشان.

ونتيجة لذلك، لم يعان الشعب الشيشاني سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا فقط، بل فقد كذلك أحد أهم أشكال الوجود الجمعي، لذا ينظر الشيشانيون إلى فترة الهيمنة الروسية على أنها محاولة لتدمير شخصيتهم من خلال إبادة تراثهم القومي وقطع روابطهم الدينية والمادية مع ماضيهم.

وقبل أن استفيض في هذا الموضوع، أود الإشارة إلى أن العالم لم يغمض عينيه فقط عن قتل الأمة الشيشانية، بل تغاضى عن إبادة التراث الشيشاني التي ارتكبتها روسيا بشكل منهجي، ولم تنل هذه القضية حتى اليوم اهتمام الباحثين مثلما نالت على سبيل المثال البوسنة وكوسوفو والتبت وغيرهما، رغم أن التدمير الروسي للتراث الشيشاني أشد بشاعة من أخويه الصربي والصيني.

وبفضل سفاراتها ومواردها الإعلامية ودخولها العديد من المنتديات الدولية والثقافية، لم تتحكم موسكو في رواية الصراع و في أن تجعل أكاذيبها بديلًا عن الإبادة الثقافية والمعاناة الحقيقية التي عاشتها الشيشان، بل استطاعت كذلك أن ترسخ رؤيتها للصراع، وإعادة تأطيره كحرب داخلية ضد الإرهاب ومسرحية أخلاقية بين الخير والشر، أصبحت مقبولة الآن دون نقد!

تحدي القرون
إن حكاية إبادة الروس للتراث الشيشاني لها تاريخ طويل دامٍ، بدأت أولًا مع إمبراطورية رومانوف، ففي القرن السادس عشر تحت حكم “إيفان الرهيب” بدأ التوحش الروسي الذي احتل أجزاءً من الأراضي المنخفضة في الشيشان، لكنه لم يكتف باحتلال الأرض، بل جلب أعدادًا كبيرةً من الروس لتوطينهم في الشيشان، هذا التعدي أدى إلى زعزعة التوازن الديموغرافي في المنطقة.

واجه الشعب الشيشاني أوقاتًا عصيبةً، واستمر الصراع ما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، وخلال تلك الفترة الطويلة، استخدم الروس تكتيكات الإبادة والإرهاب لتدمير ثقافة وتراث الشعب الشيشاني، لكن هذا الوضع خلق روحًا قتاليةً عظيمةً للشيشانيين، إذا جعلهم يحاربون بعناد جيوش القيصر القوية ويحتضنون هويتهم الثقافية بكل قوة.

وبحلول عام 1826، وبعد صعوبات كثيرة، عززت روسيا قبضتها على منطقة القوقاز بأكملها وضمت الشيشان إليها، ومن المفارقات أن مدينة غروزني التي سيدافع عنها الشيشانيون في الحربين الأخيرتين، أنشأها القياصرة الروس عام 1818 لهدف وحيد، وهو تدمير الأمة الشيشانية وإنشاء مستوطنات للجنود الروس.

كان لدى الروس نهج وحشي في التعامل مع كل ما يمت بصلة للشيشان، فارتكبوا مذابح وعمليات إبادة وتهجيرًا قسريًا، ما أدى إلى تدمير السكان ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، واضطرت أعداد كثيرة للهروب إلى تركيا، وكشفوا عن القصص المروعة التي تعرضوا لها، لكن ظل جزء كبير من الشيشانيين يحارب ببسالة كل أشكال الهيمنة الروسية من أجل الحفاظ على حريتهم وثقافتهم.
ثم حين قامت ثورة البلاشفة عام 1917، سارع الشيشانيون وشعوب شمال القوقاز الأخرى إلى اغتنام الارتباك الذي تلا هذه الثورة كفرصة للخروج من الجحيم الروسي، أعاد الشيشانيون إحياء مشروع “الإمام شامل” على يد حفيده “سعيد بك” وكان الهدف إقامة دولة مستقلة في شمال القوقاز تتمركز في الشيشان وداغستان.

تحالف البلاشفة مع الشيشانيين وأعطوهم وعدًا بتقرير مصيرهم مقابل أن يقفوا بجانبهم، وبالفعل صدق الشيشانيون وعود البلاشفة وساعدوهم في هزيمة أعدائهم، لكن في عام 1920 وفي حركة غادرة، وجه الروس أسلحتهم نحو حركة شمال القوقاز الإسلامية، ثم في غضون خمس سنوات، سحق البلاشفة الروس هذه المحاولة الأخيرة لإنشاء دولة تجمع الشيشان وداغستان في كيان واحد، ودون أي رحمة، عززت القوات السوفيتية وجودها في شمال القوقاز، إلى أن أعلنوا في العام 1936 الشيشان جمهورية اشتراكية سوفيتية.

إنكار الماضي


جلبت الحقبة السوفيتية للشيشانيين معاناة ومآسي لا توصف، فقد أطلق العنان لعملية تدمير التراث الثقافي للشيشان، أُنكر الماضي تمامًا، وتم إضفاء الطابع السوفيتي على شكل البلد، كان الشيشانيون تحت ضغط كبير بسبب محاولة الروس إدماجهم بشكل قاسٍ في الثقافة الروسية، لذا كانت اللغة والثقافة الشيشانية من أوائل الأشياء التي شهدت تدميرًا واسعًا.

لم ينظر الروس إلى اللغة الشيشانية باعتبارها لغة مواطني الدرجة الثانية، بل منعوا الشيشانيين من استخدام لغتهم الخاصة التي فرضوا تحويلها أولًا إلى الأبجدية السيريلية، ثم استخدموا أساليب قاسية في تحجيم وقمع اللغة الشيشانية، فإذا رغب الشيشانيون مثلًا في الحصول على وظيفة أو الحصول على تعليم، كان عليهم أن يتقنوا الروسية، اللغة المعتمدة في مناطق الشيشانيين! هذا إضافة إلى أن جميع أوامر السلطة كانت تصدر باللغة الروسية فقط.


وحين أراد الروس محو أي ذكرى تدل على وجود الناس الذين عاشوا هنا لقرون، دمروا جميع المواقع التراثية الدينية، حتى شواهد القبور أخذ الروس أحجارها واستخدموها في مشاريع البناء، أما المؤسسات الإسلامية بما فيها مساجد ومدارس الشيشانيين التقليدية ومحاكمهم الشرعية، فقد سويت بالأرض، وبعض المساجد حولها الروس إلى إسطبلات.

مُنع الشيشانيون من ممارسة عاداتهم وشعائر دينهم، حتى الحج إلى مكة ودراسة اللغة العربية، كانوا من المحرمات، وأيضًا حظر الروس عطلات الاحتفال بالأعياد الدينية أو الأعياد الشيشانية، وفرضوا الاحتفال بالذكرى السنوية للأحداث السوفيتية، مثل يوم الثورة 7 أكتوبر/تشرين الأول وعيد ميلاد الجيش الأحمر 23 فبراير/شباط ويوم النصر 9 مايو/أيار ويوم الاشتراكية الدولية 1 مايو/أيار ويوم رأس السنة.

كذلك استبدلت بالأسماء الشيشانية للمواقع والأماكن والنصوص التاريخية الأسماء الروسية الجديدة، وفي روايته “التوأم لا ينفصلان” وصف أناتولي بريستافكين الشيشان بأنها لم تعد موجودة، بسبب تقسيم أراضيها بين الجمهوريات المجاورة، وتغيير أسماء وهوية الأماكن الشيشانية بمرسوم صادر من مجلس السوفيت الأعلى.

لكن الخسارة الكبرى كانت في حرق الوثائق والمخطوطات الشيشانية القديمة والأعمال العلمية والأدبية المكتوبة بالأبجدية العربية – خصوصًا في عهد ستالين -، بحسب شهادة سكان مدينة غروزني في تلك الفترة، فقد جمعت أكوام الكتب والمخطوطات من المكتبات الخاصة ودور المحفوظات من جميع أنحاء الشيشان إلى ميدان غروزني المركزي، ولعدة أيام، أحرق الروس كل هذه الكتب والوثائق في وسط المدينة بنفس طريقة الفاشيين.

كذلك طال القمع إعدام العديد من القادة السياسيين والمثقفين الشيشان من الجيل الأقدم، وبشكل خاص، ركز الروس على قتل الزعماء الدينيين بسبب مقاومتهم السلطة، وبالأخص اصطياد أعضاء الجماعات الصوفية الذين صنفهم علماء الاجتماع السوفييت على أنهم “متعصبون متطرفون”.

وفي الواقع، كل هذه الوحشية الروسية، أدت إلى المقاومة والثورات المستمرة، فقد واجه السوفيت عدة انتفاضات خلال الثلاثينيات والأربعينيات، ومن اللافت أن الشيشانيين كانوا يعادون الحكم الروسي بشكل علني، وحتى مع قمع كل انتفاضتهم بشكل قاسٍ، استمروا في تحدي القوة السوفيتية، خصوصًا أئمة مساجد القرى الثائرين.

الأمر الذي جعل الروس يصنفون الشيشان كـ”أكثر الأمم جرأة وعنادًا”، وفي الواقع، كانت الشيشان بالفعل التحدي الأكبر للسوفيت في شمال القوقاز، لذا رأى الروس أن الحل الوحيد هو اقتلاع الشيشانيين من أراضيهم ومحوهم من الخريطة بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة.

فجاء مخاض آخر حين كرر ستالين سياسة أسلافه، وهجر جميع الشيشانيين قسرًا إلى سيبيريا في شتاء عام 1944 بحجة أنهم تعاونوا مع الألمان – لا يوجد دليل ملموس على هذا التعاون -، أما الذين رفضوا التهجير، فقد قُتلوا وأحرقوا أحياء.

وعقب تهجير الشيشانيين مباشرة من أرضهم، سرق الروس كل الممتلكات المادية والثقافية من ديارهم، كان هناك تدفق مستمر من المركبات العسكرية لسرقة كل الممتلكات من منازل المُهجرين، وكانت العناصر الأكثر قيمة (في رأي الجنود) المجوهرات والسجاد والمعاطف والأحزمة القوقازية التقليدية والمنحوتات الخشبية والسيوف والخناجر العتيقة المرصعة بالذهب والفضة (صنعها يدويًا الحرفيون الشيشان في القرن الماضي).

الروس نجحوا نسبيًا في السيطرة على بقية شعوب القوقاز، فيما فشلوا في الشيشان، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى طبيعة الهوية الشيشانية الرافضة لكل أشكال الاندماج الروسي

جرت سرقة كل هذه الأشياء في الشاحنات العسكرية ونقلت إلى موسكو، أما المخطوطات القديمة والأطروحات اللاهوتية والفلسفية والسجلات التاريخية والأساطير القديمة ومؤلفات الأدب الوطني التي وجدوها في البيوت، فأُلقيت كلها في غروزني في الثلج، بجوار المراحيض العامة خارج قصر الرواد.

لكن حتى بعد سماح خروتشوف عام 1957 لمن تبقى حيًا من الشيشانيين بالعودة إلى ديارهم، تعرضوا لاضهاد منهجي لا هوادة فيه، كان الروس قد نهبوا واستولوا بالفعل على أراضيهم وبيوتهم عقب تهجيرهم، والأهم من ذلك، أن الشيشانيين مُنعوا من التحدث عن التهجير القسري أو حتى كتابة شهادات بشأن تجربتهم المؤلمة، وحظرت ذكرى الترحيل تمامًا حتى التسعينيات.

ورغم أن البيئة الثقافية الشيشانية دُمرت بشكل كامل نتيجة لسياسات الإبادة الروسية التي حاولت اقتلاع السكان من جذورهم، فإنها مع ذلك لم تكن قادرة على تدمير الذاكرة الجماعية بالكامل، إذ ظل الشيشانيون متمسكين بشخصيتهم، ودائمًا ما أظهروا على مر تاريخهم أن جاذبيتهم للإسلام والحرية لا يمكن قطعهما بسهولة.

وفي روايته “أرخبيل غولاغ” يؤكد المؤلف الروسي الشهير ألكسندر سولجنيتسين أن الشيشان هي الأمة الوحيدة التي رفضت قبول سيكولوجية الخضوع، كما يذكر أنهم لم يخفوا كرههم للروس وحاولوا كلما أمكن أن يجدوا لأنفسهم وظائف خارج نطاق الدولة السوفيتية التي نظروا لها بازدراء.

من اللافت حقيقة، أن الروس نجحوا نسبيًا في السيطرة على بقية شعوب القوقاز، فيما فشلوا في الشيشان، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى طبيعة الهوية الشيشانية الرافضة لكل أشكال الاندماج الروسي، بجانب الحركة الصوفية – النقشبندية والقادرية – حيث كانت قوة عنيدة ومتحدة، بنت “مساجد سرية مؤقتة” من أجل استمرار الكفاح، وظلت تعمل في السر مع العشائر الذين كانوا يحكمون الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية.

العودة: تأكيد الهوية
لم يكن الشيشانيون دميةً في يد الروس، لقد سعوا للاستقلال في كل فرصة متاحة، ودائمًا ما نظروا إلى أنفسهم كأمة حرة، لذا لم يكن من المستغرب حين بدأ الاتحاد السوفيتي في التفكك، أن يبدأ الشيشانيون في الثورة مرة أخرى.

لطالما كانوا مدفوعين بقصص وقيم الأئمة المجاهدين في القرون الماضية، ويبدو أن هذا الأمر ساعدهم على تحمل ضغط الأيديولوجية السوفيتية، وأيضًا كان الدين في غالب الأحيان مصدرًا للوحدة والإلهام في الصراع بكل أشكاله ضد روسيا، ومن الواضح كذلك أن الدين قدم لهم إطارًا أخلاقيًا لمقاومة الروس.


ومثلما اختفت المؤسسات التراثية والإسلامية سريعًا أيام حكم الروس، فقد عادت للظهور سريعًا في السنوات الأولى لحكم الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، وهذه المرة لم يكن على الشيشانيين العمل في السر.

كان من أوائل الأشياء التي أزالها الشيشانيون، هي النصب التذكارية والتماثيل التي نصبها الروس في أرضهم، كتماثيل ستالين ولينين والنصب التذكاري للجنرال القيصري الدموي “إرمولوف” وقد نوقشت بالحجر أسفل هذا النصب إحدى مقولات إرمولوف العنصرية عن الشيشانيين، لذا فجر الشيشانيون هذا التمثال الذي كان يرمز إلى إذلالهم.


“تمثال لينين” أطاح به الشيشانيون عام 1991 وجروه في شوارع غروزني ثم ألقوه في نهر سونزا

في الحقيقة، انخرطت الشيشان بشكل كبير في استعادة ماضيها، بنت عليه هويتها، وأعادت الاتصال بالعالم الإسلامي، كما تهافتوا بأعداد كبيرة على الحج والعمرة حيث حرموا منهما زمنًا، ونلاحظ أنه في هذه الفترة، تسارعت أسلمة الشيشان بشكل لافت، فظهرت الشعارات الإسلامية في تفاصيل الحياة، وضغط قسم كبير من السياسيين من أجل أسلمة المجال السياسي، بل وحتى المناهج الدراسية سرعان ما غيرها الشيشانيون.

في الواقع، اتخذت الحكومة الشيشانية خطوات مهمة لنزع الطابع الروسي من البلد واستعادة الهوية والتقاليد الأصلية، فأعادت تسمية المدن والشوارع والساحات، وبنت المساجد والمدارس الإسلامية بشكل واسع، من المهم جدًا ملاحظة أنه في إحصاء عام 1999 كان في الشيشان نحو 500 مسجد نشط، تم بناء أو إعادة بناء معظم هذه المساجد بعد عام 1991.

وفي لافتة غاية في الأهمية والأصالة، شكل الرئيس داوديف لجنة للبحث عن وجمع شواهد القبور التي استخدمها الروس لبناء ممرات المشاة ومزارع الخنازير، وجمعوا بالفعل كل الشواهد التي وجدوها وأنشأوا منها نصبًا تذكاريًا كبيرًا لذكرى وشهداء التهجير، ونوقشت عليه كلمات الرئيس الشيشاني: 
“لن نبكي.. لن ننسى.. لن نسامح”! 
فقد كانت هذه الكلمات تُتلى بشكل شائع، وأيضًا في فبراير/شباط 1994 قام الشيشانيون بإحياء الذكرى الخمسين للتهجير بصلوات وتجمعات وهتافات 
“لن يُنسى شيء.. لن يُنسى شيء”.

كذلك أصدرت الحكومة الشيشانية مرسومًا يقضي بأن توفر جميع المباني الحكومية غرفة للصلاة وأن ترتدي موظفات الحكومة الحجاب، بجانب إلغاء العطلات التي فرضها الروس واستعادة العطلات الدينية، وأيضًا اهتم الشيشانيون بإحياء بعض المناسبات القومية والدينية، فتم إعلان يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني عطلة وطنية احتفالًا باستقلال الشيشان، وكذلك تم الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الإمام شامل في 21 يوليو/تموز 1997، إضافة لذكرى يوم التهجير.

هذا بجانب بناء المراكز الثقافية الجديدة والمعاهد الدينية والعلمية والهيئات الإدارية المستقلة عن روسيا، وترميم المعالم التاريخية القديمة، وفتح أنشطة المؤسسات المتحفية والمسارح والفرق الموسيقية، وخاصة دور الثقافة الريفية.

وفي الواقع، نجح المثقفون الشيشانيون في إنشاء منظمات لتعزيز الهوية وإعادة كتابة التاريخ، ونقد الكتابات الروسية المضللة، بجانب التواصل مع الشعوب الأخرى التي حاول الروس إبادتها، حيث شكلوا منظمة عرفت باسم “اتحاد الشعوب المقموعة” من أجل تسليط الضوء على أهوال التهجير وإبادة الروس لشعوب بأكملها، وعقدت مؤتمرات، ونشرت كتب باللغتين الروسية والشيشانية عن هذا الموضوع الذي لم يكن من الممكن التحدث عنه قبل عام 1989.

والأهم من كل ذلك، العودة القوية لأنشطة الطباعة والنشر في الأدب والثقافة الشيشانية، وعودة اللغة الشيشانية نفسها إلى الصدارة، والتحول إلى الأبجدية الشيشانية، حيث شهدت الساحة في هذه الفترة نشاطًا كبيرًا للكتب والروايات والمسرحيات التي دار غالبيتها عن التهجير والتقاليد الوطنية وواقع المجتمع الشيشاني، هذا مع تعليم اللغة العربية في المدارس بدلًا من الروسية، إذا تم إعلان الأخيرة كلغة أجنبية في الشيشان.

في المجمل، بعد العام 1991، حدثت تغيرات كبيرة على مستوى الهوية والثقافة الشيشانية، استقر الإسلام باعتباره الشكل الرئيسي لتحديد الهوية، ورأى الشيشانيون حاضرهم عبر شاشة الماضي، وأعادوا تنظيم المناهج الدراسية والمتاحف والمكتبات وأقاموا مؤسسات ثقافية جديدة، وهذه العودة السريعة جدًا إلى الجذور، ليست مفاجئة، إنما هي نتيجة منطقية واتصال طبيعي بتراث وتاريخ لم ينقطع.
المحرقة الروسية: استئصال الذاكرة

حين شكل الشيشانيون في نوفمبر/تشرين الثاني 1991 أول حكومة تحت قيادة الرئيس جوهر دوداييف وأعلنوا الشيشان دولة مستقلة، رفضت روسيا هذا الاستقلال، وحاولت لأكثر من ثلاث سنوات إعادة الأوضاع إلى السابق، ثم حين فشلت كل العمليات السرية للإطاحة بدوداييف، أصبح الغزو العسكري الشامل أمرًا لا مفر منه، ومن ثم بدأت روسيا حربها الأولى على الشيشان في أواخر 1994.

هذه الحرب اتخذت شكلًا أبشع من حروب الصرب ضد البوشناق والألبان، على حد وصف الصحفي أسعد طه حين ذهب إلى الشيشان في حربها الأولى ثم عاد إلى البوسنة، فاعتبر أن البوسنة بكل مآسيها الجارية كانت “باريس” بالنسبة لما يحدث في الشيشان!


فهل يصبح السلام والحرية حقيقة في ظل الاحتلال والقوة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق