الجمعة، 29 ديسمبر 2023

مصر .. ملكية عسكرية

مصر .. ملكية عسكرية

خليل العناني



لم تعرف مصر منذ انقلاب يوليو 1952 سوى الحكم العسكري، فقد توارث جنرالات الجيش المصري الحكم والسلطة سبعين عاماً، باستثناء العام الوحيد الذي تولى فيه الرئيس الراحل محمد مرسي السلطة بعد ثورة 25 يناير (2011). وكما أورد الكاتب، في مقال سابق، فإنّ مصر من بين ست دول في العالم (تشاد ومالي وغينيا وميانمار ومصر، وقبل أيام بوركينا فاسو بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب روش كابوري) التي يحكمها العسكر حالياً، مع فارق مهم، أنّ تلك البلدان تناوب على حكمها مدنيون وعسكريون، على عكس الحالة المصرية التي لم ترَ الحكم المدني بشكل حقيقي طوال تاريخها المعاصر.

بهذا المعنى، تعيش مصر منذ سبعة عقود تحت حكمٍ أقرب إلى ملكية عسكرية، مع استثناء وحيد، أنّ توارث السلطة وتوريثها لا يحصل داخل عائلة واحدة من خلال رابطة الدم، بل من خلال رابطة مهنية ومصلحية وقبائلية (بالمعنى السياسي) بين كبار قادة المؤسسة العسكرية. وكما أنّ "المخزن" في المغرب مصدر السيادة والسلطة والشرعية، فإنّ الجيش في مصر مصدر السيادة والسلطة والشرعية، وليس الشعب أو الأمة المصرية. فمن بديهيات الحكم العسكري ألّا توجد انتخابات حرّة ونزيهة، ولا برلمان ممثل لإرادة الشعب والأمة، ولا استقلال حقيقي لمؤسسات الدولة عن الحاكم العسكري. وبالتالي، لا توجد نخبة سياسية بالمعني الحقيقي، فالجميع من أحزاب وتيارات وقوى سياسية يدور في فلك السلطة، أي في فلك العسكر.

لم ترَ مصر الحكم المدني بشكل حقيقي طوال تاريخها المعاصر

وإذا كان أنور السادات وبعده حسني مبارك قد حاولا، بدرجات متفاوتة، الإبقاء على مسافة ما بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة، من خلال آليات التحييد والزبائنية وشراء الولاء ومنح المزايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية، إلّا أنّها كانت دوماً مسافة تكتيكية وليست استراتيجية. بمعنى أنّ العسكر، تحديداً كبار القادة، على قناعةٍ بأنّهم أهل الحكم وأصحاب السلطة، ومالكو الأرض ومن عليها، ولا يمكن خروجهم أو إخراجهم من السلطة مهما كان الثمن. وبات الأمر كما لو كان عقيدةً سياسية، وحالةً نفسيةً مستقرّة وثابتة، يجري توريثها من جيل إلى آخر. لذلك، عندما لاح سيناريو احتمال توريث مبارك السلطة لابنه جمال في الأفق، دُقّ ناقوس الخطر داخل المؤسسة العسكرية، وعبّر بعض منتسبيها والمحسوبين عليها عن امتعاضهم من الأمر. لذلك، كانت ثورة يناير بالنسبة إلى العسكر هديةً من السماء، سمحت لهم بضرب عصفورين بحجر واحد: التخلص من شبح جمال مبارك بإنهاء سيناريو توريثه السلطة، وضمان عدم حدوث انتقال ديمقراطي حقيقي في مصر، ما قد يبعدهم بشكل كامل عن السلطة. وقد تحقّق لهم ما أرادوا وزيادة، بوصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة من خلال انقلابه المشؤوم في 3 يوليو/ تموز 2013، ولم يعد العسكر إلى السلطة بشكل صريح وواضح فقط، بل أيضاً بفتح المجال والخيال واسعين أمام احتمالات توريثه السلطة لاحقاً. لكن هذه المرّة لن يكون توريثاً مهنياً فقط كما العادة، بل أيضاً عائلياً، من خلال ترفيع نجله محمود السيسي وتصعيده، وهو حالياً وكيل في جهاز المخابرات العامة المصرية، ويجري تلميعه، ويزداد حضوره، وتتسع صلاحياته داخلياً وخارجياً.

ولا يجب أن يكون توريث محمود السيسي السلطة مستبعداً، فهذا السيناريو الأكثر منطقية وواقعية وفق منطق تفكير السيسي وداعميه وحلفائه الداخليين والخارجيين وحساباتهم، فمن جهة أولى، توريث السيسي السلطة لنجله يعني ضمان بقاء هيمنة العسكر على الدولة والمجتمع لجيل قادم على الأقل، فإذا افترضنا أنّ السيسي سينهي مدّتيه الرئاسيتين عام 2030، حسبما تتيح له التعديلات الدستورية التي مُرِّرَت عام 2019، فإنّ محمود السيسي سيكون عمره وقتها حوالى 48 عاماً، ما يعني أنّه سيكون أصغر من يتولى السلطة في مصر منذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي تولاها عام 1954 وكان عمره 36 عاماً.

العسكر، تحديداً كبار القادة، على قناعةٍ بأنّهم أهل الحكم وأصحاب السلطة

ومن جهة ثانية، سيحظى محمود السيسي بدعم إسرائيل ومساندتها، كي يكون الرئيس المقبل، خصوصاً أنّه سيكون النسخة الأكثر تبعية وانصياعاً لها، والمؤتمن على مصالحها في مصر والمنطقة العربية. وسيكون على أتمّ الاستعداد لتقديم خدماتٍ لها تتجاوز بكثير ما قدّمه، ولا يزال، والده، وما يقدّمه أبرز حلفائه في المنطقة، ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد. وبالطبع، ما دامت إسرائيل راضية وداعمة ستكون هي الحال مع أميركا.

ومن جهة ثالثة، الضمانة الوحيدة لعدم محاسبة السيسي، وكبار قادته، المتورّطين في جرائم قتل وقمع واختفاء قسري واختطاف منذ ثورة يناير 2011، أن يورث السلطة لابنه، ولابنه فقط، من دون أي شخصٍ آخر من داخل المؤسسة العسكرية، مهما كانت درجة ولائه للسيسي، بمن فيهم خادمه الوفي وكاتم أسراره، عباس كامل.

الجيش في مصر مصدر السيادة والسلطة والشرعية، وليس الشعب أو الأمة المصرية

ومن جهة أخيرة، إذا تولّى محمود السيسي السلطة، سيكون النسخة الأكثر تطرّفاً وقمعاً سياسياً وأمنياً من أبيه، وهو ما يعني استمرار النهج العنيف ضد المجتمع والشعب، خصوصاً المعارضين، ولن يتورّع عن استخدام أشد درجات العنف والقتل لوأد أيّ حراكٍ جماهيري، حتى وإن استدعى الأمر الاستعانة بحلفائه الإقليميين والدوليين، على غرار ما حدث أخيراً في كازاخستان.

الطريق الوحيد فقط لوقف مثل هذا السيناريو الكئيب أحد أمرين: أن يحدث صراع على السلطة بين الجنرالات، بما قد يؤدي إلى التخلص من السيسي وابنه والعودة إلى الملكية المهنية. أو أن ينتفض المصريون ضد السيسي، ومن ثم يتدخل الجيش لإطاحته كما فعل مع مبارك في 2011، لضمان بقاء المؤسسة العسكرية في السلطة. وفي الحالين، لن يستفيد الشعب المصري من إطاحة السيسي وابنه بشكل حقيقي، ما لم يكن الهدف والمحرّك الأساسي لأيّ انتفاضة جماهيرية مقبلة إنهاء حكم العسكر مرة واحدة وإلى الأبد، وهذا هو التحدّي الأكبر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق