الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

إبادة غزة تشتعل وإسناد الأمة ينطفئ.. انعطافة من أجل الاستدراك

 

إبادة غزة تشتعل وإسناد الأمة ينطفئ.. انعطافة من أجل الاستدراك

بالنظر لما تعانيه غزة من تقتيل فاق كل وصف، وإبادة تمضي دون رادع، ودون مقدمات تسعى إلى تجميل واقعنا وتبريره، يمكننا القول دون تردد إن إسناد الأمة لشعب فلسطين ووقوفها في وجه الأهوال التي يعانيها أهلنا العُزَّل في القطاع، ضعيف وضعيف جدا، ودون المستوى المطلوب، ولا يناسب طبيعة المعركة وحجم الحرب.

هذا "الحكم"، الذي قد يكون في نظر البعض قاسيا أو لا يراعي خصوصيات كل ساحة وتحدياتها، هو "توصيف أمين" للوضع القائم، وللحراك الضعيف في عمومه، والذي لا تخطئ العين ملامحه الباهتة.

بعد انتهاء الهدنة، التي ازداد فيها حَنَق الصهاينة وهم يتلقوّن صفعات أخرى إعلامية وسياسية تنامى فيها صعود نجم القسّام والمقاومة إنسانيا في العالم وجماهيريا في الساحة الفلسطينية نفسها، رجع كيان الاحتلال إلى عدوانه وصعّد من بربريّته قتلا وفتكا وإبادة لكل شيء متحرك وساكن

انتهت الهدنة فازدادت الشّراسة.. تستغيث غزة فيضعُف الإسناد

انطلق العدوان الشامل على القطاع، لا يميز بين هدف عسكري وعموم المدنيين والبنايات والمنشآت، فور استفاقة كيان الاحتلال من سكرة السابع من أكتوبر وتجميع قواه المشتّتة الخائرة. وأمام حجم الضربة الاستراتيجية وعمقها ومداها العسكري والسياسي، عمد جيش "إسرائيل" إلى تكبيد الفلسطينيين أكبر الخسائر الممكنة؛ إذ سرعان ما رفع أعداد الشهداء من المئات إلى الآلاف، لا يضيره أن يكون 70 في المائة منهم أطفالا ونساء، وسرعان ما دمّر غزة تدميرا شاملا، كأنه ينتقم من الحجر والشجر حين لم يستطع الوصول إلى بنية المقاومة العسكرية وقياداتها وأنفاقها وأدواتها وعتادها.

كانت الفترة الأولى غاية في الشّراسة وشديدة في التوحّش، وتكفي مجزرة المعمداني واقتحام الشفاء وقصف المساجد وهدم كنيسة القديس بروفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم، ناهيك عن محو عشرات العائلات بأكملها من السجل المدني، للدلالة على طبيعة هذا الكيان النّازي السّادي. وخلال هذه الفترة عمدت شعوب الأمة في عدد من الدول إلى الاحتجاج، في هذا البلد وذاك، دون أن يرتقي التظاهر ليتناسب مع حجم العدوان، ودون أن يشكّل ضغطا حقيقيا على الأنظمة من شأنه أن يرغمها على مراجعة مواقفها المتخاذلة المنبطحة.

بعد انتهاء الهدنة، التي ازداد فيها حَنَق الصهاينة وهم يتلقوّن صفعات أخرى إعلامية وسياسية تنامى فيها صعود نجم القسّام والمقاومة إنسانيا في العالم وجماهيريا في الساحة الفلسطينية نفسها، رجع كيان الاحتلال إلى عدوانه وصعّد من بربريّته قتلا وفتكا وإبادة لكل شيء متحرك وساكن، في الشمال كما في الجنوب. ليواصل شعب غزة الأسطوري مواجهة النار بالدم المدرار، والقنابل بالصدور العارية، والآلة العسكرية الفتّاكة بالأجساد المنهكة، ومن وراء ذلك مقاومة باسلة قوية، تُكبّد الكيان الخسائر تلو الخسائر والضربات تلو أختها.

أمام المشهد الحالي، المغرق في الدموية والتّقتيل والتدمير، والذي يبدو أن صُنّاعه يراهنون حقّا على خيار التهجير، تراجع دعم الأمة على عكس المسار الذي ينبغي أن يتخذ منحنى تصاعديا. فإطلالة فاحصة على ساحات الأمة وعواصم بلدانها وخارطة احتجاجاتها تؤكد أن حجم التفاعل -الضعيف أصلا- قد تراجع، وأن صوت رفضها يخبو، وأن صدى غضبها يخفت. وإذا ما استثنينا أياما بعينها، كالجمعة مثلا أو حين تحدث مقتلة عظيمة، وإذا ما ابتعدنا عن بعض الدول التي تواصل، وإن بتفاوت، تنظيم الأشكال الاحتجاجية وتسيير المسيرات، فإن برودا شبه تام وهدوءا مستغربا يضرب معظم أطراف الأمة، في شمال إفريقيا وفي دول الطوق وفي الخليج وفي جسد الأمة غير العربي.

اللافت هنا أنه في الوقت الذي يتواصل فيه ضغط الشارع الغربي، مُنوّعا في الأساليب والأشكال، ومُحْرجا ساسته وأنظمته وحكوماته، وهو ما يعكس تنامي الوعي بحقيقة القضية وحجم العدوان وبخديعة السردية الإسرائيلية، يتنازل منحنى اهتمام الشارع العربي الإسلامي ويقل حجم تضامنه وتضعف أشكال انخراطه في المعركة الجارية، وهو ما يضعنا أمام مفارقة غريبة أخلاقيا بقدر ما هي مُحرجة دينيا.

لاقت تلك المقاطع رواجا واسعا وشيوعا كبيرا لدى أبناء الأمة المتابعين بقلوبهم المحترقة ما يجري في أرض فلسطين، وأصبحت جزءا من التداول اليومي في منصات التواصل وتطبيقات التراسل، مُذيَّلة بعبارات الفرح بهؤلاء الشباب الذين مرغوا أنف الجيش "الذي لا يقهر" في التراب

تَناقُل "بطولات المقاومة".. كي لا يصبح "مُسكِّنا"

سواء في اليوم الأول الصّادم لدويلة الاحتلال اللقيطة، أو في الأيام التي أعقبت التدخل البرّي لجيش الكيان، بدأت فصائل المقاومة وخاصة كتائب القسّام في بث مقاطع فيديو تظهر إثخانها في العدو وعساكره وآلياته وتجمّعاته، حتى باتت هذه المقاطع، وكذا خرجات المفوّه الملثم "أبو عبيدة"، جزءا من الحرب الإعلامية النفسية ضد العدو وجبهته الداخلية وجمهوره. وشكلت "سبورة إيضاح" تكشف لنا جانبا من المعارك البطولية التي يخوضها مقاتلو المقاومة الأشاوس وتضحياتهم واستبسالهم وثباتهم في أرض المعركة، مع ما تستصحبه تلكم المشاهد من معاني الاعتزاز والاطمئنان والاستبشار لدى عموم المسلمين.

وقد لاقت تلك المقاطع رواجا واسعا وشيوعا كبيرا لدى أبناء الأمة المتابعين بقلوبهم المحترقة ما يجري في أرض فلسطين، وأصبحت جزءا من التداول اليومي في منصات التواصل وتطبيقات التراسل، مُذيَّلة بعبارات الفرح بهؤلاء الشباب الذين مرغوا أنف الجيش "الذي لا يقهر" في التراب، حتى باتت عبارات مثل "المسافة صفر" و"لا سمح الله" ورموزا مثل "المثلث الأحمر" مما لا يغيب عن معظم المراسلات.

ولعله أمام هذا الاستبشار بتأييد الله جندَه المقاتلين في أرض الإسراء والمعراج، مُتجلّيا في مظاهر إصابات عساكر العدو وإساءة وجوههم المُوثَّق بالصوت والصورة، وباستحضار بشاعة مشاهد المجازر التي يرتكبها الصهاينة المجرمون من تقتيل يومي للنساء والأطفال، عمد كثيرون إلى تحاشي تتبع أخبار وصور الإبادة؛ من مناظر الرُّضّع القتلى والجثث المكدّسة والنساء الصارخة والرجال الباكية، والاكتفاء بمرئيات بطولات المقاومة، وهو ما يجعل هؤلاء يقدّمون لأنفسهم صورة مبتورة غير مكتملة، صورة يُخشى أن تؤدي دور "التنفيس" أمام هول المذبحة التي لا نراها.

إننا أمام تخوف حقيقي يتهددنا، مفاده أن الاكتفاء بتناقل مشاهد بطولات المقاومة قد يتحول إلى "مُسَكِّن" يُحدث نوعا من "الرضى الخادع"، ما دامت القسّام وكتائبها والقدس وسراياها والفصائل ومقاتلوها يكفوننا مؤنة النظر في الوجه الثاني من الصورة المليء بالألم والآهات والدم والدمار والوَجَع، والذي يجر معه سؤالَ ما ينبغي فعله والأدوار الواجبة التي تطوق أعناقنا لكفّ هذا الضرر الذي لا يطاق.

إن الله تعالى وضع ميزانا يعتدل به كل شيء، وسُننا تدير الحياة وفق قواعد واضحات طلب إلينا الشارع مراعاتها، وإلا انعكست النتائج التي تسعدنا إلى أضدادها. فمشاهد النصر التي تُفرح الواحد منا -مثلا-تستحيل هزيمة محتّمة، إن أطال النظر فيها واستسلم لـ"اطمئنان خادع" يُقعده عن تحصين هذا النصر بالعمل الواجب. في هذا الصدد، إذا كنّا جميعا تسرّنا أخبار المقاومة الصامدة القادمة من غزة العزة، فإن الأكيد أن رجالها هناك قد استفرغوا وسعهم، رغم كل الظروف شبه المستحيلة التي تواجههم، فأعدوا للاحتلال ما استطاعوا من قوة أرهبوا بها عدوّ الله وعدوّهم. وإذا كان هذا هو واقع الحال هناك، فإن الواجب يقتضي ألّا نقعد القرفصاء نُطِلّ على فعل غيرنا وصنيعه في المعركة، وأن نكتفي بالحد الأدنى من التفاعل، دون أن نقابل فعلهم المبهر بإسنادنا المشرّف، وذلك أضعف الإيمان.

الواجب الشرعي والأخلاقي والإنساني أن تبادر الأمة، وفي القلب منها قواها الحية، إلى الاستدراك على نفسها والبدار إلى خط مسار تحرك متنوع فعال، يحقق الإسناد الحقيقي والتآزر الشرعي، ويجعلنا حقا "ورقة قوة" ضاغطة من أجل إنهاء هذا الهولوكوست الصهيوني الإرهابي.

غزة لوحدها في عين المدفع.. حتى نكون "رقما مؤثرا" في مسارات المعركة

إن النظر في معادلة العدوان وعناصرها يؤكد أن غزة سُلّمت لجزارها الصهيوني، وتُركت لمصيرها المجهول، وأن "اتفاقا صامتا"، وقد يكون ناطقا أيضا، جرى بين مختلف الفاعلين الكبار في العالم، ومن يسير في ركابهم من صغار (الصّغار حقا وحقيقة)، من أجل منح مهلة كافية من الزمن للدويلة اللقيطة لتحقيق أهدافها النازية الاستئصالية من المحرقة.

فالدول الغربية وفي القلب منها أميركا، لم تكتف بإعطاء الضوء الأخضر بل دعم كبارها الكيان عسكريا واستخباراتيا وسياسيا وماليا وإعلاميا، والمحيط العربي الإسلامي تراوحت موقفه بين الضعف والصمت والتخاذل والخيانة، لتبقى غزة وحيدة معزولة، محاصرة من كل جانب، ليس لها، بعد المعية الإلهية، إلا صمود أهلها وبطولة مقاومتها، وسند شعبي متفاوت التأثير ما بين الغرب والشرق.

إننا هنا نريد أن ننبه إلى أن أوراق القوة التي -يفترض- أن غزة تمتلكها، كان يمكن أن تكون متعددة ومؤثرة في مسار العدوان ومداه الزمني، غير أنها تساقطت تباعا الواحدة تلو الأخرى؛ ورقة الدول العربية وضغطها السياسي والاقتصادي وما يمكن أن تحققه من تهديد، وورقة دول الطوق التي تملك قدرة على استثمار "الجغرافيا" لإرباك العدو، وورقة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية وحتى الدول الكبرى المناوئة لأميركا وما يفترض أن تشكله من ضغط، كل تلك الأوراق أصبحت مُحيَّدة بشكل شبه تام وبات تأثيرها شبه معدوم في مسارات الحرب على غزة.

في هذا السياق، وإذا ما اعتبرنا أن المناوشات التي تقوم بها المقاومة في كل من لبنان واليمن والعراق، المحمودة المشكورة، جيدة وتُحدث إرهاقا وتشتيتا للعدو واستنزافا لجزء من قدراته، وعَدَدْنا ذلك بالنظر لحجمه الحالي "مؤثرا ثانويا" وليس "رئيسيا" في مسار الحرب، فإنه يمكننا القول إن القطاع الصامد لم يتبقى أمامه من "أوراق القوة" سوى ورقتين أساسيتين (ذاتيتين مع الأسف)؛ ورقة المقاومة وقدرتها على مجابهة العدو وتكبيده أكبر الخسائر في الجند والعتاد والسلاح ومواصلة إطلاق الصواريخ صوب الأراضي المحتلة، وما يتبع ذلك من خسائر في جيش الكيان كما في شعبه (وهو الأمر الجاري بحمد الله بشكل مشرف مبشر)، وورقة صمود سكان غزة العُزل وثباتهم في أرضهم في وجه القصف الوحشي اليومي، وتنقلهم الداخلي من هذه المحافظة إلى تلك ومن هذا الحي إلى ذلك دون رضوخهم لخطة التهجير، وقبولهم أن تكون آلية الدفاع الثانية عن أرضهم -إلى جانب آلية المقاومة العسكرية- هي الموت والاستبسال في مواجهته والشهداء الكرماء الذين تُقدّمهم يوميا من أبنائها وبناتها وأطفالها ونسائها.

هذا المشهد المؤلم، لنا لا لغزة التي فعلت ومقاومتها أقصى بل أكثر مما تستطيع، يجعل الأمة وقواها في موقع لا خيار معه وفي زاوية لا تحتمل تراخيا ولا تباطؤا، فكل ساعة حرب هي إبادة لعائلات وقتل لأطفال وبتر لأطراف وتدمير لبنيان وإنهاء لحياة إنسان. فالواجب ألا نراهن فقط على صمود أناس، هم كباقي البشر لهم شعور بالألم وإحساس بالفقد وإدراك للقهر وطاقة للتحمل، بل الواجب الشرعي والأخلاقي والإنساني أن تبادر الأمة، وفي القلب منها قواها الحية، إلى الاستدراك على نفسها والبدار إلى خط مسار تحرك متنوع فعال، يحقق الإسناد الحقيقي والتآزر الشرعي، ويجعلنا حقا "ورقة قوة" ضاغطة من أجل إنهاء هذا الهولوكوست الصهيوني الإرهابي.

إننا في حاجة إلى أن تنخرط الأمة وقواها في قلب المعركة، وأن تبحث لنفسها عن موقع قدم فاعل مؤثر، وألا تبقى في الهامش تنتظر أن تنتهي الحرب لتفرح مع الفرحين أو لتندب الحظ وتُوَلْول مع المولولين. أمام الشعوب العربية الإسلامية الكثير لتفعله، أولها أن تخرج من هذا البرود القاتل وأن تُجدد "إرادة الفعل" لتنخرط في أشكال وأعمال متنوعة من شأنها أن تصنع الفارق؛ وثانيا أن تقرر النزول الدائم إلى الشوارع والساحات للاحتجاج والحشد والتعبير عن السخط العارم من استمرار الحرب ومن تواصل الخذلان الرسمي، وثالثا أن يسترجع الشباب وعموم الناس "الزخم الإعلامي" تفاعلا وتتبعا وتداولا وتهمما وألا يستسلموا لـ"التطبيع" مع واقع التقتيل اليومي ومن ثم سلبية "انتظار النهاية"، ورابعا أن تواصل القوى والمنظمات والشخصيات تعبئتها عموم الناس بحرارة أكبر كي تستمر في "المقاطعة الاقتصادية" وتوسّع من دائرة الانخراط فيها، وخامسا أن يطور المعنيون وقادة التضامن من أشكال التظاهر والإسناد وأن يدشنوا ما أسماه خالد مشعل "الاحتجاج الخشن" والذي لا يعني الانجرار إلى العنف أو التخريب ولكن تفعيل آليات أكثر إيلاما وتأثيرا؛ كالاعتصامات المطولة أمام سفارات الدولة المتورطة في المذبحة ومقرات الهيئات الدولية الصامتة.. وغيرها مما لا يعجز العقل عن استحداثه حين تتوفر الإرادة، مع استعداد صادق لأداء شيء من الضريبة والكُلفة، فإننا أمام أنظمة حكم متسلط معظمها ومستبد أغلبها وباع القضية جلها، وإننا في معركة طاحنة ولسنا في نزهة إلى الغابة.

إننا باختصار أمام مشهد مؤلم حقا، حين نرى كل هذا التدمير والتقتيل لشعب فلسطين، مع ما للقضية من رمزية لا تخفى، وحين نرى أيضا هذا الحراك المتنوع المؤثر لدى شعوب الغرب، وفي المقابل نُصدم بهذا الحراك الباهت في عمومه والذي يتدحرج مع الزمن ليصبح برودا قاتلا في معظم الدول العربية والإسلامية. وإنه لمشهد يستحث الجميع، ويحمل المسؤولية الدينية والأخلاقية والتاريخية للجميع، بأن هلموا إلى هبّة نُبرئ من خلالها الذمة عند الله وأمام شعب غزة وفلسطين. مشهد يدعوا الجميع بأن هُبّوا إلى انعطافة نستدرك بها على أنفسنا قبل الفوت، انعطافة تُجنبنا هزيمة -لا قدر الله- نندم عليها ندم العمر، وتضعنا في قلب نصر -بإذن الله- يكون لنا فيه أوفر النّصيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق