الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

عرب الإبادة الجماعية: لا أبرياء هناك

عرب الإبادة الجماعية: لا أبرياء هناك

وائل قنديل


تخيّل نفسك معصوب العينين مقيّد اليدين، تحت تصرّف مستعمر مدجّج بالسلاح، على هيئة حيوان مسعور يضربك بكعب البندقية، إذا توقّفت عن تقليد صوت عواء الكلب ومواء القطّة، كما أمرك بذلك.
تخيّل أن أخًا لك في قبضة سجّان حقير يجرّده من ملابسه، كيوم ولدته أمّه، ثم يلقي به في زنزانة كريهة الرائحة وعيناه محبوستان خلف حجابٍ كثيفٍ يمنعها من الرؤية، وكلما استبدّ به العطش، وطلب شربة ماء، أمره السجّان بفتح فمه ليسقيه، وحين يفتحه يبصق لعابه القذر داخله.
تخيّل أخاك إذا غلبه النعاس والإعياء فراح في إغفاءة، يأتي السجّان المستعمر ويكويه بسيجارة مشتعلة في ظهره.


هذا قليلٌ من كثير يرويه المعتقلون الفلسطينيون العائدون بعد أسابيع من الحبس في زنازين الاحتلال، لوسائل الإعلام التي تتمكّن من الوصول إليهم، وتسألهم عما جرى معهم.
هذا بعض من يوميات الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة مع الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال الصهيوني ضدّه، في ظل حالة عجز، أو بالأحرى ادّعاء حالة عجز عربية، أمام إجرام الذين يشنّون العدوان على غزّة منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر كاملة، وهم بالترتيب الولايات المتحدة الأميركية ثم إسرائيل ثم حكومات غربية لم تغادر عقلية الاستعمار ونفسيّته في طوره القديم، وبعد هؤلاء أو معهم أو قبلهم يأتي نظام عربي رسمي يقبل بكل هذه الفظائع ويتفرّج عليها، وقد يتمطّى وينفرد وينثني ويطلق تصريحات تافهة من نوعية إن ما يجري "جرائم حرب ومجازر همجية وحشية لا إنسانية" على نحو ما فعل 57 ممثلًا للدول العربية والإسلامية في قمّة (طارئة) انعقدت في الرياض بعد خمسة أسابيع وعشرة آلاف شهيد من العدوان الإسرائيلي على غزّة.
وسط صمت عربي، مطبق، من لا أبرياء في النظام العربي، تواصل الآلة العسكرية الصهيونية عمليات الإبادة والمحو رافعة شعار "لا يوجد أبرياء في غزّة"، والحال كذلك يمكن القول أيضًا "لا أبرياء في النظام العربي" في الجريمة التي تتصاعد يومًا بعد آخر ضد الشعب الفلسطيني، يستوي في ذلك الذين يدينون المقاومة ويصمونها بالإرهاب، والذين التزموا دور الوسيط، والذين لا يقدّمون للإنسان الفلسطيني سوى بعض عبارات جافّة وباردة كالثلج تعبيرًا عن الألم.
كلهم في الخذلان سواء، ويسترعي الانتباه هنا أن هذه الجولة من العدوان الصهيوني تأتي في مناخ من الوئام النادر، أو بالحد الأدنى، حالة من الهدوء والودّ بين الأنظمة العربية، التي كانت، طوال الوقت، تمارس حروبًا إعلامية وسياسية واقتصادية، بين بعضها وبعضها الآخر، إن على المستوى الثنائي أو الجماعي، وهي أجواء عربية تختلف عما كانت سائدًة في عدوانات أخرى، كما في 2014 وما بعده، إذ كان ادّعاء القرب من المأساة الفلسطينية ورقة من أوراق المزايدات السياسية بين الإخوة الأعداء.
هذه المرّة، الإخوة الأعداء ليسوا أعداء تمامًا، فهل انعكس ذلك إيجابًا على الشعب الفلسطيني الذي يقاوم وحده من أجل البقاء، في وجه حرب الإبادة الصهيونية؟
لا تحتاج الصورة إلى كثير من الكلام، حيث تبدو الأنظمة العربية في لحظة اتّحاد كامل، جلوسًا على مقاعد المتفرّجين الصامتين، وإن نطقوا فهي همهمة عن تعنّت الاحتلال في منع إدخال المساعدات للشعب المحاصر من المعابر، أو إطلاق مبادراتٍ لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به. 
منذ اليوم الأول للعدوان والصغير والكبير، يردّد على مسامع الأنظمة العربية، قائمة الأوراق التي تمتلكها لردع العدوان،  سواء الغارقة في علاقات تطبيع شامل مع العدو، أو التي تنتظر على جمر لحظة التطبيع، وهي أوراقٌ في المتناول، بعيدًا عن التدخّل بالقوة، وهو أمر واجب ومطلوب، لإنقاذ الشقيق من الفناء على يد العدو، وهي أوراق تتنوع بين الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، تمنح غزة الأمل في الحياة، وتمنح هذه الأنظمة بعض الكرامة الضائعة على عتبات البيت الأبيض.
في الصورة، أيضًا، تظهر الشعوب العربية لا تفعل أكثر من الانتحاب على الشهداء الذين يحصدُهم العدو بالمئات يوميًا، والشكوى من قبضة الطغيان الحاكم الذي يحول بينها وبين التظاهر دعمًا للشعب الشقيق، وضغطًا على أنظمة المواقف المتخاذلة، أو إبداء الإعجاب بانتفاضات الشعوب الحرة في عواصم العالم رفضًا للعدوان ودعمًا لحقّ الفلسطينيين في الحياة.
والمحصلة أن الجميع في موقف الفرجة، حكوماتٍ بعضها يتفرّج بشماتة وحنق على فكرة المقاومة ذاتها، وشعوب تتفرّج بحزن وألم وعجز.. والحال كذلك هل ثمّة أبرياء؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق