الوقوف ضد مصالح المجتمع .. قضية خاسرة
د. محمد الأحمري
قيادة المرأة للسيارة أنموذجامنذ نحو ثمان سنوات كان لي مناقشات في الصحافة والتلفزيون والمجالس الخاصة وشبكات التواصل الاجتماعي حول مظلمة مررها بعضهم باسم الدين، وهي منع المرأة من قيادة السيارة، سكت آخرون عن هذه المظلمة للمرأة لأن العادات أقرت المظالم، ووجدوا آباءهم كذلك، فالعادة أحيانا محكمة حين لا تصادم نصا ولا مصلحة معتبرة، ولكن ضرر هذه العادة بالغ.
وأذكر في نقاش مع الشيخ صالح الحصين أنه قال: لا أرى أن تقود المرأة السيارة، فاستغربت منه هذا القول مع ما له من وافر عقل وعلم بالشريعة والقوانين وخبرة في بلاد العالم، فكيف يؤيد هذه المظلمة، فكان رده أن المرأة لو قادت السيارة لأرسلنا ما بقي عندنا من مال لمصانع الغرب، لأن المرأة سوف تنافس في المظاهر وتبالغ في شراء الأحدث والأغلى من السيارات.
ورد آخرون بحجة زحام الشوارع، ولكن هذه الحجة وسابقتها التي أشار لها الشيخ لا تحل بها المشكلة ولا تدفع بها المضرة، فالثروة سترسل للخارج من بلدان لا تصنع إلى بلدان تصنع، والثروة تهرب من بلدان الفساد إلى بلدان الثقة والرقاب
أما مشكلة المظاهر فهي نمط حياة وما السيارة إلا جزء لا يذكر في سياقها. والزحام لا تزيله ولا يزيده سياقة المرأة، لأنه مشكلة تخطيط وتخلف إداري ليست هي سببه، بل قد تخفف سياقتها من الزحام عندما تشعر بالمشقة فتخفف التجوال، هذا بخلاف كون القيادة همّ سائق غيرها.
ثم إن تمكين المرأة من سياقة سيارتها سيخفف عن أغلب المجتمع سائقين فارغين سائحين في الأحياء والشوارع سببوا مشكلات أخرى، ويخفف عن المرأة مشقة ارتباطها بتنكيد أقاربها لحياتها، فضلا عن سائق أجنبي طوال الليل والنهار، وقد تزيد مخالطته له عن زوجها، أما غيرهن فالسائق هو الرجل الأقرب لشئونهن اليومية، وكلهم بشر؛ وقديما اعتذرت امرأة عن الزنى بعبدها بـ: "طول السواد وقرب الوساد".
أما بعض المشايخ ممن يرون عدم السماح، فهم يعلمون تماما ألا دليل من الشرع بأيديهم، فحوادث السير تقع للجميع، ونساء المسلمين في العالم أجمع يسقن، وأجاز لهن الواقع قبل الشرع ركوب الدواب رغم ما نعلم من مشقتها الظاهرة.
وهؤلاء المشايخ يعذرون في فقه هذه المسألة بسبب غلبة العادات عليهم، فعندهم أن ركوب الدابة صحيح لأنه وقع قديما، وقيادة السيارة خطأ لأنه وقع في زماننا، والعادات أخلد في النفوس من الشرائع، ثم لجهل بعضهم لأبعادها، ومن أبعادها الضرر الواقع على المرأة بحبسها في البيت عن قضاء حوائجها المتكاثرة حديثا في خارجه، وباقتطاع السائق لربع دخلها، يزيد أو ينقص، وتسخيرها لمزاج سائق أجنبي في كل شيء.
ثم تحميلها فوق طاقتها ماديا، فيكلفون الضعفاء والفقراء ومستوري الحال فوق طاقتهم. ولو فرضنا أن مدنا تمنع قيادة السيارة لفئات من المجتمع ولكن توفر في الوقت نفسه وسائل نقل عام لائقة لربما كان هذا مقبولا رغم انحيازه، أو لأن بناء مدنهم وضع هذا في الحسبان، أما أغلب المدن النفطية فمبنية على طراز مدن تقوم مواصلاتها على أساس السيارة الشخصية، ثم للأسف لا يوجد فيها نقل عام عمليا.
أما المبالغة في التخوف من سقوط الحجاب والتحوط وإخفاء المرأة فقد صنعت مجتمعا شديد التظاهر بما لا يقتنع به، فيلزم بما لم يشرع، ويمنع المباح، علما أنه لا رابط بين الحجاب أو النقاب وقيادة السيارة لبسا أو تركا.
صحيح أن تقليد الآخرين ليس مطلبا، وأن رأي الآخرين لا يجب أن يكون محركا، ولكنه صحيح جزئيا إذا كان المرء على حق، وقلت "جزئيا" لأن سمعة المسلم والتصور عنه وحماية جناب الإسلام مهمة ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل منافقين حاولوا اغتياله رعاية لهذا الجانب.
ولعل الحال الاجتماعي يوضح سبب الإشكالية وهي أن السيارة جاءت لمجتمع كان كثير الجهل والتحرز للدين وللعادات لذا ساد فيه التخوف من التعامل مع الآلات، وحتى عامة الرجال كانوا لا يجرؤون عليها ولا يقتربون من السيارات، فيحتاجون سائقين، وحين اقترب الرجال منها وتعلموا فحسبوها علما وعلوا لا يليق بمن دونهم من النساء فبقين بعيدات غريبات عنها وانتهى الأمر من الاستغراب للقيادة إلى المنع.
ثم إن من الطريف أن يتحجج بعضهم بأن نظام الحكومة يمنع قيادة المرأة للسيارة، وأن سياقتها خروج على النظام، وماذا سيقول عندما يصدر قرار الحاكم ضد ما يراه من المنع ويصدر بالموافقة؛ إن مآل تلك الحجة أن نظام الحكومة فوق الشريعة ورأي المشايخ، ومعنى هذا أنه جبري لا للأقدار بتفسير قوم، ولكنه جبري تجاه مزاج الحاكم، فهو دائما ينتظر أمرا من حاكم قد جعله الشيخ رب التحريم والتحليل.
إن "صوفية المتسلفة" يرون أن الشيخ والمجتمع كالميت بيد غاسله "الحاكم" يقلبه كيف يشاء. وإذا كان ينتظر أمرا من الحكومة بتأكيد المنع أو الإجازة فكيف يقدم هؤلاء بين يدي الحاكم بقول أو فتوى وهم لن يخالفوه في تشريع ما شاء فما عليهم إلا أن ينتظروا الحكم الشرعي!
ثم إنه ما دام قرار الحاكم بالمنع له هذه المشروعية والإلزام فسيكون قراره بالإجازة له نفس الحكم بحسب ما قعّدوه، وهنا يكون الحق والباطل معلقا بقرار رسمي لا علاقة له بالشرع ولا بالمجتمع؛ هذا القول لا فقهي ولا قانوني ولا إنساني، لأن قرارات الحكومات غير الديمقراطية وغير الشورية غالبها أهواء متنفذين.
ثم إن الأمور ليست مبنية على قانون مسبق بمنع ولا إجازة لما هو مجهول من التقنية والتغير في المجتمع، بل الأصل البراءة والجواز، وعلى المانع إثبات الناقل عنها، وكذا فالأصل التحلل من المعتاد حين تكون المنافع ضد المعتاد، "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الأعراف 157.
ونعلم أن النظام كان يمنع وجود البنوك الإسلامية ولا يفتح إلا البنوك الربوية، وبقي الوضع زمنا طويلا قائما حتى أجبر النجاح في العالم الإسلامي وغيره البلاد على فتح البنوك الإسلامية. ورأى متنفذون ربحهم قادم من خلالها، فسابقت بنوك الربا لفتح نوافذ إسلامية لجلب أموال الناس ونجحت ونجحت البنوك الإسلامية والمتلبسة بالإسلام من حيازة ثروة الناس.
وقد كان واقع النظام المنع ثم كسر المنع بالفعل لا بقانون؛ فماذا عندما يكسر المنع بالاستجابة للواقع دون قرار صريح، وكما تجاوز الحاكم محظورات الشريعة بقراراته فكيف نبقي الضرر على المرأة باسم الحاكم مرة وباسم الشريعة أخرى لأنها خضعت أو تأدبت لما أوهمت به من أنه شرع.
ثم إن الحاكم وعد برفع المنع من قبل الآن، أليس ما يتخوف منه من يرى المنع واقع أو آيل إلى الضد مما تمسك به؟ ومن المعلوم أن مناطق ومدنا لا تخضع لنظام المنع مثل البوادي والقرى، ومدن أرامكو الأكثر خدمات وتحضرا.
ختاما، نصيحة للمخلصين من المتدينين، علماء وعامة، ألا تجعلوا دينكم رهنا لعرفكم، ولا تقفوا ضد مصالح المجتمع وحاجات نصف المجتمع، فقد أقبلت النساء على الدين قبل الرجال وهن متدينات أكثر من الرجال لا تجعلوهن يكرهن دينا تتحكمون بتأويله وتفسيره وإحراجه، ولا تتمسكوا بالمنع الجائر، ولا تراهنوا على قضايا خاسرة في الحاضر والمستقبل، وأنتم تعلمون أن موقفكم غير محكم لا شرعا ولا واقعا، وهذا لمصلحتكم ولمصلحة سمعتكم وسمعة دينكم، ولا ترهقوا أسماعكم بترديد بعضكم لقول بعض فتجعلوا صدى القربى حجة تغلب الحق.
أما الاحتجاج الموعود يوم 26 أكتوبر 2013م، فهذه ظاهرة تطور نحو العدل والخير، ورفع للظلم يحسن بكل امرأة أن تسابق لها لأنها أولا تحقق مصلحة شرعية، وترفع المظلمة عن من حرمت من وظيفتها ودخلها، أو لم تجد من رجال الأسرة حانيا ولا محترما لحقوقها.
وكم من امرأة خضعت لشهوة سائق وابتزازه لأنه الباب لبلوغ رزقها، أو خضعت لزوج مستبد أو أخ جافٍ لا يقدر ضرورتها، والاحتجاج شرعة وشريعة لرفع الظلم، ولجوء المرأة لها ثبت أنه يجدي وينفع فما كان ليمكن الخلاص من مدير جامعة أبها لولا مظاهرة بنات الجامعة، وعلى إثر تلك المظاهرات تحسنت ظروف كثير من الجامعات والأقسام، وهن لم ينسين تلك المنافع العظيمة للمظاهرة.
ولذا، فإن السلطة في مواجهة استعمال المظاهرات للحصول على الحقوق قد تضطر إلى إعلان السماح بقيادة السيارة يستبق المظاهرة، وتدفع به خطر نهج الاحتجاج، أو تدفع الموقف بأي حيلة و وعد بالتنفيذ إلى حين، أما الاحتجاج فقد ترسخ على أنه هو الطريقة المشروعة للإصلاح ونيل الحقوق، وقد فعلن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق