المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس
بعد أن وجدت نسخة إليكترونية كنت قد أرسلتها لصديق:
.. "تدير أناملي مفاتيح المذياع فى بحث عن صوت مصر الحبية .. أبحث عن البرامج فلا أجد إلا أغاني وطنية ..
أذاعت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانها الرابع :
عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس ..
الله أكبر ..
الله أكبر ..
من أعمق الأعماق صارخة متوسلة مستغيثة داعية باكية ملهوفة مفزوعة .. الله أكبر … فى لحظة مركزة من الزمان تتجمع مرارات الهزائم العلقمية عبر التاريخ ودم الشهداء المسفوك وهوان المذلة والانسحاب ودموع الثكالى والأرامل والأيتام والرغبة الهائلة الدامية فى أن نغسل عار جيلنا وننتصر ..
محمد وأحمد ومصطفى وحسين وعباس وعبد السلام وصلاح وعتريس وموريس … لا يحاربون إسرائيل ولا حتى أمريكا وإنما يحاربون الموت ذاته .. يارب ..
اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تقوم لنا قائمة فى الأرض بعد اليوم .. يا رب إنه أملنا الأخير .. ميناؤنا الأخير .
لن نحتمل هزيمة أخرى .. انتصر … انتصر يا سادات … انتصر لتحمل مصر اسمك مدى التاريخ .. إني أغفر لك حماقتك وغرورك وزيفك ..
انتصر .. فلا أمل أمامنا إلا أن ننتصر .. يا رب .. هؤلاء هم عبادك .. خطاؤون لكنهم عبادك التوابون فانصرهم ..
يا محمد … يا رسول الله .. أمتك أمتك .. أدركنا يا رب .. أغثنا .. يا ملائكة الرحمن .. اهبطوا وحاربوا .. اليوم بدر ..
يا جبريل قد جيشك وهاجم .. يا خالد بن الوليد يا صلاح الدين الأيوبي يا سيف الدين قطزيا ابن تيمية يا عز الدين بن عبد السلام يا أحمد عرابي يا مصطفى كامل يا عبد المنعم رياض يا جمال عبد الناصر يا أرواح الملايين الذين استشهدوا .. هبوا من قبوركم وحاربوا إن أرواحكم موجودة فى مكان ما فى هذا الوجود فتعالوا
أنتم لا تدركون ما بي .. إني أحمل فى صدري نارا ..
التاريخ كله يشتعل داخل قلبي .. مئات الملايين الذين قطنوا مصر منذ خلقها الله كأنهم أحياء يصرخون داخلي .
آمال محيطة وآلام وملتاعة وعواطف مشبوبة وخوف مروع حتى العظام فى القبور تصرخ داخلي … إنكسارات المسلمين عبر التاريخ .. هم خير أمة أخرجت للناس .. فلماذا لا يتبؤون مكانتهم يا رب
يفسر بعض الزملاء انفعالاتي الطاغية بأن لي شقيقا أو عزيزا فى الحرب .. لا يدركون أن كل من يحارب أعز على من شقيق .. وأنه لا يوجد أبدا شخص معين أخاف عليه ..
أسمع إذاعة إسرائيل .. وطن الطغيان والكفر والجبروت .. وطن العصابات يأجوج ومأجوج .. كنت قد حرمت على نفسي سماعها منذ 67 .. تشاجرت مع الأصدقاء كثيرا لأنهم يسمعونها .. الآن أسمعها لأعرف .
عبر المصريون القناة وسوف نسحق عظامهم .. يارب .. يا قوي يا قهار يا جبار إمنعهم .. إن الكلمات تسري داخلي فتتحول من موجات صوت إلى مزيج مروع من العظام المسحوقة والدماء المسفوكة واللحم البشري المشوي والرمال المعجونة فى كل هذا .. كأنما يتجمع المليون مقاتل داخلي .. فأسمع بأذني دوى القنابل وزفير الصواريخ وأزير الطائرات وأصوات السفن ودوى الرصاص وتسحقني جنازير الدبابات الضخمة فاستشهد وأصحو وأستشهد وأصحو مليون مرة ..
تتداعى إلى مخيلتي مثل كابوس رهيب أحداث يونيو 67 ..
وبرغم أنني أيامها كنت أتوقع الهزيمة إلا أن التوقع ليس كالواقع..
منذ عام 62 كانت الجفوة قد بدأت تحل بيني وبين جمال عبد الناصر .. لا معنى لأي شئ إن خالطه قهر فرد أي فرد .. وبناء السد العالي برغم ما يمثله من شموخ قومي لم نمارسه منذ بناء الأهرامات وهزيمة الصليبيين والتتار إلا أنه لا يساوي إعدام الشيخ سيد قطب ".
"ويأتي مايو 67 مشحونا بأحداث جسام .. ويقف جمال عبد الناصر فى مؤتمر صحفي (...) إلا أنني كنت أفكر بطريقة أخرى .. أن الاستعمار العالمي لن يسمح له أبدا بالنصر.. إنني أنظر له وهو يتحدث فى فيض من الثقة لكنني أرى فى عينيه الخوف "فليعنا الله أن نعود إلى حدود سنة 1948 الدولية .. الناس يتوقعون أن تدخل تل أبيب فى بضع ساعات أم أنك تناور ..
ذهبت إلى حجرتي أقرأ قصيدة لأمل دنقل : آخر كلمات سبارتا كوس وأنا أقول لنفسي أن سبارتا كوس سيصلب من جديد . ونصحوا على دوي القنابل والبيانات العسكرية الكاذبة .. لا يمكن أن تكون الهزيمة بشعة هكذا .. الطيران كله يدمر .. أمر بالانسحاب إلى الخط الثاني .. أين يوجد . على بعد أمتار من الحدود الدولية أم ضاعت سيناء .. أمر آخر بالانسحاب إلى قناة السويس .. إسرائيل ترقص وتغني قولها لعين الشمس ماتحماشي .. جيش عبد الناصر راجع ماشي .. لا بد أنها خدعة . استدرجهم عبد الناصر إلى سيناء كي يحصيهم عددا ويشتتهم بددا . الآن سوف تخرج القوة الضاربة الأساسية للجيش والتي لم تحارب بعد أرهم ياعبد الناصر جبروتك الذي أريتناه .. السادسة مساء اليوم ستخطب كما وعدت .. فى النهار متسع إذن لضربة قاصمة لإسرائيل .. إن لم يكن كذلك فسوف نسحلك فى
الشوارع.
السادسة مساءا ..
عبد الناصر يتنحى ومصر هزمت ..
كبر كان يقذف حممه انفجرت مصر بالجماهير الصارخة الرافضة .. طوفان من البشر .. سنحارب .. سنحارب حتى النصر .. ابق يا عبد الناصر .. (...)… ويعود جمال عبد الناصر وننام كل يوم على أمل الضربة الكبرى فى اليوم التالي .
كم مات منا ؟ عشرة آلاف .. عشرون ألف .. خمسون ألف .. ما زال الباقون أحياء لديهم الإرادة والأمل والسلاح سيعوض فى أسابيع …. ونهاجم … رأس العش .. سنطور الهجوم .. هجوم الطيران المصري فى يوليو .. ستزحف المشاة والدبابة ………
لكن الآمال كلها كانت مجهضة …..
حجم الهزيمة يكبر كل يوم …………"
مرت الأيام الأولى ولم تسحق إسرائيل عظامنا .. يصحوا الحلم على استحياء … خائف أن أتشبث بأهداب الأمل فأسقط فى غياهب اليأس والواقع .. كعطشان تشقق بالجفاف حلقه فيرى الواحة أمامه فيظنها سرابا .. ألم الموت أصبح أمامه أهون من موت الأمل .. وتتالى البيانات باقتضاب ووقار لا يناسبان الأوار داخلي …. أعطهم القوة وامنحهم النصر يا رب .. تدمير لواء دبابات إسرائيلي بالكامل وأسر قائدة عساف يا غوري .. التليفزيون السعودي يعرض صورته وحديثه عن مفاجأته المذهلة بإمكانيات الجندي المصري …. الله أكبر .. تدمير النقاط الحصينة الباقية من خط بارليف … الجيش السوري يتعرض لضغط رهيب لكنهم أبطال وأسود كواسر .
تتوقف البيانات المصرية عن إضافة جديد سوى أن قواتنا تحكم قبضتها على أرض محرره .. كم حررتم ؟! ولماذا لم نواصل تقدمنا إلى الممرات ..
إسرائيل تتحدث عن هجومها المضاد .. ينخلع القلب هلعا .. عاجز أنا كحيوان حبيس فى قفص .. لو أنني كنت فى مصر .. أعلم أنه لن يكون لي دور ولا قيمة .. لكنني أريد أن أكون هناك .. معرض مثلك يا مصر .. لقصف الطائرات ونسف الصواريخ كي يختلط لحمي بلحمك ودمي بدمك … أموت لا محالة إن مت وأعيش أو أموت إن انتصرت .. لا أكاد أنام والمذياع يصاحبني وأنا ألهث بين محطات الإذاعة باحثا عن خبر يطمئنني .. موشى ديان يعترف بكثافة الهجوم المصري وعجز الجيش الإسرائيلي عن رده إلى غرب القناة …
الحمد لله …
والله أكبر …
نصر عبده وأعز جنده ونصر مصر وحده .. تقدم يا سادات إلى الممرات إذن الضغط على سوريا رهيب فتقدم .. تأتي رسل العالم تطلب وقف إطلاق النار ..
كان الطالب الأول يعبر عن العهر الأمريكي حيث طلبوا عودة القوات المتحاربة إلى خط 6 أكتوبر بما يعني انسحاب الجيش المصري من سيناء .. يا رجس الشيطان .. ولماذا لم تطلبوا مثل ذلك يوم 5 يونيو .. وتتوالى الرسل راجية وقف إطلاق النار على خطوط القتال … وافق يا سادات … احفظ نصرنا الغالي الدامي من أن يتحول إلى هزيمة السادات يرفض .
الله معه ……
أذقتنا بشائر النصر فلا تحرمنا حلاوته يا رب
14 أكتوبر .. جولدا مائير تصرح أن قوات إسرائيلية تحارب غرب القناة وتهددبأنها ستدخل دمشق ..
تحت وطأة العذاب تسقط الكلمات صرعى .. لا شئ يصف الألم .. نجلس مع القنصل المصري فى السفارة المصرية بجدة فيخبرنا أن الوضع خطير وأن إسرائيل تحاول حصار الجيش الثالث والثاني
تخمد الآمال وتنطفئ الأضواء ..
ينبئني بالكارثة قلبي .. لكن على أن أنتظر عشر عاما حتى أقرأها صريحة فى مذكرات إسماعيل فهمي أننا فى سنة 73 هزمنا عسكريا وأن أقرأ فى مذكرات محمود رياض كيف حول السادات النصر إلى هزيمة ..
ويصرح محمود رياض :
-"كان العالم كله مع مصر … لكن السادات كان مع أمريكا " ويؤكد أن ما حدث هو جريمة ضد الأمة يستلزم التحقيق الشامل لمعرفة أسباب الفشل مشروع الأمن القومي العربي بعد جهود هائلة استغرقت خمسة وعشرين عاما حفلت ببشائر الانتصار وتذر الهزيمة لكننا كنا فيها أحياء نعي ونحاول ونحارب ..
وكانت الأيام الأولى فى حرب أكتوبر موحية بأنها ستحلق بسوابقها العظام فى القادسية وحطين وعين جالوت لنحطم مذلة هزيمة 67 والتي حاولوا بعدها أيهامنا بأننا شعب لا يستطيع أن يقاتل .. متجاهلين عمدا أن العرب عامة ومصر بالذات قد خاضت أشرس حروب التاريخ … وأنها انتصرت فى مجملها لتوجد فى النهاية بعد سبعة آلاف عام .. ولم ينجحوا بعد 67 .. لكنهم سينجحون بعد 73 فيما سماه محمود رياض جريمة ضد الأمة .. وستنهال كالطوفان بعد ذلك مئات المذكرات يكتبها مسئولون وخونة ..
وكان أقل القليل منها يستحق الاحترام لصدقه …
لكن أغلبها كان إما محاولة عميل لإكمال اغتيال الأمة وهدم ثقتها فى نفسها أو محاولات خائن أو مخطئ لإبعاد سيف الاتهام بالجريمة عن عنقه بأن يسرد الأحداث من وجهة نظره هو محاولا طمس أدلة اتهامه .. كانوا قد باعوا الوطن وقبضوا الثمن لكنهم يريدون أن يتنصلوا من الجرم تنصل أخوة يوسف .. وضاعت الحقيقة وما زالت ضائعة .
الأيام الأخيرة من الحرب ..
كتل المرارة الفاجعة ..
محادثات الكيلو 101 .
لا أستطيع أن استمر
1974 …
"يتسلل الشرف والمجد بين مسامنا كما يتسلل الماء فى الأرض الخراب .. يدير السادات دفة البلاد فتنهار قيم وتمزق مشاعر ويضيع تاريخ .. كنت أكره هذا الرجل منذ عرفته ولا أثق فيه .. لكنني أسلمت له مجامع قلبي فى العشرة أيام الأولى من الحرب فلما خاب وأهدر إمكانية انتصارنا عاد بغضي له بصورة أشد .
الآن أدرك فداحة ما فعلته بنا .
أكاد أصرخ كهاملت وهو يواجه أمة الخائنة التي قتلت أباه وعشقت عنه " أنت أمي وليتك لم تكوني " وأنت يا سادات رئيسنا وليتك لم تكن ."
ولم يكن قراراك بتنوع مصادر السلاح قرارا من أجل قوة جيشنا إذن .. بل كنت تتحول من رئيس دولة إلى سمسار لبيع السلاح لوطنك .. ولما كان التعامل مع الكتلة الشرقية تعاملا بين دول ولا توجد به عمولة ولا رشوة فإن سلاحها لم يعد يناسب آمالك فى المستقبل .. مستقبلك أنت لا مستقبل مصر فك الاشتباك الأول
……
لكم عذبتني أيها الجيش الثالث وأنت محاصر .. كيف حدث ذلك وكيف حوصرت .. إن محمد حسنين هيكل يكتب عن الفواصل بين الجيوش كنقط ضعيفة .. والفريق سعد الدين الشاذلي يستقيل أو يقال ..
المعلومات قليلة لكنني أحس أن الأمر فيه خيانة .. تحكم إسرائيل فى مرور الماء والطعام والبطاطين يمرغ فى الوحل كرامتي .. أتوق إلى مواجهة عسكرية للثغرة لكن رحلات كيسنجر وطريقة مقابلة السادات له تشعرني أن شيئا غاليا جدا وعزيزا جدا يمتهن ويباع … شرفنا القومي … وتم فك الاشتباك الأول …
(...)
********
فك الاشتباك الثاني ..
كل شئ يضيع .. دم الشهداء هباء .. تسقط أحلامنا القومية عبر عشرين عاما .. الجيش ينسحب من سيناء .. ثلاثون دبابة فقط تبقى فيم كان العبور إذن .. فيم كان الألم الطاحن والرغبة المشبوبة والشوق المجنون للعبور إن كنا سنسحب بعده .. تقيح الجرح وأزمن فتعودنا عليه وعايشنا ألمه .. إنني حتى لا أملك القوة – ولا الرغبة – أن أهمس أين أنت يا جمصى وأين أنتم يا قادة العبور .. إن كان السادات يخون القضية فأين أنتم ..(...)
وفى مجلس الشعب – الذي غير السادات اسمه ضمن ما غير .. كانوا يدقون الطبول للبطل .. وكانت الحكومة تمارس نوعا من التجارة المحرمة أشد خطرا من تجارة المخدرات ..
ألا وهي بيع أوهام كاذبة للشعب الذي يعاني عناء اقتصاديا شديدا بعد أن طفحت سياسة الانفتاح نماذج غريبة من الشواذ والنصابين ، وارتفعت الأسعار ارتفاعا أخل بشعرة معاوية ، لقد عبر البطل المؤمن قناة السويس وحقق أول انتصار فى تاريخ مصر الحديث ، وسيعبر بنا عنق الزجاجة إلى عام الرخاء .. وفجأة هبت رياح الرخاء المنتظر بإعلان الحكومة رفع الأسعار .. وكأنما مصر كلها قلب رجل واحد انفجر بالغيظ والغضب والاحتقار من الإسكندرية إلى أسوان ، حيث كان رب العائلة فى مشتاه الدافئ .. واضطر يومها إلى الهروب هلعا بعد أن كادت المظاهرات تدهمه وتسحقه ، حتى لقد ترك أوراقه دون جمعها ، ومن يومها لم يغفر السادات لشعب مصر قط . ولم يعد بعد ذلك مصريا .
(...)
قد يتبع!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق