من يوميات ثائر مصري
بتاريخ : Oct 07 2013 16:48:50
أغربت شمس اليوم المتمم لشهر ذي العقدة ( 5 أكتوبر سنة 2013 م) فبدأ الحماس يدب في قلبي استعدادا لنزول الثوار كل شوارع مصر وميادينها لعله يكون يوم الحسم فنخرج من الضيق الذي نعيش فيه وبعد صلاة المغرب دخلت على صفحتي على الفيس بوك لتتبع ما نزل فيها من تدوينات حديثة ثم وجهت نصائحي لأصدقائي على الصفحة بالاجتهاد في الحشد فوجدت تجاوبا عظيما من الجميع ..
وبعد صلاة العشاء خرج ابني ذو الثانية عشرة من عمره ليأتني بأخبار وأماكن التحركات في الغد، حيث إن الآلام الشديدة في ظهري منعتني من الخروج حتى لصلاة العشاء في المسجد ، وبعد متابعة بعض البرامج والتحليلات على قناة الجزيرة مباشر مصر ذهبت للنوم ، ولكن كعادتي منذ قرابة 100 يوم غلبني القلق وصرت أتحايل على جلب النعاس بصعوبة ؛ نتيجة للحالة النفسية التي تسيطر علي من جانب ، والمواقف المخزية التي أراها من المؤيدين للانقلاب البشع في مصر من جانب ثان ، وارتقابا لمداهمة قوات البغاة لمنزلي الذين كانوا يعرفون في عهد مبارك بزوار الفجر ، أما الآن فليس لهم ساعة محددة لمداهمة بيوت الناس وتخريبها غير مبالين بحرماتها ، حيث يهجم العشرات منهم مدججين بالسلاح ، فلا ينتظرون حتى يفتح لهم باب الشقة إن كان مغلقا وإنما يكسرونها بدفعة واحدة من أصحاب الأجساد الضخمة المختارة لتلك المهمة ، ولذلك يتوقع الإنسان هجومهم المباغت في أي لحظة ، وقد يعجب القارئ عندما أذكر أني أحيانا أخشى الاقتراب من زوجتي خشية أن يفاجئوني بزيارتهم الكريهة فلا أتمكن من التطهر قبل أن يصطحبوني مقيدا .
وقضيت في نومي هذا سويعات قليلة استيقظت بعدها قبيل الفجرة فصليت ركعتين كنت أسعى جاهدا لاستحضار القرآن الذي أتلوه في الصلاة لغلبة الإرهاق علي ، ثم قضيت باقي الوقت في التضرع إلى الله عز وجل أن يفرج عنا ما نحن فيه من كرب ، وأن يعجل بهلاك الظالمين البغاة الطغاة في مصر ومن يعينهم من خارج مصر حتى أذن لصلاة الصبح ، فأديت الصلاة ولم أشأ أن أعود لنومي إلا بعد أن فتحت صفحتي على الفيس بوك لأجدد دعوتي للمشتركين معي بالصبر والإكثار من ذكر الله عز وجل وقت الخروج للتظاهر ..
وفي صباح اليوم الأول من ذي الحجة ( 6 أكتوبر ) خرجت أنا ووزجتي وابني وابنتي لنركب سيارات الأجرة لتقلنا إلى المكان المحدد لانطلاق مسيرة التظاهر ، ركبت زوجتي وابنتها مع بعض النسوة ، وركب ابني الذي لم يتجاوز عمره الاثنتي عشرة عاما مع أنداده ، وركبت وحدي دونهم ؛ لظروف سيعلمها القارئ فيما بعد ..
وفي المكان المحدد وجدت جموعا من الرجال والنساء على مختلف أعمارها ، من ينظر إليها يحسب أن الناس قد خرجت عن بكرة أبيها ، ومن لم يخرج كان يقف في شرفة بيته محييا معلنا تأييده لنا ، ومن الطرائف أن رجلا كان يسير بجانبي لا أعرفه قال : هؤلاء يخرجون ويلوحون لنا بإشارة " رابعة " دون خوف ، فقلت : أي خوف وهم لم ينزلوا ويشاركوا معنا ، فقال : إن كاميرات التصوير التي يرسلها رجال أمن الدولة تتسلط على هؤلاء أكثر ممن يسيرون معنا ، حيث العدد الكثيف الذي لا يستطيعون تمييز ضحاياهم فيها إلا بشق الأنفس .
كان بيني وبين مقدمة المسيرة ربما بضعة كيلو مترات ، ووجدتها بعد قليل تتجه للدخول في شارع فرعي ، فقلت : لماذا أجبروا على السير في تلك الشوارع ونحن فيها نكون عرضة للخطر ، فقال من عنده خبر عن مقدمتها : إنهم ( أي الشرطة والجيش ) يغلقون أمامنا الشوارع الرئيسية .
وبعد ساعة من مسيرنا سمعت من يهتف من وراءنا أن المسيرة تتعرض للضرب من البلطجية محميين بالشرطة وجنود الجيش على مدرعاتهم ، توقفت برهة فوجدت مجموعة من الشباب نظروا بجوار عمارة تحت الإنشاء فقال بعضهم لبعض : الحمد لله فيه " زلط " فملأ كل منهم خفه وعاد للوراء سريعا ، وقفت لأتابع الحدث وأنا محني الظهر من الألم فسمعت من يقول : أكملوا مع المسيرة ، فهناك تأمين يتصدى لهم ، تابعت مشيي وأنا أنظر للوراء ، وبعد قليل كانت الأمور خلفي كأنها طبيعية ، فقد دحرهم الشباب حتى ولوا هاربين ..
وبعد أن سرنا قرابة 10 دقائق سمعت ضرب من الشباب على أعمدة الكهرباء وهم يفعلون ذلك للتبيه على أن ثمة هجوم مفاجئ ، فكان الواضح أن الطغاة من الشرطة والجيش وأتباعهم من البلطجية لما تصدوا لهم الشباب من الخلف دخلوا في شوارع موازية وساروا حتى باغتوا جزءا من مؤخرة المسيرة خرجوا عليه بقنابل الغاز المسيل للدموع كما يسمونها ( وهي خانقة للتنفس قبل أن تسيل الدموع ) مع الطلقات النارية التي يسميها الشباب "خرطوش " كان حظي تلك المرة أن وجدت في الجزء المقتطع ، هاج الناس من حولي ، وقام الشباب بدورهم المعتاد ، فتصدى لهم بعضهم بما يجده أمامه من كسر الطوب أو الرخام والباقي ينادينا لننصرف في المدخل الذي يحس أنه آمن ، آثرت قبل الانصراف أن أنظر حولي وأجمع بعض كسر الطوب والحجارة لأقدمه الشباب الذي يستطيع الرمي ، فأنا شبه عاجز للألم الذي في ظهري ولا أستطيع الرمي لبضع مترات ، تركنا الشباب يتصدون لهم متحملين آثار الطلق الناري ليؤمنوا سيرنا فجئنا إلى المخرج الذي بعده فوجدنا نيرانا كثيفة ، كان الموقف مرعبا ، ولكننا تعودنا على ذلك ، وإذا بالشباب الذي أسميه مجازا بالشباب الملائكي يسرع إليهم بصدره ويصيحون فينا أسرعوا في السير ، عبرنا مخرج الشارع والكل يتوقع أن تأتيه رصاصته ، وسرنا خلف المسيرة التي كانت قد دخلت في شارع واسع إلى حد ما ، وفيه رجعت لحالتها الطبيعية وعاودت هتافاتها ، أما الشباب التي تولى التصدي لهم فقد ظلوا في أماكنهم الدفاعية حتى انصرف المهاجمون من أمامهم ولحقوا بنا بعد أن أصيب منهم بالطلقات النارية من أصيب ..
وكانت صلاة العصر قد حضرت فواصلنا سيرنا حتى حططنا بساحة مسجد لم يتمكن العاملون فيه من أغلاقه فور انتهاء الصلاة طبقا لأوامر وزير الأوقاف الانقلابي ، وصلى الناس جماعات تترى نظرة لاستحالة جمعهم في جماعة واحدة .
كنت في الجماعة الأخيرة فصليت العصر بوضوء الظهر ، واحتجت لأن أجدد وضوءي ، وأمام دورات المياه وصنابير الوضوء كانت الصيحات عجلوا عجلوا المسيرة تحركت ، فالكل يتعلم من التجارب السابقة أن الطغاة مثل الذئاب تماما يحرصون على الهجوم على مؤخرة المسيرة ، خرجت من المسجد وبها قرابة الخمسين فوجدت المسيرة قد غادرت المكان تماما فلم يبق غير شباب متناثر يبدو أنهم بقوا لدرء الخطر عن إخوانهم ، وقد علمت فيما بعد أن كلاب الشرطة قد تمكنوا من خطف 5 خمسة أفراد منهم بعد رحيلنا ، هكذا يفعل الذئاب ، أما مجتمع البشر فلا يفعل مثل ذلك مهما تردت أخلاقه وزادت همجيته ، فقد قرأت كثيرا عن التتار فلم أجد عندهم تلك الدناءة والوحشية ..
أكملنا مسيرنا في الفترة ما بين العصر والمغرب كان الهدوء يسيطر على الجميع باستثناء الهتافات التي ترج مكانها ، وتلمح في الجميع وخاصة الشباب إصرار على أن يستردوا كرامتهم المسلوبة مهما كان الثمن ..
وقبيل المغرب بدأ من معه مكبرات الصوات في رفع الدعاء والكل يؤمن خلفه ، فرغنا من الدعاء وبدأ من معه تمر من الرجال والنساء يطوف على من حوله ليعطي كل واحد بضع تمرات يفطر بها من صيامه ، وقبل أن يتناول الصائمون والصائمات تميراتهم لاحظنا قنابل الغاز تطلق على وسط المسيرة ، لم أتبين هل تطلق عن طريق مدافع من مكان بعيد أم من أعلى أسطح بعض البنايات ، وكعادة الشباب سمعت الصياح : اثبت اثبت لا أحد يجري ، لكن على غير العادة وجد مقدمة المسيرة تعود إلى الوراء مسرعا ، كان الضرب قد أعيد مرة أخرى ولكن بالطلق الخرطوش الذي يصيب فقط ، وإنما بالطلق الآلي المميت هذه المرة من ضباط وجنود الجيش ، وليس ممن يسمون بالبلطجية ( وتسميهم وسائل الإعلام المصرية المواطنين الشرفاء ) ، حاول الجميع أن يتجه للوراء ولكن جاءت الإنذرات أن الضرب الكثيف يأتي من المقدمة أيضا ، فقد صنعوا لنا كماشة .
كان الموقف صعبا للغاية ، فعن اليمين سد تماما ومن الأمام والخلف ضرب ، فتناثر الناس في الشوارع جهة اليسار ، لا يلوون على شيء ، تتبعهم الطلقات النارية المتفجرة ، وكان أقصى ما آلامني أني شهدت شابا قذف في ظهره فحمله مجموعة ممن كانوا يهرلون بجواره والضرب من خلفهم حتى تجنبوا به في مدخل داخل مدخل ، وقد سار بجوارهم سيارتان كارلو ( بحمار ) طلبوا منهما أن يحمله أحدهما فخافا ..
كانت المرءوة تتطلب مني أن أقف معه لأعرف مصير هذا الشباب ، وهل نال الشهادة أم أن ثمة أملا في إنقاذه ، ولكني تركته مع مجموعة من الشباب الذين حملوه ليتولوا هم الأمر ..
وضميري الآن يؤنبني وأخشى أن يحاسبني الله عز وجل على مروري على شاب في لحظة الموت ، ولم أقدم له شيئا ، وهذا في الشرع يعد مشاركة غير مباشرة في القتل ، ولكن المواقف التي مررت بها من الصباح ونمر بها كل يوم جعلت قلوبنا كأنها ميتة لا تحس ، ولمَ لا وأنا بعد كل ذلك لم أتصل بزوجتي وابنتي وابني لأطمئن عليهم منذ الصباح ، نعم كنت أتذكر كل واحد منهم عن كل هجمة ولكن ردي القاسي على هواجس النفس بأن مثلهم مثل من حولهم ، ومن يقع منهم مصابا أو شهيدا سيجد من يقف حوله مثل الشاب الذي ذكرت لكم قصته ..
إنها مأساة نمر بها في مصر الآن أن يموت فينا الإحساس بالموت قبل أن تقبض أرواحنا ، وأي مأساة أكبر من أن تتفرق أسرة في ساحات الموت وتتبلد المشاعر تجاه بعضها البعض ، وأي مأساة أكبر من أن تتفرق أسرة في مواصلات التنقل ولا تركب في سيارة واحدة حتى لا ينال الاعتقال العشوائي الجميع إن تعرضوا لأحد الأكمنة التي ينصبها الجيش أو الشرطة للإيقاع بفرائسه ، وأظن أن هذا لم يكن شعوري وحدي وإنما كان شعور الجميع حولي ..
وفي تلك الأثناء هاتفتني ابنتي قائلة أبي : وأنت راجع لا تمر من طريق كذا فهم قد نصبوا الكمين في طريق العودة لبلدتنا ، قلت : وأين أنت وأمك قالت : في الطريق إلى البلد أو قد وصلنا ، كان عليّ أن أحمد الله عز وجل على نجاتهما ( والله يستحق الحمد في كل حال ) ولكني لم أفرح بسلامتها فمن حولي من الشباب والشابات تربطني بهم بنفس الأبوة ، فماداموا لم يسلموا فكيف أفرح ..
ووقت التظاهرات كوقت الحج أحيانا تفاجأ في وسط الزحام بقريب أو صديق فتعجب كيف جمعت بينكما الأقدار ، ففي تلك الأوقات لاحظت ابني ذي الثانية عشرة من عمره ( وكان قد خرج دون هاتف معه) واقفا ومعه صديق له وبالقرب منهما رجل جاري مريض بالقلب ومركب دعامة وعلى مرضه يصر على الخروج في المظاهرات ، فاصطحبتهم جميعا متنقلين من حارة لحارة ، كنا نمشي أحينا وأحيانا نضطر للجري رغم مرضي ومرض جاري ، فمن لطف الله أن يضع في الجسد قوة على الجري وقت الخطر لا أجد لها تفسيرا ، وفي النهاية وصلنا لشارع واسع بعيد عن مسامع المسيرة وما يحدث لها ، فأشرت لتاكسي بالوقوف ، فركبنا جميعا ..
وبعد قليل وجدت أن جاري المريض بالقلب قد شعر بالهدوء فاتصل بزوجته فقالت له: إن النسوة اللائي كن مرافقات لها تفرقن جميعا فأرشدها أن تفعل مثلما فعلنا وتركب تاكسي يقوم بتوصيلها ..
وصلت للمنزل وكان أول ما فعلته أن صليت المغرب فقد أوشك أذان العشاء أن يرفع ، ثم تقصيت الأخبار المحلية بعدها فوجدت أن عدد القتلى في الفجعة الأخيرة لمسيرتنا كان 7 سبعة شهداء ، بينهم فتاة في الثامنة عشرة من عمرها ، طالبة بكلية الصيدلة ، وامرأة مسنة لم يكونوا تحققوا من اسمها بعد ، وخمسة رجال وشباب ، أما المصابون فلا أعلم لهم إحصاء ..
ولم يكن حظ المناطق الأخرى بأفضل منا ، فقد تجاوز عدد شهداء هذا اليوم المسمى بعيد النصر في مصر في بعض الإحصائيات 80 ثمانين شهيدا ومئات الجرحى، قُتل وأُصيب هؤلاء على يد جنود مصر البواسل وبدعم من أموال الأحبة في الخليج الذين يغدقون حكامهم بالأموال على قادة العسكر وحكومة الانقلابيين ، وعلى أشلاء جثثهم أقيمت سهرات المساء الحمراء التي ربما شاهدها البعض من القراء على القنوات المصرية أو شاهد لقطات منها في وكالات الأنباء العالمية.
وفي الختام أقول : إن هذا لن يكون اليوم الأخير ، وإنما نعاهد الله أن نكرره حتى يتحقق لنا النصر أو نعذر إلى الله عز وجل ، بعد أن تصعد إليه أرواحنا جميعا أو ندخل زنزانتهم ونترك لهم الأرض بعد ذلك يعيثون فيها فسادا كما يشاءون ، ولن يكون إلا ما أراده الله وكتبه وقدره .
المصدر موقع التاريخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق