فرنسا وغلبة الطبع
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد:
لما استولى يوليوس قيصر على بلاد الغال[1]
في القرن الأول قبل الميلاد، حلت الثقافة الرومية محل الثقافة الكلتية (أو السلتية) الأصلية.
لكن ما إن أظل القرن الخامس الميلادي حتى بدأت القبائل الجرمانية تهدد حدود الإمبراطورية الرومية، وكان من بين هؤلاء قبائل الفرنكيين (الفرنجة) والقوطِ الغربيين.
كان من أشهر زعماء الفرنجة الملك «كلوفيس الأول»، الذي ألحق الهزيمة بالحاكم الرومي لإقليم الغال واستقر له مُلك البلاد، وعُدَّ مؤسسَ الأسرة الميروفنجية وأولَ ملك لما أصبح يعرف بفرنسا، كما كان أول ملك فرنكي يعتنق الكاثوليكية؛ وكان ذلك في العام 496م على يد زوجته الكاثوليكية القديسة كلوتيلدا، وتم تعميده رسمياً من قِبل أسقف ريمس «سان ريمي»، وأصبح لهذا الحدث قيمته الخاصة في بلاد أوروبا، لا سيما فرنسا؛ فقد نقل المؤرخ الفرنسي «إدموند بونيون» عن الجنرال شارل ديجول قوله: «بالنسبة لي، فإن تاريخ فرنسا يبتدئ بكلوفيس الذي انتخبته قبيلة الفرنج الذين منحوا فرنسا اسمها .. والعنصر الحاسم بالنسبة لي هو أن كلوفيس أول ملك تلقى المعمودية باعتباره نصرانياً. إن بلدي نصراني، وإني أعتبر ابتداءَ تاريخِ فرنسا من جلوس ملكٍ نصراني على العرش يحمل اسم الفرنجة»[2].
يشبه هذه الحادثة التي عدّها «ديجول»
نقطةً حاسمةً في تاريخ فرنسا، تتويجُ البابا «ليو الثالث»
ملكَ الفرنجة شارلمان زعيماً للإمبراطورية الرومية المقدسة في شتاء 800م؛ إذ كان ذلك مما وطد العلائق التاريخية الوثيقة بين البابوية وفرنسا.
تلاشت آمال روما في إحياء الإمبراطورية الرومية بعد شارلمان، فقد دب الضعف في الإمبراطورية واستحالت ممالك سبعاً، من بينها: ممالك فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وفي مستهل القرن العاشر برزت أسرة الكابيتيين نسبة إلى مؤسسها وأول ملوكها «هيو كابيه»، الذي اعتلى العرش عام 987م بدعم من الأساقفة الكاثوليك، واستمر حكمه إلى وفاته عام 996م.
وبقي حكم الكابيتيين المدعومين من قبل الكنيسة الرومية في أثناء الحروب الصليبية.
وفي العام 1095م من كليرمونت الفرنسية دعا البابا الفرنسي «أوربان الثاني» إلى حملته الصليبية ضد المسلمين لاستعادة بيت المقدس، وحرض على ذلك الكاهن الفرنسي بطرس الناسك؛ فكانت فرنسا أول داعٍ إلى حرب الإسلام من بين الأمم النصرانية حينئذ.. يقول سعيد عاشور في كتابه «الحركة الصليبية»: «... معظم المشتركين في هذه الحملة [الصليبية الأولى]
كانوا من القطاع اللاتيني في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولم يكن من القطاع الألماني سوى القليل، ما جعل الطابع العام لحملة جودفري بوليون فرنجياً، أي فرنسياً.
وقد ظهر أثر ذلك عندما استقر الصليبيون ببلاد الشام، إذ سرعان ما ذبلت العلاقات الإقطاعية التي ربطتهم بإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، وأقاموا ملكية جديدة في بيت المقدس وفق النظم والتقاليد الفرنجية، أي الفرنسية، حتى إن العرب المعاصرين أطلقوا على الصليبيين عموماً اسم (الفرنج)»[3].
أما عن الحملة الصليبية الثانية التي استفزها سقوط الرها في أيدي المسلمين، فيقول عاشور: «ويبدو أن فكرة الحملة الصليبية الثانية نبتت في بلاط لويس السابع ملك فرنسا سنة 1145، وهو الملك المعروف بورعه وتقواه، ثم تأكدت هذه الفكرة في مجمع فزلاي Vezelay في آخر مارس سنة 1146»[4].
أما الحملة الثالثة فشاركت فيها فرنسا وإنجلترا.
وكما كانت الحملات الثلاث الأولى فرنسية الصبغة، كانت الحملة الرابعة، فقد «ساهم فيها وتولى قيادتها عدد كبير من البارونات الفرنسيين والفلمنكيين وغيرهم، وإن كانت الغلبة فيها للعنصر الفرنسي»[5].
بل إن الحملات الصليبية الأخرى طبعت بالطابع الفرنجي/
الفرنسي، باستثناء الحملة الخامسة التي كان قادتها من النمسا وهنغاريا وقبرص إلى جانب ملك أورشليم (القدس)
الفرنسي حنا دي بريين، والسادسة كانت بقيادة فريدريك الثاني.
أما الحملتان السابعة والثامنة، فقد كانتا بقيادة ملك فرنسا «لويس السابع»، الذي منح لقب «قديس» من قبل البابوية عام 1297م. بل إن «حملة الأطفال» التي خرجت عام 1212م كانت بقيادة صبي فرنسي اسمه ستيفن زعم أن المسيح عليه السلام هو الذي دعاه إلى الخروج، ولبّى دعوته أكثر من ثلاثين ألفاً من أطفال الفرنسيين والألمان[6]، وقد اختلف المؤرخون في تفاصيل أحداثها.
هذا هو تاريخ فرنسا الصليبي منذ قيامها إلى نهاية الحروب الصليبية، بل إلى الثورة الفرنسية، مروراً بالحروب الدينية في القرن السادس عشر ومذبحة برثولوميو وإلغاء مرسوم نانت الذي أراد أن يساوي بين حقوق البروتستانت وحقوق الروم الكاثوليك، وكانت نتيجة إلغائه عام 1685م أن شُرّد البروتستانت إلى أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، بينما ظلت فرنسا صليبية صِرفة.
فما الذي اختلف في الطبع الفرنسي الصليبي؟
لقد ظن كثير ممن لم يقرأ تاريخ فرنسا الديني أنها استحالت دولة علمانية بعد أن عصفت بها الثورة الفرنسية عام 1789م.
والحقيقة أن الثورة الفرنسية، وإن زعزعت كيان الكاثوليكية في فرنسا، إلا أنها كانت قصيرة الأجل، إذ وُقعت الكنكوردات (الاتفاقية البابوية) بين الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا وحكومة نابليون عام 1801م، وفي أقل من عقدين عادت الكاثوليكية لتصبح الدين الرسمي في فرنسا.
ولما سقطت البابوية نتيجة ثورة الروم في إيطاليا عام 1848م، تدخلت جيوش نابليون الثالث لإنقاذ روما، وظلت حامية لها، ثم صادق نابليون عام 1851م على «قوانين فالو» التي أعادت هيمنة الكاثوليكية على التعليم في فرنسا، ولما أُعلن إمبراطوراً عام 1852م خطب الأسقف «سان فلور» قائلاً: «لقد اصطفى الرب لويس نابليون.. لقد نادى به ملكاً. أفلا نعترف بمن اصطفاه الرب؟»[7].
كيف لا وهو الذي تعهّد بحماية روما إلى أن خاض الحرب الفرنسية - البروسية عام 1870م، والتي مُني فيها بهزيمة ساحقة، فعجز عن الدفاع عن البابوية، واضطر إلى سحب حامياته من روما، فسقطت روما بيد «فيكتور عمانوئيل الثاني»، الذي أصبح ملكاً لإيطاليا، وولى الكهنة الكاثوليك إلى جحورهم.
وجدت فرنسا نفسها ضحية التلاعب الكهنوتي الرومي، فبدأ العداء بين الكاثوليكية والحكومة الفرنسية في بداية القرن العشرين، وكان سبباً في مآلات الحرب العالمية الثانية ووقوف الكنيسة إلى جانب الألمان ضد الفرنسيين.
لكن هذه الحقبة التاريخية المتأخرة لا يمكن أن تمحو عراقة الدم الصليبي في المجتمع الفرنسي، ولعل هذا يفسر ارتفاع نسبة الكاثوليك في فرنسا مقارنة بغيرهم من العلمانيين أو الملحدين أو أتباع الديانات الأخرى[8].
إن فرنسا دولة ضاربة في الكثلكة كما سبق بيانه، وإن لبس زعماؤها لبوس العلمانية.
من مظاهر هذه الكثلكة أن جلَّ زعمائها من أتباع الكنيسة الرومية الكاثوليكية، بدءاً بكلوفيس الأول، وانتهاءً بالزعماء المتأخرين أمثال:
فرنسوا ميتران، وجاك شيراك، ونيقولا سركوزي، وآخرهم فرنسوا أولاند.
بل إنهم يُمنحون لقباً تشريفياً كنسياً هو «الكاهن الفخري لكاتدرائية القديس يوحنا لاتيران»؛ وهي الكنيسة الأولى من بين كنائس روما.
فهل يعقل أن يمنح هذا اللقب التشريفي لمن يحمل أفكاراًً علمانية معادية للفكر الكنسي؟
لقد حاولت فرنسا أن ترتدي ثوباً غير ثوبها في تعاملها مع رعاياها من غير الكاثوليك، لا سيما المسلمين منهم، لكنها ضاقت بذلك، إذ ليس من خُلقها؛ فكشفت حقداً دفيناً للإسلام وأهله؛ فهل غلب الطبعُ التطبع؟
[1] بلاد الغال:الأراضي التي شملت فرنسا وبلجيكا وسويسرا وأجزاء من إيطاليا.
[2]Edmond Pognon. De Gaulle et l’histoire de France (Paris, 1970), p. 30.
[3] سعيد عبد الفتاح عاشور. الحركة الصليبية (الدمام: مكتبة المتنبي، 2009)، ج 1، ص 134.
[4] الحركة الصليبية، ج 1، ص 554.
[5] الحركة الصليبية، ج 2، ص 848.
[6] سامي بن عبد الله المغلوث. أطلس الحملات الصليبية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1429 هـ)، ص 144.
[7]Adolphe Michel. Le Jesuites (Paris: Sandoz et Fischbacher, 1879), p. 71.
[8] وفقاً لكتاب المعلومات الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية (1997م)، فإن نسبة الكاثوليك في فرنسا بلغت تقريباً 88 %، وهي 74.9 % وفقاً لإحصاء الفاتيكان عام 2009م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق