السبت، 3 مايو 2014

ما مدى مسؤولية قطب عن حركات التكفير والعنف؟

ما مدى مسؤولية قطب عن حركات التكفير والعنف؟


راشد الغنوشي

تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لولادة واحد من أهم أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الأستاذ سيد قطب وكذا الذكرى الأربعين لوفاته مقتولا نحتسبه عند الله شهيدا، وذلك بعد أن وجه له قضاء عسكري تهما بالتكفير والعنف.

والحقيقة أنه قل من مفكر معاصر ألصقت به من تهم التنظير للعنف والتكفير وذهبت التأويلات لفكره أنحاء شتى مثلما حصل مع الأستاذ سيد.

فما سر ذلك؟ وما موقع سيد قطب الحقيقي: أهو رمز من رموز الوسطية الإسلامية التي يمثلها الإخوان، باعتباره أحد أبرز قادتهم؟ أم هو قد تحول في غمرة المواجهة مع الثورة إلى منظّر لجماعات التكفير بل مؤسس لها!؟


إنه رغم الحملات من جهات شتى على الأستاذ سيد، لا يزال يتربع في طليعة المفكرين المؤثرين في الساحة الإسلامية وما أحسبه إلا معدودا في عداد عظماء الأمة.
"
كتب قطب بدمه أروع ملاحم الفكر الإسلامي المعاصر التي ستظل مؤثرة على امتداد الأجيال على غرار أمثاله من فطاحل العلماء الأفذاذ: الغزالي وابن تيمية ومالك وابن حنبل والشافعي وأبي حنيفة وابن رشد وعبده والأفغاني ورضا والبنا والمودودي وابن عاشور
"


فقد كتب بدمه أروع ملاحم الفكر الإسلامي المعاصر التي ستظل مؤثرة على امتداد الأجيال على غرار أمثاله من فطاحل العلماء الأفذاذ: الغزالي وابن تيمية ومالك وابن حنبل والشافعي وأبي حنيفة وابن رشد وعبده والأفغاني ورضا والبنا والمودودي وابن عاشور..إلخ.

ومن خصوصيات المفكرين الكبار أن يتحولوا مع الزمن الى رموز لمدارس أكثر من كونهم أفرادا، وذلك بما يتوفر عليه فكرهم من ثراء وتعدد أبعاد تجعله مبعثا لأنواع من الجدل حول تفسير نصوصهم على اتجاهات مختلفة، كلّ يبذل وسعه في سحب المفكر إلى صفه مؤولا تراثه وفق منزعه تأييدا لمذهبه الخاص.

وقد تقترب أو تبتعد تلك التأويلات من الأصل، ولا يكون المؤسس للمدرسة مسؤولا بالضرورة عن هذا التأويل أو ذاك، لا سيما إذا كان المؤسس هو أقرب إلى الأديب والفنان منه إلى العالم المنضبط بضوابط البحث العلمي، وهو الحال الغالب على تراث شهيد الكلمة سيد قطب رحمه الله، أنه أديب كبير، وكان الأدب مدخله إلى الإسلام وللدراسات الإسلامية، بما جعل سبحاته القرآنية أقرب إلى الفن الراقي والتأملات الفلسفية والمجادلات القوية ضد مناهج العلمنة التي كانت في طور تمدد وانتصار وطموح إلى احتواء الإسلام.

إن تراثه في جوانب كبيرة منه أدب سياسي نضالي راق، يحرض على الثورة للإطاحة بالطواغيت وبالجاهليات. وفي العموم فقد بذل الرجل عصارة حياته لتقديم نظرية إسلامية عامة حول الإسلام ونظمه للحياة وتصوراته لأحوال الأمة ومسيرتها التاريخية وإرثها الحضاري وما يحيط بها من أوضاع دولية، وما يقترحه عليها من منهاج للتغيير في اتجاه البديل المطلوب.

ميزة هذه الرؤيا أنها بالغة الإغراء بما توفرت عليه من شمول وراديكالية وصياغة فنية راقية وثورة على الأوضاع عاصفة، وبما عمّدها بها صاحبها من زاكي دمه، بما جعل شابا كالذي كنته، يلتهم كتابات الرجل في حال تشبه الانجذاب الصوفي، والتوتر العصبي والاندفاع الثوري والاستعداد لمنازلة العالم كله، بعد أن تلون العالم بلونين ليس أكثر: أبيض هو الإسلام مأخوذا على هذه الصورة فقط ومعتنقوه، وأسود هو بقية العالم والأيديولوجيات وكل تصور آخر للإسلام وتجمّع على غير هذا التصور، بما يجعله مستهدفا لوصف الجاهلية وتهمة الخضوع لمقررات الحضارة الجاهلية المعاصرة وامتلاءاتها.

وهو ما يجعل الحوار صعبا جدا بين حملة هذا التصور ومخالفيهم، إن داخل الدائرة الإسلامية أو خارجها، وقد لا يخلو حتى من الاستعداد لحسم الخلاف جهادا.

واضح أن قصور هذا التصور -بعد تجريده من شحناته الانفعالية وجمالياته الفنية- وسبحاته الروحية، يكمن أساسا في افتقاده لأي جرعة من النسبية، لأي تمييز في الإسلام بين ما هو محكم وهو القليل جدا وبين متشابه هو الأكثر.
"
لم يكن عجبا أن يتحول قطب في غيابات السجن عن ذلك التوجه الاجتماعي الثوري صوب توجه آخر يتسم بالراديكالية الأيديولوجية والصراع الذي لا هوادة فيه بين الإسلام والجاهلية على كل صعيد
"


وهو ما زرع في هذا التراث العظيم قابلية واسعة لتأويلات شتى: بعضها تكفيري، وبالخصوص وقد تنزل هذا الفكر في مناط من الصراع السياسي والأيديولوجي المحتدم بين الحركة الإسلامية التي مهدت أرضية التغيير وبين جناحها العسكري الذي انفرد دونها بالأمر معتليا الموجة اليسارية العالمية الصاعدة واجدا فيها النصير على مقاومة الإمبريالية، والمبرر الأيديولوجي لمناهضة "إخوان" الأمس، وهو ما أتاح الفرصة لقوى اليسار أن تهتبل هذا الوضع وتدفع بالثورة الاجتماعية السياسية القائمة إلى أبعاد أخرى ثقافية أيديولوجية معادية للدين.

فلم يكن عجبا في ظل حالة القهر التي يعيشها التيار الإسلامي مقابل تغول الأيديولوجيات المعادية واستظهارها بقوى الدولة القهرية أن تتم هذه النقلة في غيابات السجون لدى أديب كبير من وزن سيد قطب:
كان له اسم وسط النقاد الأدبيين تلميذا للعقاد، كما عرف له اسم ضمن الأدباء الثوريين الاجتماعيين أنتج أدبيات إسلامية ثورية متميزة بانتصارها للعمال والفلاحين وحملتها العاصفة ضد الإقطاع والمعسكر الرأسمالي، برز ذلك سافرا في مقالاته المنشورة في كتاب دراسات إسلامية وفي كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية" وفي كتابه المهم جدا "العدالة الاجتماعية" حتى أن رجال الثورة عرضوا عليه منصبا وزاريا، فهو أحد آباء الثورة ومنظّريها.

هذا الأديب الثائر الأقرب إلى اليسار، لم يكن عجبا أن يتحول في غيابات السجن عن ذلك التوجه الاجتماعي الثوري صوب توجه آخر يتسم بالراديكالية الأيديولوجية والصراع الذي لا هوادة فيه بين الإسلام والجاهلية على كل صعيد.. معتبرا جوهر مشكلة الأمة عقائديا يتمثل في أنها لم تفقه بعد "لا إله إلا الله" فلا مناص من البدء بإعادة تعليمها هذا المنطلق العقدي الأساس باعتباره منهج حياة.

وفي هذا السياق الجديد أعاد تفسير أجزاء عدة من ظلال القرآن ولم يسعفه الأجل ليستكمل بقية الأجزاء، وكانت قمة هذا التوجه وصياغته المكثفة والأخيرة هي الواردة في كتابه "معالم في الطريق" ولكنه كسائر الأدباء الكبار نفث روحه في كل سطر كتبه في مرحلته الثانية.
"
الذين يكتبون عن قطب يقتصرون في الغالب على كتابات المرحلة الثانية من عمره وبخاصة مرحلة المعالم، ويسدلون الستار على منتجات المرحلة الأولى سواء منها الأدبية وبخاصة خصائص التصوير الفني في القرآن أو أدبه الاجتماعي الثوري
"


والذين يكتبون عن قطب يقتصرون في الغالب على كتابات المرحلة الثانية من عمره وبخاصة مرحلة المعالم، ويسدلون الستار على منتجات المرحلة الأولى سواء منها الأدبية وبخاصة "خصائص التصوير الفني في القرآن " و "ومشاهد القيامة في القرآن" أو أدبه الاجتماعي الثوري ممثلا في رائعتيه "الصراع بين الإسلام والرأسمالية" و "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي قرّضه علامة الهند أبو الحسن الندوي فاعتبره أفضل كتاب في موضوعه.

وتقديري أن الحركة الإسلامية المعاصرة ضمن الهجمة الإمبريالية الزاحفة هي أحوج ما تكون لإدراج إنتاج المرحلة الأولى من إسلاميات قطب ضمن مناهجها التربوية، ففيها مادة تسد ثغرة واسعة في بنيان الفكر الإسلامي الحديث، هذا البعد الثوري الذي اكتشفه الإمام الشهيد سيد قطب في الإسلام قرآنا وسُنة وصاغه صياغة أدبية راقية، مع ضرورة التمييز في كتابات المرحلة الثانية بين قيم إسلامية ثابتة وبين ما هو مصطبغ بصبغة ظروف الصراع بين الحركة الإسلامية وأبنائها المتمردين عليها.

وهذا الصراع في المحصلة داخل الحركة الإسلامية، عمل التيار اليساري العلماني اليساري على دفعه بعيدا عن الإسلام وأداة لقمعه وأهله بعد أن تم تبني الثورة لأساسيات المشروع الإسلامي: العدالة الاجتماعية، الإصلاح الزراعي انتصارا للجماهير المسحوقة من الإقطاع وشطبا للقوى الاجتماعية والسياسية الخادمة له والدائرة في فلكه، وكذا إعادة مصر قلبا للعروبة بديلا عن توجهها الغربي السابق، لكن رغم تبني الثورة لأساسيات برنامج الحركة الإسلامية حتى ما هو سلبي مثل حل الأحزاب وصب قوى التغيير في تجمع واحد يقود مهمة التغيير والتنمية بأسرع ما يكون، إلا أنه وفي غمرة الصراع ورد الفعل وبتأثير العناصر اليسارية التي عملت على ملء الفراغ الأيديولوجي تم افراغ ذلك البرنامج من خلفيته الإسلامية، وتم الاتجاه به صوب الأيديولوجيات العلمانية وحتى الماركسية، مع تصدّ لا هوادة فيه للمؤسسة ورجالها صاحبة المشروع.

لم يكن عجبا وقد تنزل فكر سيد قطب في هذه المناخات المشحونة بالصراع أن يجد في غيابات السجون من الشباب الإسلامي الذي شوت سياط الثورة ظهره من يندفع إلى اعتناقه منهجا تكفيريا يحل دماء الحكام باعتبارهم جاهليين، ويصم المجتمعات التي تصفق لهم بالجاهلية.

لكن إلى أي مدى يمكن تحميل الأديب الكبير سيد قطب مسؤولية مؤوليه وحمل تراثه هذا المحمل؟ وإلى أي مدى يمكن تحميل الظروف والملابسات التي قادت إلى صراع التنافي الحاصل مسؤولية أو بعض المسؤولية عن التحول الذي حصل لهذا الأديب الكبير، وعن اندفاعات الشباب وتأويلاتهم لتراثه مركزين على جانب منه دون الآخر؟
"
لم يكن عجبا وقد تنزل فكر قطب في مناخات مشحونة بالصراع أن يجد في غيابات السجون من الشباب الإسلامي الذي شوت سياط الثورة ظهره من يندفع إلى اعتناقه منهجا تكفيريا يُحلّ دماء الحكام باعتبارهم جاهليين، ويصم المجتمعات التي تصفق لهم بالجاهلية
"


الثابت اليوم أنه بعد رحلة مريرة من الصراع بين الثورة والإخوان، ولك أن تقول بين الإخوان وأبنائهم، إدراك الحكماء من كل الإطراف أن ذلك الصراع لم يكن حتما لازما، والمؤكد أنه أضر بالجميع وبمصر خاصة وبالتيارين القومي والإسلامي، لم يفد من ذلك غير أعداء الإسلام، وأن الجميع أدركوا، وبصدد أن يتوسع هذا الإدراك فيعي الجميع، أن الجمهورية المصرية والثورة التي بنتها بنت شرعية للتيار الإسلامي، وأن المشروع الإسلامي هو من أسس لفكر الثورة على الإقطاع ومركزية مصر العربية والإسلامية، ولمشروع الوحدة العربية والجامعة العربية وللإصلاح الزراعي ونشر التعليم والصحة، وزعامة مصر العربية والإسلامية، ومناهضة المشروع الإمبريالي ممثلا بالخصوص في التصدي لرأس رمحه المدمر الكيان الصهيوني.

حول كل ذلك أخذت منذ نهاية الثمانينيات خيوط التواصل تمتد بين التيارين القومي والإسلامي، وأفضت إلى إرساء مؤسسة للنضال المشترك "المؤتمر القومي الإسلامي" نضالا مشتركا من أجل نفس الأهداف، مع إضافة البعد الديمقراطي الذي كان غائبا في المشروع، وتصديا لنفس الأعداء، وفي ذلك تجاوز لما سماه قطب في سياق آخر الصراع النكد: بين العروبة والإسلام، الصراع الذي لم يدخر سيد رحمه الله في مرحلته الثانية وسعا في تأجيجه وإعلاء الأسوار بينهما، خلافا لأصل فكر الإخوان كما أسسه الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، وتبلور في ورقة الوحدة العربية التي كانت من آخر ورقات الرؤيا الأساسية التي أقروها.

وإنه مما لفت هذه السنة أنظار المدعوين إلى الإفطار الرمضاني الإخواني المهيب، تصدر قاعة الاحتفال صورة البنا وإلى جانبه قطب بما دل على توجه واضح لاستعادة هذه الشخصية لتحتل موقعها الطبيعي البارز المؤثر ضمن رموز الوسطية الإسلامية، وانتزاعه من قبضة تيارات التشدد وجماعاته التي كادت تحتويه بغير حق.

ففكر الرجل غاية في التركيب بينما فكرها غير في التسطيح، فما يلتبسان في عقل عارف.. قال تعالى"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

تاريخ النشر الأحد 6/10/1427 هـ - الموافق 29/10/2006 م 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق