أتـــــــــــاتــــــــــــــورك
د.محمد عباس
كان ذلك منذ أكثر من أربعين عاما ..
وعلى الرغم من كل هذا الزمن فما زالت تفاصيل ما حدث تكوى قلبى ومرارة ملح دموعه فى حلقى ..
كنا فى موسم الحج .. وكنت قد انتدبت للعمل طبيبا فى مستشفى عرفات.. وكنت أحج..
كانت العادة أن تغلق المستشفى أبوابها مع النفرة.. وأن يُحوّل من فيها من المرضى إلى مكة.. لكن اكتشاف انتشار وباء الالتهاب السحائى والكوليرا بين الحجاج فى ذلك العام غيّر من ذلك النظام فصدرت الأوامر ببقائنا فى المستشفى لرعاية المرضى..
واستفتينا شيخ الحرم فأفتى لنا بأنه ينطبق علينا ما ينطبق على السقاة والرعاة وألا نبيت فى منى بل نؤدى المناسك ثم نعود لنبيت فى عرفة.. على أن نحتفظ بإحرامنا حتى طواف الإفاضة..
وكان المسئولون قد نسوا أمر إعاشتنا .. لم يكن ثمة طعام ولا شراب بينما كانت هناك كميات هائلة من الأدوية والعقاقير.. رحنا نتوضأ للصلاة بمحلول الملح بديلا عن الماء ونشرب محلول الجلوكوز بديلا عن الطعام .. يتهددنا – بين الجوع والعطش وانعدام الماء للتنظيف - انتقال الأمراض إلينا.. وكنت أؤدى مناسك الحج للمرة الأولى وكنت أتخبط فى ملابس الإحرام..
كنت أجيش بالمشاعر بعد المزدلفة ومنى ورمى جمرة العقبة الكبرى..
وكنت مجهدا من عمل متواصل طيلة الأيام السابقة ..
وكنت جائعا وعطشانا ونصف عار..
كان المستشفى مكدسا بالمرضى وكان الموت يتجول بيننا حتى كدنا أن نراه..
كان الأمر هائلا وغريبا وبدا أنه لا ينتمى لحياتنا الدنيا .. ربما ينتمى إلى دنيا الأحلام والرؤى.. أو بدا أنه مشهد من مشاهد الآخرة.. كان الموت حاضرا .. وكان مسيطرا .. الموت الذى نقابله فى حياتنا العادية مرة أو مرتين فى العام.. وربما كأطباء نراه مرة فى الشهر أو حتى فى الأسبوع .. هذا الموت نقابله الآن فى الساعة الواحدة مرات ومرات بل وأحيانا يتكرر فى الدقيقة الواحدة.. استطعنا بجهد جهيد التعامل مع الوضع الطارئ وسط أحزان فاجعة لموت العشرات من الحجاج .. ذلك الحزن الثقيل الخانق الذى لا يتيح لك أى وقت تتأمله فيه.. لم أكن أحسب أن الموت يمكن أن يأتى بمثل هذه السهولة.. بمثل هذه التكرارية .. وخيم علىّ الشعور بأن ملك الموت يدير المستشفى إدارة مباشرة..وأنه لا يمكن أبدا مقاومته..لو استمرت الوفيات بهذا المعدل فسنفنى جميعا فى أيام قليلة.. بل ستبيد البشرية كلها فى بضعة أسابيع..
أحسست بجبروت الله فملأ الرعب قلبى..
كنا قد قضينا 24 ساعة دون نوم .. أديت مناسك الحج ثم عدت إلى المستشفى قبل فجر النحر بساعات فذهب زملائى جميعا وبقيت وحدى .. أحقن المرضى بالمحاليل وأراقب الضغط والنبض وأعطى مخفضات الحرارة والمضادات الحيوية وأغمض عيون الموتى و أتلو الشهادتين وأحرر شهادات الوفاة ..
هل يعرف ذووهم أنهم يموتون الآن؟؟..
ولم يكن هناك أى وقت للإجابة على السؤال أو التأمل فيه..
كنت جائعا عطشانا نصف عار أكاد أسقط من الإعياء والإرهاق مترقبا وصول زملائى حتى أركن لبعض راحة..
لم يأت الزملاء .. ساعات وساعات ولم يحضروا..وليس ثمة هنيهة أريح فيها جسدى المكدود.. ومضى نهار يوم النحر كله ولم يحضروا .. بل حضر فى المساء قول من سيارات الإسعاف يحمل المصابين فى حوادث الطرق..
نظرت ذاهلا .. كنت أتخيل أننى سأسقط فى أى لحظة من الإعياء بسبب المجهود المضنى الذى بذلته .. لم أكن أتخيل أننى أستطيع أن أواصل .. الآن علىّ لا أن أواصل فقط بل وأن أتعامل مع الوضع الجديد أيضا ..
أدركت على الفور أننى يجب أن أتعامل مع هذا الوضع كما يتعامل الأطباء فى ميدان المعركة .. فأجريت حصرا سريعا للمصابين .. كانوا أربعة عشر مصابا يلبسون جميعا ملابس الإحرام.. وزعهم رجال الإسعاف على حجرات الاستقبال.. وضعوا المصاب الأول – كيفما اتفق - وحده فى غرفة .. كانت الغرفة صغيرة جدا بحيث لا تكاد تتسع لكلينا.. لم أعرف أبدا طيلة الأيام السابقة لماذا صمموا هذه الغرفة بهذا الصغر.. كانت مهجورة ولم تستعمل ولم أر من يدخلها من قبل أبدا .. بل إننى فوجئت بوجودها.. فحصت المريض.. كان شابا .. ربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره.. لم تكن به إصابات ظاهرة.. حاولت بالعربية والإنجليزية التفاهم معه وسؤاله مم يشكو .. كان مكتمل الوعى لكنه لم يفهم لغتى.. كنت أحاول التفاهم معه.. كنت أتحدث إليه.. لم يقدم على مجرد المحاولة كما كان الآخرون يفعلون عادة حين كانوا يحاولون فيفشلون فيهتفون بعربية صحيحة: الله أكبر.. محمد رسول الله .. ثم يصمتون وكأنهم قد قدموا أوراقهم وهويتهم ودليل قرابتهم .. قدّموا الأهم أما الباقى فتفاصيل مكررة متشابهة لا معنى لها ولا قيمة .. لم يفعل هذا المريض ذلك.. فحصت الضغط والنبض.. كانا فى حدود الطبيعى.. فحصت باقى الأعضاء.. لم يكن هناك سوى بقايا دم متجلط إثر رعاف.. كانت حالته جيدة وكان غيره أحوج لى .. فحصت الباقين و أنا ألقى تعليمات حاسمة وسريعة لهيئة التمريض تتضمن الإسعافات السريعة والعلاج والدم والبلازما والأكسيجين وطلب سيارات إسعاف لتحويل من يحتاج لمستشفيات متخصصة.. طلبت من هيئة التمريض متابعة النبض والضغط وإبلاغى على الفور بما يستجد .. أكملت الفحص الأولى للمرضى .. حاولت مواجهة ما يتهدد الحياة بصورة عاجلة كنزيف حاد أو اختناق .. وضعت الجبائر للكسور وحقنت المسكنات و أعطيت التعليمات اللازمة لحالات النزيف الداخلى.. وصلت أخيرا إلى مصاب مصرى.. كانت ضلوعه مهشمة .. كل ضلوعه تقريبا بدرجة أذهلتنى كيف وقع الحادث وما هو كنهه.. كان ضغط الدم صفرا والنبض لا يحس لكنه كان مكتمل الوعى.. وكان الدم يفور كالزبد من فمه.. كنت أضخ المحاليل والدم فى عروقه و أشفط السوائل من فمه وأستعمل الأدوات الجراحية للبحث عن وريد أكبر أحقن فيه مزيدا من الدم.. كنت منفعلا تماما ومستغرقا بدرجة لا يمكن وصفها.. وكان هو يحدثنى بضعف فى صفاء واستسلام الرضى لا استسلام اليأس: لا تتعب نفسك يا دكتور فإننى أحس بالموت .. أشعر بروحى تطلع الآن.. أحس بها تطلع فعلا.. ربما لا تصدقنى لكننى أقول لك الحقيقة .. لن أمكث طويلا .. رحت أشجعه.. أكذب عليه و أشجعه.. قال فى استسلام كامل: أنا من المنصورة .. أعول ثلاثة عشر منهم أبى وأمى.. ليس لهم سواى .. حملق .. بدا أنه ينظر إلى مالا أراه وهمس: لهم الله .. لهم الله .. وكان كل ما فى الوجود يبكى إلا عينى.. رحت أواصل طمأنته.. كان علىّ أن أقوم بواجبى الأخير.. قلت له بإذن الله ستشفى لكن إن كنت تريد إبلاغ أهلك بشىء أو أن توصى بشىء أعطنى رقم تليفون أتصل به أو عنوانا أكتب إليه ..حملق فىّ لكنه لم يكن يرانى .. همس .. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. ودون حتى رجفة أسلم الروح .. مات .. لم يكن لدى أى متسع من الوقت كى أمارس فيه رفاهية التفريج عن الألم أو التعبير عنه .. انطلقت إلى سواه .. حاجز اللغة سكين يذبح التواصل..أرتب الحالات طبقا لخطورتها .. لكن هل أنا مصيب فى تقديرى لدرجة الخطورة.. أى خطأ أو سوء فى التقدير لا عاقبة له سوى الموت .. ولم يكن هناك أى وقت للإجابة عن السؤال.. كل آن و آخر كان أحد الممرضين يأتى ليطلب نجدتى لمريض من مرضى الكوليرا أو الالتهاب السحائى.. وكنت أترك المصابين وأجرى.. أصف الممكن من العلاج .. ويأتى المسعف بعد قليل ليخبرنى: هذا تحسن وذاك مات .. كنت أسمعه بأذن أما الأذن الأخرى فمع المصاب الذى أتابعه .. أحدق فى عيون الأحياء كى أقدر حالتهم وفى حدقات الموتى كى أتيقن من موتهم.. كانت العيون الميتة تبدو بلا غور.. امتزجت باللانهاية.. لم تكن العيون الميتة ميتة.. بدت تحمل إنذارا رهيبا وتحذيرا مروعا.. بدا لى أنها تحسد الأحياء جميعا فما تزال أمامهم فرص لاستدراك ما فاتهم واستدبار أمرهم..فرص للتوبة بينما هى قد عبرت الفرصة الأخيرة..بدا أنها رأت ما لا عين رأت.. وأنها تريد – لولا الموت – أن تطلق صيحة تحذير هائلة .. عرفنا الحقيقة.. تبا لكم عرفنا الحقيقة.. ذلك ما كنا عنه نحيد .. كنت أحملق في الأحداق .. كانت واسعة جدا .. وكانت تشبه فوهة بئر بلا قرار يكاد يجذبنى بقوة جاذبية الأفلاك فأوشك أن أسقط فيه..لو أن بصرى أحد لرأيت ما رأت .. ماذا رأيت أيتها العيون الميتة عند العتبة الفاصلة بين الحياة والموت.. وهذا الانطفاء فى اللمعة هل يعنى كشف غطائك وأن بصرك الآن حديد.. لا يبدو فى الأجساد الميتة أى تغير فلماذا لا تنهض واقفة؟! .. لماذا لا تنهض واقفة يا معشر الماديين والعلمانيين ولم ينقص من مادتها أى شئ.. كل ما تعترفون به لم ينقص منه شئ فماذا حدث إذن.. وهل غير المحسوس الذى ذهب أهم أم الملموس الذى بقى؟!..
أجيبوا .. قولوا…
لم تتطور أجسادكم من القرود لكنكم أضل ..
اعترفوا بأن الروح من أمر ربى…
***
بعد ستة ساعات كان الوضع قد استقر قليلا ..كان الصباح الجديد يشقشق وكان الشاهد الأبيض فوق جبل الرحمة يخطف القلب ويلوح فى الأفق تهب منه نسمات تهفو لها الروح ..
أمكن إنقاذ عشرة من المصابين ومات ثلاثة.. كدت أتجه إلى مقعد استجابة لعظام تئن ومفاصل تتفكك وعضلات ترتجف .. لكننى تذكرت على الفور فاستدركت حائرا: لكنهم كانوا أربعة عشر.. انسدل غشاء من الغباء على عقلى فلم أجد تفسيرا لذلك اللّغز الغريب لبضع ثوان لكننى سرعان ما هتفت فى لوعة وارتياع: مريض الغرفة المهجورة.. لم أتذكره ولم يذكرنى به أحد ..
جريت إليه ..
وكان راقدا بالحالة التى تركته عليها ..
لكنه كان ميتا ..
غام الأفق بل انفجر فانهرت تماما ورحت أجهش بالبكاء ..
***
لعلك تتساءل أيها القارئ لماذا أنزف هذه الذكريات و أكتبها لك..
أقول لك ..
ذلك أن شعورى إذ أكتب هذه المقالات شبيه بشعورى فى ذلك اليوم الذى مر عليه أكثر منأربعين عاما فى عرفات .. إننى أتناول فى هذه المقالات من القضايا ما أظن أنه الأخطر.. ما أعتقد أنه لم يعد يحتمل الانتظار.. لذلك تجدنى أحدثك فى اتجاه وأعدك بالمواصلة فيه لكننى سرعان ما أخلف وعدى لأنطلق إلى قضية أخرى .. أما تتابع الأحداث فتجلدنى بسياط من نار.. كشمير أولى أن تكتب عنها.. بل بورما .. بل الفليبين.. بل كوسوفا ما تزال -لأن الأطلنطى لم يذهب لنجدة المسلمين بل لترويضهم-.. بل الأقربون أولى بالمعروف فلا تنس العراق .. وضع العراق شبيه بالميئوس منه فأدرك السودان قبل التقسيم .. بل تونس بل الجزائر بل الخليج بل نجد بل المسلمين فى المهجر بل الطواغيت ووكلاء الغرب المتسلطين على كافة أرجاء عالمنا الإسلامى.. ثم يصرخ صوت يغطى على جميع ما سبقه : لا تنس مصر.. لا تجعلها كمصاب الغرفة المهجورة.. تحسب – ظلما – أن حالها أفضل من غيرها بينما هى تشرف على الموت .. تموت لا يدركها أحد .. دعك مما توحى به الظواهر.. وانظر إلى التاريخ نظرة شاملة تضرب بها آباط الأمور وتصيب كبد الحقيقة..افهم أنها لابد مرصودة فى مخططات الغرب بعد تركيا.. فهى القادرة على لمّ الشتات الذى تمزق .. لقد استمرت الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عام 1924.. عام نهاية الخلافة الإسلامية فى تركيا .. استمرت الدولة الإسلامية طيلة هذه القرون وكانت أغلب الحكومات غير إسلامية لكن الأمة كانت مسلمة والحضارة كانت مسلمة والتوجه كان إسلاميا وكان الإيمان بالله يعمر قلوب الناس فما لا يزعه القرآن يزعه السلطان حتى وإن كان هو نفسه فاجرا .. فقد كان يعلم أنه يحكم أمة مسلمة والإسلام هو سند شرعيته الوحيد .. انتهى هذا كله بكمال أتاتورك .. ولو سألتنى أيها القارئ عن فرد واحد فى هذا العالم أساء للإسلام أكثر مما أساء له أى واحد آخر لما تجاوزت إجابتى لك : كمال أتاتورك .. أكثر حتى من عبد الله بن سبأ .. كان يرجع فى أصوله إلى يهود الدونمة.. أولئك الذين فروا من محاكم التفتيش فى الأندلس بعد هزيمة المسلمين هناك .. كان الملك الأسبانى فيليب قد قرر استرقاق المسلمين الباقين فى الأندلس للعمل كعبيد فى الكنائس والبيوت الأسبانية وليقوموا بدور الحيوانات فى المزارع والجبال .. كانوا ستمائة ألف مسلم بقوا بعد القتل والتهجير والتنصير .. وتدخل السلطان العثمانى أحمد رحمه الله .. وأدرك الملك فييليب أن السلطان قد يفكر فى تجميد الجهاد فى شرق أوروبا لينقله إلى غربها .. وخوفا من ذلك تراجع عن قراره .. وأطلق الستمائة ألف فاصطحبوا معهم اليهود الذين كانوا يتعرضون لنفس المصير ..
ساح المسلمون فى أنحاء الدولة العثمانية أما اليهود فلم يجدوا فى العالم مكانا يأويهم ويحميهم إلا تركيا .. عاثوا فى البلاد فسادا وادعى أحدهم النبوة .. استثاروا المشاعر الإسلامية وعندما أحسوا أن أمرهم كاد يكتشف ادعوا دخول الإسلام فدخلوه جملة .. وكلمة الدونمة كلمة تركية تعنى المرتدين أى الذين غيروا دينهم من اليهودية إلى الإسلام تمييزا لهم عن مسلمى الأتراك أصلا..
من نسلهم كان كمال أتاتورك ..
كانت أمه غانية .. أما أبوه – فى شهادة الميلاد – فقد كان ضابطا تركيا انتحر كما يقول المؤلف التركى المجهول لكتاب: " الرجل الصنم".. وكان من أسباب انتحاره معرفته بأن كمال أتاتورك ليس ابنه بل ابن سفاح لجندى صربى..
هذا اليهودى ابن السفاح هو الذى قضى على الدولة الإسلامية..
دبر اليهود والغرب مؤامرتهم الكبرى.. ووصلوا إلى بغيتهم فى ابنهم كمال أتاتورك .. كان فاسقا عربيدا لا يكف عن السكر .. وكان قاتلا سفاحا.. لكنه غطى على كل ذلك .. وفى إطار عملية الخداع عين فقيهين مالكيين لتعليمه الدين ثم أعدمهما عندما استتب له الأمر..
ويذكر كتاب "الرجل الصنم " وهو من أهم الكتب التى تكشف سر كمال أتاتورك: "…الذى يتمعن في حركة مصطفى كمال يرى العجب في المدى الذى وصل إليه في تقليد الغرب : غير الأحرف التركية إلى الأحرف اللاتينية .. غير القيافة إلى القيافة الغربية .. غير حتى الأعياد الدينية ، وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الجمعة ، ومنع الحج .. وأباح تزويج المسلمة لغير مسلم.."
ويذكر مصطفى كمال نفسه فى كتابه " الخطابة " كيف تمكن من هدم الدولة الإسلامية وإلغاء الخلافة مسجلا فى شماتة لحظاتها الأخيرة :
( إنني أرى أن من المستحسن أن يوافق المجتمعون هنا وأعضاء المجلس وكل واحد على اعتبار هذه قضية طبيعية ، ولكن إذا حدث العكس فان هذا الأمر سينفذ أيضا وفى إطار المجرى الطبيعي ، ولكن من المحتمل أن بعض الرؤوس ستقطع .. ويجمد الجميع لدى سماعهم الجملة الأخيرة ..(..).. هيئت لائحة القانون بسرعة ، و في الجلسة الثانية للمجلس في نفس اليوم وعندما اقترح وضع اللائحة للتصويت عليها مع بيان الأسماء وقفت على المنصة معترضا وقائلا :
" لا أرى حاجة لذلك ، ذلك لأنني أعتقد بأن المجلس الموقر سيوافق بالإجماع على الأسس التي سوف تحفظ إلى الأبد استقلال الأمة والوطن".. ارتفعت الأصوات قائلة " التصويت " ! . . . و أخيرا وضع الرئيس اللائحة للتصويت ثم قال : " قبلت اللائحة بالإجماع".. ولكن سمع صوت نشاز " إنني أعارض " ولكن هذا الصوت اختفى بين الأصوات القائلة " لا يسمح بأي كلام ! " . . )
وهكذا أيها القراء جرت آخر صفحة من صفحات هدم الدولة الإسلامية الواحدة .. الدولة الإسلامية التى سبقت إلى الاتحاد قبل أوروبا بقرون.. وقد تمر قرون قبل استعادتها مرة أخرى..
سوف نعود إلى مصطفى كمال كثيرا لكننا فى هذا المقال نركز على لحظات موته .. نعود إليها فيما نشرته صحيفة الأهرام نقلا عن وثائق بريطانية.. تحت عنوان :
(كمال أتاتورك رشح سفير بريطانيا ليخلفه فى رئاسة الجمهورية التركية)
في نوفمبر 1938 كان كمال أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت ، وعلى امتداد 15 سنة حاول أتاتورك بدكتاتورية صارمة أن يجرجر تركيا رغم أنفها ويدخلها إلى القرن العشرين ، ومنع لبس الطربوش والحجاب وحطم سلطان الدين وأدخل نظام اللغة التركية بالحروف اللاتينية .
وعندما رقد أتاتورك على فراش الموت كان يخشى ألا يجد شخصا يخلفه قادرا على استمرار هذا العمل الذي بدأه فاستدعى السفير " بيرسي لورين " السفير البريطاني إلى قصر الرئاسة في استنبول . أما ما دار بينهما فقد ظل سرا أكثر من ثلاثين عاما (..) يروي لورين تفاصيل مقابلته غير المألوفة مع الدكتاتور المحتضر : " … بدأ فخامته يتحدث ببطىء ولكن بعناية شديدة وقالى لي انه أرسل في طلبي لأنه يريد أن يطلب مني طلبا عاجلا راجيا أن أعطيه جوابي عليه بطريقة قاطعة. و لقد كانت صداقتي ونصيحتى هي الوحيدة التي كان يحافظ عليها ويقدرها أكثر من أية نصيحة أخرى لأنها كانت ثابتة لا تتغير وكان هذا هو السبب الذي جعله يستشيرنى في مناسبات متعددة .. بحرية تامة كما لو كنت وزيرا فى مجلس الوزراء التركي .
وقد كان من سلطاته كرئيس للجمهورية أن يختار خليفة له قبل وفاته . وقد كانت أخلص رغبه له هو أن أخلفه في منصب الرئيس ومن ثم فقد كان يريد أن يعرف رد فعلي لهذا الاقتراح . وبعد بضع دقائق من التفكير الصامت قلت لفخامته أن جوابى هو أنني عاجز تماما عن أن أجد الكلمات التي تعبر عن مشاعرى بصدق أو بما فيه الكفاية (…) " ... وعلى ذلك فإننى لا أجد سوى أن أعتذر آسفا ، ولكن يحزم .
وعندما انتهيت من حديثي ظهرت على الرئيس علامات التأثر الشديد (…) كان رقيقا كعادته عندما أضاف انه بالرغم من خيبة أمله الشديدة فقد كان هذا هو الجواب الذي ينتظره مني ولهذا فقد قرر أن يعين عصمت إينونو بدلا مني .
وختم بيرس لورين برقيته لوزير خارجيته بقوله :
" وأكون شاكرا لو أننى تلقيت منكم يا سيادة اللورد رسالة تتضمن موافقتك على الموقف الذي اتخذته ورجائى إبلاغ الملك "
***
هذا هو الرجل – بل الشيطان - الذى ادعى فى البداية أنه يتقدم لينقذ الخلافة..
احتشدت قلوب المسلمين خلفه وهو يحارب غير مدركين أنه كان ضالعا فى المؤامرة من زمان طويل ..
من هنا كان بحثى الدائم عن كمال أتاتورك فى وجوه من حولى..
أبحث عنه فى أوجه أولئك الذين يدعون حماية الأوطان وهم بالفعل قد باعوها ..
أبحث عنه يتصدر الصفحات الأولى فى الصحف ويشكل الخبر الأول من جميع القنوات التليفزيونية الفضائية..
أبحث عنه فى عالم اغتربت عنه .. ويعود الإسلام فيه غريبا كما بدأ..
عالم رئيس أقوى دولة فيه داعر أما الدولة الثانية فرئيسها سكير..
عالم يقترف كل الرذائل ويرتكب كل الموبقات ولا يترك من الجرائم جريمة ثم لا يتورع ولا يتورع كلابه وأذنابه عن إسقاط كل جرائمه على تاريخنا الإسلامى..
أبحث عن كمال أتاتورك فى عالم يسلط الله فيه الظالم على الظالم ثم يذهب بكليهما إلى النار..
أبحث عنه مدركا أنه لم يكن شخصا بل كان منهجا ..
أبحث عنه مدركا أنهم استنسخوا منه مئات النسخ بل آلاف النسخ وربما ملايين..
أبحث عنه كامنا ومستترا فأراه فى وجه ملك خان ورئيس باع وأمير استغرب ومسئول نافق ورئيس تحرير كذب وكاتب ضلل وهو يعرف أنه مضلل..
أبحث عنه فأراه فى وجه وزير داخلية عربى يقتل زعيم معارضة فى عاصمة أوروبية ويخفى جثته.. وأراه فى جهاز أمن يذيب معارضيه فى الحامض المركز..
أبحث عنه لأراه فى وجه شيخ خان الله والدين وعبد الشيطان ثم راح يدعونا أن نتبعه .. ولم يكتف بذلك بل راح يتهم بالكفر من لم يتبعه..
أبحث عنه فى طوفان من الكذب والتضليل وقلب المعايير والتنكيل بالمبادئ والمثل والقيم العليا.. طوفان لا أدرى والله كيف أواجهه .. لأن مواجهته لا يمكن أن تتم بكتابات فرد بل تحتاج مجهود أمة تتضافر فيها جهود رؤسائها ومرءوسيها..
أبحث عنه فى وجه السفهاء الكفرة الذين أضمروا الكفر وتظاهروا بالإسلام ليخربوه من الداخل ولينكلوا برموزه ..
أبحث عنه فى وجه قاض خان الأمانة الكبرى التى استودعها الله إياه فراح يتولى القضايا وقد كتبت له الأحكام قبل أن يبدأ المحاكمة فلا يقول : كلا فإننى أخاف الله.. قاض من الثلث الذى يعلم الحق فيحكم بالباطل ..أو الثلث الذى لا يعلم الحق فيحكم بغيره ..
هل قلت الثلث؟!..
يا إلهى .. لقد فهمت الحديث النبوى الشريف خطأ .. فالرسول صلى الله وسلم حين أخبرنا عن قاض فى الجنة وقاضيين فى النار لم يكن يبين لنا النسبة بل النوع.. فالحديث ينطبق على ألف قاض ليس منهما إلا اثنين من أهل النار انطباقه على ألف قاض ليس فيهما إلا اثنين من أهل الجنة.. كيف لم أفهم ذلك منذ البداية.. وكيف لم أدرك أن النسبة لا يمكن أن تتساوى بين قضاة الخلفاء الراشدين وقضاة زماننا.. قضاة كمال أتاتورك..قضاة الشيطان..
يا إلهى .. لطالما اطمأن قلبى قبل ذلك ليقينى من أن ثلث القضاة يحكمون بالعدل.. الآن أتمعن فى التاريخ فأدرك الحقيقة.. ولقد بلغ الأمر فى عصور انتشر فيها جور القضاة حتى رأينا أحاديث تنقلها لنا كتب التراث – ولولا ذلك ما جرؤت على كتابتها – ويرى الجمهور أنها موضوعة..لكنها حتى فى هذا الإطار تصلح نموذجا لرد فعل المجتمع على فساد القضاة والأئمة.. يقول حديث من هذه الأحاديث: عن أبي هريرة رضى الله عنه ..: " عج حجر إلى الله تعالى فقال : إلهي وسيدي عبدتك كذا كذا سنة ثم جعلتني في رأس كنيف فقال أما ترضى أن عدلت بك عن مجالس القضاة"….!!..
ويقول حديث آخر في اللآلئ : " شكت مواضع النواميس إلى الله تعالى وبقاع الأرض فقالت يا رب لم تخلق بقعة أقذر مني ولا أنتن يلقى على أهل نارك وأهل معصيتك قال الجبار تبارك وتعالى اسكتي فموضع القضاة أنتن منك..!!..
ويقول حديث موضوع ثالث : "العلمــاء يحشرون مع الأنبــياء والقضاة مـع السلاطين"..
أبحث عن كمال أتاتورك فيمن وضع هذه الأحاديث وفى سلوك قضاة دفع الواضعين إلى الوضع..
وأبحث عنه فى زمان أتي على الناس هم فيه ذئاب فمن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب..
أبحث عن وجه كمال أتاتورك فى وجه نائب عام كالنائب العام الروسى .. كان كلما خان الأمانة أكثر ارتفعت مراتبه .. وكلما سرق أكثر ارتفعت مناصبه.. وكلما لفق القضايا للشرفاء أكثر ارتفعت أسهمه عند الحكومة.. والكارثة أن الفساد فى مثل هذه المناصب الحساسة لا يقتصر على فرد أو هيئة بل ينتشر كالسرطان فى جهاز الدولة كله فتباع القضايا ويبرأ الفاسدون فتجد الموظف الذى يعرف رجل الشارع العادى أنه لص يخرج من النيابة مرفوع الرأس مرهوب الجانب يحمل صك براءة مدفوع الثمن ليتقلد منصب مدير أو وزير..
وفى هذا الصدد لا أنسى أبدا ما قاله لى المستشار أحمد رفعت خفاجى ذات يوم: عليك أن تخاف تماما من الشخص الذى برأته النيابة أو الذى خرج من مستشفى الأمراض العقلية.. فالأول يحمل صك براءة والثانى يحمل شهادة رسمية بأنه عاقل.. وهاتان الشهادتان لا يحملهما أى إنسان آخر..
كان المستشار أحمد رفعت خفاجى قمة شامخة ووساما على صدر القضاء فى مصر لذلك لم يجدد له ولم تسند له وزارة ولا إمارة..
نعود إلى النائب العام الروسى الذى كان لصا .. منتشرا كالليل حذرا كالفأر..
ولولا الخلاف على المسروقات والتنافس على الغنائم ربما لظل فى منصبه أو أسندت إليه مناصب الوزارة والإمارة ولارتقى حتى يخلف يلستين فى منصب الرئيس .. فمثل هذا النائب العام هو المطلوب تماما من الغرب.. مثله لا يكتفى بهزيمة وطن قد ينهض بعد الهزيمة.. بل يدمر مجتمعا ويخرب أمه .. مثله يقوم بدور جيوش وصواريخ نووية يهلك فيها الملايين.. ووحده يهزم أمته .. فحين يدرك وكلاؤه كم فسقه وفجوره لابد أن ينحوا نحوه ويسلكوا سبيله ويتبعوا طريقه.. وإننى أختلف مع الكثيرين فى تفسير انهيار الاتحاد السوفيتى.. لأقول أنه لو صلحت النيابة والقضاء لما تفككت أوصاله كما تفككت .. فقهر الأحرار والشرفاء وتلفيق القضايا لهم هو أول الطريق إلى الهاوية .. وفى مجتمع كالمجتمع الروسى فقد كانت مهمة النائب العام ليس حماية المجتمع من الجريمة .. بل حماية الجريمة المنظمة التى يمارسها المسئولون والقادة باحتراف من الجريمة العشوائية التى يرتكبها هواة اللصوص غير المنظمين.. وهذه الجريمة التى يحميها النائب العام لا تتم فى الظلام ولا بين حثالات المجتمع بل تتم فى فنادق النجوم الخمس وفى أروقة الوزارات و أبهاء الدولة.. حيث تترك له الدولة والسلطة أن يرتشى كما يشاء وأن يسرق كما يشاء وأن يستولى على أملاك الناس كما يشاء مقابل أن يلبس لها الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل ويمكن السلطة من اقتناص أعدائها بمنتهى الخسة ..والكارثة أن أعداء السلطة هؤلاء هم أمل الأمة فى النجاة وفى الخلاص .. وهم القادرون على مواجهة الطغاة والطواغيت واللصوص والخونة … وكمال أتاتورك.. يقوم مثل هذا النائب العام بدور أشد بشاعة من قناصى البشر وأكلة لحومهم.. وترد له السلطة فضله عليها .. إذ أنها بعد إحالته للتقاعد لا تتركه يسقط فى زوايا النسيان بل تقلده مناصب أرقى يستمتع فيا أكثر بما سرقه من جاه ومال .. وخطورة مثل هذا الشخص لا تقتصر على النتائج المباشرة لفعله بل تتعداها إلى هدم القيمة المعنوية للعدل ..
النائب العام صمام أمان لمجتمعه إن صلح صلح المجتمع وإن فسد فسد.. لذلك أتصور أنه ما كان يمكن أبدا لمؤامرة كمال أتاتورك ضد الإسلام والمسلمين أن تنجح لو كان النائب العام للدولة العثمانية صالحا ..
***
أبحث عن كمال أتاتورك بين أولئك العلمانيين الذين لا يمنعهم عن إدانة الكفر سوى أن البديل الوحيد هو الإيمان بالله..يقول السير آرثر كيث:
" إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه.. "!!..
تستطيع أيها القارئ أن تستبدل الماركسية أو النازية أو النظام العالمى الجديد بـ: "نظرية النشوء والارتقاء" ..
إن موقفهم ليس مع.. بل ضد .. وضد الإسلام تحديدا.. وهم فى سبيل ذلك لا يتركون مجالا لتزييف الوعى واستنزاف الذاكرة إلا سلكوه..
***
ابحث معى أيها القارئ عن الشيطان.. فجهدى قاصر..ابحث عنه حيث لا تتوقعه أبدا ..
لقد علمتنى الغرفة المهجورة أن الحريص – حين يؤتى – يؤتى من مأمن..
وعلمنى كمال أتاتورك أن الحية الرقطاء -حين تلدغ- تخرج من مكمن..
وتعلمت أن الخطر حين يأتى لا يأتى مواجهة ولا فجأة.. بل يتسلل وئيدا وئيدا حتى تكون لحظة الإدراك نفسها هى لحظة الغرق.. وأن الشيطان حين يدعونا لايأتينا بقرونه بل يتقلد عمامة أو يلبس قبعة أو يتشح بوشاح رجل قانون أو يلبس عباءة ملك أو يمسك بقلم رئيس تحرير( أو نائبه!) .. وأنه فقط فى اللحظات الأخيرة.. حين نكون قد فقدنا كل فرصة للفهم أو للمواجهة يسفر عن قرونه وحافره المشقوق.. لتكون صورته تلك.. هى التى تتسع لها أحداقنا من الهول عند الموت!!..
****
المؤامرة مستمرة …
نفس الخطة ونفس التفاصيل …
فانظروا إلى الماضى واقرؤوا ما سوف يحدث لنا غدا ….
كانت الدولة العثمانية تلم شمل معظم المسلمين … وكانت الدولة الصفوية فى إيران والدولة المغولية المسلمة فى الهند تلم شمل الباقين… وفى نفس الوقت بدأت الضربات الهائلة للإمبراطوريات الثلاث … فككوا الدولة العثمانية إلى ثلاثين دولة هى: رومانيا بلغاريا اليونان ألبانيا يوغسلافيا المجر قبرص تشيكوسلوفاكيا مصر الأردن السعودية جيبوتى الصومال ليبيا تونس الجزائر المغرب موريتانيا سوريا لبنان العراق السودان الكويت الإمارات العربية عمان قطر البحرين اليمن فلسطين…
فككوا دولتنا ثم راحوا هم يتوحدون..
***
لقد كان منطقيا أن ننتقد ونرفض تخلف وظلم وبطش نظام الحكم فى الدولة العثمانية، واضعين فى الاعتبار كيف قلب عباد الشيطان الصورة، لقد تعرضت الدولة العثمانية لنفس القدر من التشويه، وبرغم كل ذلك، حتى لو صدق ما قالوه، فقد كان على مشاعرنا أن تتوجه ضد ظلم مؤسسة الحكم لا وحدة الدولة… لأن ما حدث يشبه تماما أن يسوغ لنا اختلافنا وانتقادنا لنظام الحكم فى مصر أن نطالب بتقسيمها إلى دول …و أن تطالب المحافظات بالانفصال عن القاهرة…
تاريخهم المجرم الذى تعدل مناهجنا الدراسية كى توافقه يغفل أن تركيا فى مطلع هذا القرن كانت قد أصبحت دولة عربية!! وحتى عهد كمال أتاتورك كان تعدادها 32 مليون نسمة منهم عشرة ملايين عربى وسبعة ملايين ونصف المليون من الأتراك والباقى جنسيات أخرى…أثار الغرب أيامها النعرات القومية مشجعا القومية… ثم سحق القومية رافعا لواء الوطنية … ثم هاهو ذا يسحق الأوطان …
لقد لعب اليهود- خاصة يهود الدونمة الأتراك - دورا هائلا فى انهيار الدولة العثمانية … وكان من دوافعهم القوية لذلك – بالإضافة إلى الدافع التاريخى- هو إدراكهم أنه لا يمكن الاستيلاء على فلسطين ما دامت الدولة العثمانية قائمة… ولقد كان انفراط الدولة هو أساس الكوارث التى نواجهها الآن فى فلسطين وفى العراق وفى البوسنة والهرسك وكوسوفا … بقى أن نعرف أن يهود الدونمة هم اليهود الذين ساهموا فى انهيار الأندلس ثم فروا إلى تركيا مستغلين سماحة الإسلام ثم أخذوا ينخرون فيها كالسوس حتى انهارت …
صبيان زويمر وتلاميذ دنلوب وجنود كرومر سيصرخون متأففين من أى كلمة حق نجرؤ على قولها فى الدولة الإسلامية الواحدة ولهم نقول أن هنالك الكثيرين …منهم مثلا المؤرخ بول كولز ( هو أمريكى يا رواد التنوير فقعوا له ساجدين ) يستعملون كلمة العثمانيين بالتبادل مع كلمة المسلمين كمترادفتين.. !!
***
لم يكن خلفاء بنى عثمان إذن نماذج للخليفة المسلم … ولم تكن خلافة إسلامية لكنها كانت دولة للمسلمين يمكن تطويرها حتى تعود خلافة كالخلافة الأولى … إلا أننى برغم نقمتى على خلفاء بنى عثمان أرى أن الظلم الذى شوه سمعتهم فى التاريخ قل أن يوجد له نظير ، كان منهم الصالح والطالح … لكن شياطين الغرب جعلوا منهم غيلانا مفترسة ونموذجا للطغيان والتخلف والقهر… ولم يكونوا كذلك .. بل كانوا على الرغم من كل عيوبهم أفضل بكثير من كل أقرانهم فى العالم … شياطين الغرب المغرمون بالإحصاء لم يقدموا لنا على سبيل المثال إحصائية بعدد ضحايا المصريين تحت الحكم العثمانى فى أربعة قرون وعدد ضحايانا فى ثلاث سنوات من الغزو الفرنسى … شياطين الغرب الذين مزقوا كل ممزق سمعة كل خلفاء بنى عثمان رفعوا إلى عنان السماء الزنديق كمال أتاتورك تماما كما جعلوا من المنشق الكوسوفى اسكندر بيه بطلا عالميا اعترفت به الكنيسة رغم أنه مسلم لمجرد أنه انشق على الدولة العثمانية…
دعونى أذكركم يا قراء مرة أخرى أنهم فى الغرب كانوا يستعملون كلمات : الإسلامية والعثمانية والتركية كمترادفات ومسميات مختلفة لمعنى واحد …
***
كنت أريد أن أتناول كمال أتاتورك بالوصف والتحليل والمتابعة وأن أترك القارئ يدرك معى أن بعض حكامنا هم كمال أتاتورك وأن فكرهم هو فكره…
كنت أريد أن أسرد ما فعله كمال أتاتورك فى مؤامرة القضاء على الخلافة الإسلامية : ألغى الخلافة و أعلن الجمهورية وتنكر لكل القيم الإسلامية وحذف من الدستور أن دين الدولة هو الإسلام وأمر بلبس القبعة مكان العمامة و أباح زواج المسلمات من غير المسلمين ومنع الحج وجعل الأحد إجازة رسمية و أباح الخمر والبغاء ثم أمر واضع الدستور أن يصدره بالعبارة التالية: القرآن دستور البداوة…
سلم الكماليون مسجد أيا صوفيا إلى الكنيسة فنزعت منه آيات القرآن وأعيدت صور القديسين والصلبان..
لقد كان رئيس تركيا فى مؤتمر لوزان حاخاما يهوديا... وعن طريق محكمة الاستقلال ، لاحظ عكس المعانى فلا هى محكمة ولا هو استقلال ) .. أجبر أتاتورك الشعب على لبس القبعات والفتيات على الرقص مع الفتيان وجاهر بشرب الخمر فى نهار رمضان، ولما رفض الشعب التركى ذلك حكمت المحكمة على مئات المسلمين بالشنق والسجن والرمى بالرصاص...
بدل أتاتورك الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية وأمر بالأذان بالتركية.. ثم تبلغ ذروة وقاحته وتهجمه على القرآن يوم افتتاح مجلس الشعب، ( ترى ما هى ملابسات تغيير الاسم فى مصر من مجلس الأمة إلى مجلس الشعب) و إعلان الجمهورية إذ يقول: نحن الآن فى القرن العشرين، ولا نستطيع أن نسير وراء كتاب يبحث فى التين والزيتون" .. (ترى هل يختلف موقفه عن موقف بعض حكامنا غير المعلن؟! … وهل يختلف ذلك عن سياسة تجفيف المنابع)..
كنت أريد أن أتحدث عن تدهور تركيا يوما بعد يوم …
لم تنقذها سياسة أتاتورك ولا خيانته لله والأمة..
وهى اليوم مثلنا تماما مهددة بالتقسيم والتفتت..
كنت أريد يا قراء أن أنبهكم أن غسيل المخ بلغ بنا المدى الذى أصبحنا فيه ننبهر بالخيانة …
لم نحاول أن نربط أجزاء الصورة لنفهم وندرك فطفقنا على سبيل المثال نشيد بكتاب على عبد الرازق :" الإسلام و أصول الحكم " الذى لم يكن صدوره بعد انهيار الدولة الإسلامية بعام واحد مجرد صدفة ... لا … بل كان تعضيدا للإنجليز لهدم دولة المسلمين المحورية... كان الإنجليز قبلها بنصف قرن قد أخذوا يبثون العصبيات القبلية والقومية كى تأكل نيرانها الدولة الإسلامية الواحدة … وكانوا قد وعدوا كل قومية بالاستقلال … كما وعدوا الشريف حسين بتكوين الدولة القومية العربية الكبرى كدولة محورية للمسلمين إن هو ساعدهم على هدم الدولة الإسلامية فى تركيا … وبلعنا الطعم … وجاء أوان تنفيذ وعد لم تكن بريطانيا تنوى أبدا تنفيذه … كان حنثها بكل الوعود قد جاوز كل الحدود وكانت تحتاج إلى محلل منا فتقدم الشيخ على عبد الرازق ليفتى أن الإسلام ليس دولة ولا يحق أن يكون له دولة …
لم نحاول كما لم يحاول الاتجاه القومى أن يفهم .. ووجدنا على سبيل المثال الكارثة من قال عن رجال ثورة يوليو52 بأنهم كانوا يستلهمون فكر كمال أتاتورك بل ويعتبره بعضهم مثلا يحتذى … لقد اعتذرت ذات يوم لهم بأن ثقافتهم المحدودة لم تترك لهم المجال ليفهموا … لكننى صرخت من الألم عندما وجدت حتى مصطفى النحاس ... الزعيم الوطنى العظيم والسياسى القدير يمجد ما فعله كمال أتاتورك فيقول : ".... ولست أعجب فحسب لعبقريته السياسية بل أعجب أيضا لعبقريته الخالقة وفهمه لمفهوم الدولة الحديثة التى تستطيع وحدها فى الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وتنمو …" فيرد عليه الإمام حسن البنا قائلا: " هل يفهم من هذا التصريح أن دولة النحاس باشا - وهو الزعيم المسلم الرشيد - يوافق على أن يكون الأخذ بعد الانتهاء من القضية السياسية ببرنامج كالبرنامج الكمالى يبدل كل الأوضاع فيها ويقصيها عن الشرق والإسلام ويسقط من يدها لواء الزعامة... لقد كان من أعز الأمانى أن يؤيدكم الله فيؤيد بكم الدين والأخلاق ..."…
يا إلهى …
إذا كان غفراننا قد اتسع لكل ذلك وإذا كان تسامحنا امتد حتى يشمل حتى كل أعدائنا فلماذا لم نسامح من نطلق عليهم الإسلاميين …
حتى الغزوة الفرنسية سامحناها بل ورحنا نحتفل بها وهى التى قتلت من شعبنا ثلاثمائة ألف عندما كان تعداده مليونين … فكأنما ضحايانا بمقاييس اليوم تقارب عشرة ملايين شهيد … ومع ذلك سامحناها بل واحتفلنا بها … سامحنا أيضا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل التى ما تزال تحتل أرضنا وتمزقنا كل ممزق ورحنا نتحاور معها … لكن كل تسامحنا قد نضب مع أخطاء الجماعات الإسلامية …
كنت أريد أن أتناول بالتفصيل كل ذلك قبل أن تنطلق منى الصرخة : ليس إرهابا وليسوا إرهابيين لكن الصرخة كانت أقوى…
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق