الاثنين، 11 أبريل 2016

هل سينتقل الصراع بين السلطان والقيصر إلى القوقاز؟

هل سينتقل الصراع بين السلطان والقيصر إلى القوقاز؟



شريف عبدلعزيز
48 ساعة فقط ، اشتعلت فيها حرب صغيرة لها جذور كبيرة ، ولكنها ذات أبعاد خطيرة .
فجأة ودونما سابق إنذار، اندلعت اشتباكات مسلحة بين أذربيجان وأرمينيا، داخل إقليم ناجورنو كاراباخ، المتنازع عليه بينهما منذ عقود طويلة.
بدأت الحرب الصغيرة بهجمات شنتها القوات المسلحة الأذرية يوم الجمعة الماضي على القوة المسلحة الرسمية لما يُعرف بجمهورية مرتفعات كاراباخ، وهي جمهورية مستقلة غير معترف بها، تقع في منطقة كاراباخ جنوب منطقة القوقاز، وتبعد حوالي 170 ميلاً من العاصمة الأذربيجانية باكو، وقريبة أيضا من الحدود الأرمينية مع أذربيجان .
وكما بدأت الأزمة فجأة، توقفت فجأة بإعلان أذربيجان عن وقف إطلاق النار من جانب واحد، صباح يوم الأحد، الثالث من أبريل .
الاشتباكات استغرقت أقل من ثمان وأربعين ساعة، إلا أن لها الكثير من الدلالات والأبعاد، وسيكون لها العديد من التداعيات في إطار هذا الذي يجري في الشرق الأوسط، وما يتفاعل على أصعدته من تطورات تتعلق بصدامات عدة ومعقدة بين قوى إقليمية ودولية عدة .وبالرغم من هذه السويعات القليلة التي استغرقتها العمليات، إلا أنها تبقى واحدة من أهم علامات التصعيد وخروج الأزمات الراهنة في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الحيوي .
فهل ما جرى بين أذربيجان وأرمينيا ارتداد طبيعي من ارتدادات الذاكرة التاريخية المليئة بصور العداء والخلاف العرقي والديني بين البلدين ؟
أم أنه صورة جديدة من صور الحرب بالوكالة في أشد مناطق العالم التهابا ، وعبور لهذه الحرب من البيئة السورية إلى بيئة ناجورنو كاراباخ المثالية لمثل هذا النوع من الحروب المدمرة ؟!
تاريخ مأزوم وواقع ملتبس:
ناجورني أو ناجورنو كلمة روسية تعني مرتفعات وتعني في الوقت نفسه جبال،أما كلمة كاراباخ أو قره باخ فتعني الحديقة السوداء، أي أن ناجورني قره باغ هي ترجمة لمرتفعات الحديقة السوداء ، ويطلق الأرمن الذين يعيشون في الإقليم عليها اسم "آرتساخ" وهي كلمة مكونة من مقطعين الأول "آر" نسبة إلى "آرا" إله الشمس عند الأرمن القدماء، و"تساخ" وتعني غابة أو كرمة.وبذلك تعني كلمة "آرتساخ" غابة أو كرمة الإله "آرا " .
أما الآذر فيعرفونها باسم "يوخاري قره باغ"، أو "قره باغ العليا" بالمعنى الحرفي. يقدر عدد سكان ناجورنو كاراباخ بـ145 ألف نسمة، 95% منهم أرمن والـ5% الباقية من أعراق أخرى. 
ونظرا لموقعها الجغرافي وكونها نقطة التقاء بين الإمبراطورية العثمانية والفارسية والروسية فقد شهد هذا الإقليم عددا كبيرا من الحروب وتنقلات وعمليات هجرة ونزوح بين السكان، لذا فليس مستغربا في التاريخ الديمغرافي لناجورنو كارابخ أن تكون إحدى الجماعات العرقية أو الشعوب في قرن من القرون أغلبية وفي قرن آخر أقلية ، وكان أغلب الأذر في ناجورنو كاراباخ قبل التهجير، من المسلمين الشيعة وبينهم بعض السنة الأكراد. أما الأرمن فهم مسيحيون ينقسمون مذهبيا بين الكاثوليكية والأرثوذكسية .
روح العداء بين الأرمن والآذر في منطقة القوقاز قديمة ولها أسبابها العرقية والدينية والتاريخية، وبالأخص إبان بسط الإمبراطورية العثمانية سيطرتها على تلك المناطق قبل عدة قرون. لكن بوادر تفجر الصراع في إقليم ناجورنو كاراباخ تحديدا تعود إلى العشرينيات من القرن الماضي، بسبب سياسة رئيس الاتحاد السوفيتي السابق جوزيف ستالين التي تقوم على بث الفرقة بين الجماعات العرقية داخل جمهوريات الاتحاد المترامية الأطراف، لتظل تلك الأعراق بحاجة دائمة إلى حماية الحكومة المركزية في موسكو . 
ولأن أذربيجان وأرمينيا كانتا جمهوريتين تابعتين للاتحاد السوفيتي فإن ستالين أقدم عام 1923 على ضم إقليم ناجورنو كاراباخ إداريا إلى جمهورية أرمينيا، رغم أنه يقع كما سبق القول في قلب أذربيجان ، وفي المقابل -ولكي تتم سياسة تأجيج الصراع العرقي- فقد ضم ستالين إداريا منطقة ناختشيفان التي تقع جغرافيا في قلب أرمينيا وتسكنها أغلبية أذرية إلى أذربيجان، وبهذا بدأ الصراع في الإقليم واستمر.
وفي عام 1988 وتحديدا في العشرين من فبراير كان إقليم ناجورنو كاراباخ بأكمله يقف عند مفترق طرق ، ففي ذاك اليوم طلب قادة الإقليم من موسكو الموافقة على انضمام الإقليم نهائيا إلى أرمينيا. هنا سارع النواب الأذر الممثلون في مجلس الدوما إلى الاعتراض، فتوترت الأجواء وتحول الحقد التاريخي المكتوم إلى أعمال عنف سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية في الإقليم سقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى من الطرفين.
 استمرت الحرب الضروس أكثر من أربعة أعوام بين كل من أذربيحان وأرمينيا، في الفترة ما بين عامَيْ 1988م، و1994م، وأدت لسقوط ثلاثين ألف قتيل، ونزوح مئات آلاف الأشخاص غالبيتهم من الأذريين، وسيطرة الأرمن الذين يشكلون غالبية في الإقليم، على أراضيه ، وتوقفت الحرب بالتوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في العام 1994م، ولكن لم يتم التوقيع على اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا .
في هذه الحرب المشئومة ساندت روسيا بدافع ديني محض الأرمن ، كما ساندهم بدافع اقتصادي وبرجماتي بغيض إيران على الرغم من كون الآذريين شيعة اثنى عشرية !! ، وفي المقابل دعمت تركيا أذربيجان بدافع قومي ودافع جيوسياسي .

حروب الوكالة بين الروس والأتراك:
الأزمة السورية وما قبلها من الأزمات التي اندلعت عقب ثورات الربيع العربي أتت في سياق تصعيد دولي كبير، وقادت إلى حزمة من النتائج على رأسها وأهمها، تعقيد الأزمات والصراعات بشكل وسَّع من نطاق الحرب الراهنة في الشرق الأوسط، وتدويلها إلى مستويات عالمية .
واستغلت أمريكا ردود أفعال النظم الحاكمة من أجل تمرير مشروع الفوضى الهدامة الذي ترعاه الولايات المتحدة والتحالف الأنجلو ساكسوني، في العالم العربي والإسلامي، وتخطط له منذ فترة طويلة. وأصبح الميدان السوري مثل حلبة المصارعة التي يتصارع عليها العديد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة .
فمع وصول الصواريخ المضادة للدبابات أمريكية الصنع إلى بعض الجماعات السورية المعارضة المسلحة، ومع قصف المقاتلات الروسية لهؤلاء المسلحين أنفسهم بالتوزاي مع تزويدها لنظام بشار الأسد بأنظمة صواريخ مضادة للطائرات، يبدو من السهل للغاية أن نصف المعركة في سورية على أنها حرب بالوكالة .
مصطلح "حرب الوكالة" يستحضر إلى الأذهان صورًا من الحرب الباردة، عندما كانت القوى الخارجية، وبالتحديد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأيضًا القوى الإقليمية، يعاملون المقاتلين المحليين كبيادق على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، وفي سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، أصبحت عدة من حروب العصابات في أمريكا اللاتينية صراعات بحكم الأمر الواقع ما بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وذات الأمر ينطبق على الحروب في أنغولا وتشاد وفيتنام . في ذاك الوقت، لم يكن من المتصور أن تنخرط واشنطن وموسكو بحرب تقليدية، وكذلك اليوم من الصعب أن نتصور أن تدخل الولايات المتحدة وروسيا بحرب بينهما،وعلى أرض الواقع،حروب الوكالة هي الحل الأنسب عندما تكون تكاليف الحرب التقليدية ما بين الدول مرتفعة للغاية.
صراعات الوكالة أيضًا تنشب في الدول الضعيفة أو الفاشلة التي تتميز بحدودها سهلة الاختراق،حيث تفتقر هذه الدول الهشة إلى القوة اللازمة لإخماد التمرد من دون دعم خارجي، وبالمقابل لا يستطيع المتمردون مجابهة الأنظمة الضعيفة بدون إمداد بالأسلحة من الخارج أو ملاذات آمنة يتم تأسيسها عبر الحدود، والحروب الأهلية في نيكاراجوا وأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي تعد مثالًا واضحًا على ذلك.
ولكن هذا الافتراض قد ينعكس تمامًا؛ ففي الواقع، الجهات الفاعلة المحلية في العديد من حروب الوكالة هي التي تتلاعب بالقوى الخارجية الداعمة لها، وليس العكس، حيث يعدّل الثوار رسائلهم لتتماشى مع الثقل الإقليمي، مما يؤدي لخلق نوع من حرب المزايدة بين الفصائل المتمردة ، وهو حدث بالفعل في سوريا .
فقد عمد الطاغية بشار الأسد إلى تصوير النظام السوري باعتباره حصنًا علمانيًا ضد التعصب السني، مما ساعده على استقطاب الدعم العسكري من روسيا وإيران وأوروبا ، وبعد إصابة جيشه بسلسلة من النكسات العسكرية في عام 2012، عمد الأسد، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تضخيم التهديد الجهادي لتحفيز روسيا وإيران لإرسال المزيد من الأسلحة والأموال وجنود المشاة، بالمثل، فإن الثوار السوريين، استطاعوا تأمين التدفق المستمر للأموال والأسلحة وغيرها من المساعدات من دول الخليج وتركيا ، من خلال إعادة تركيب صراعهم ليتناسب مع الطروحات الأكبر للصراعات الطائفية في المنطقة.
فقد قاد التدخل الروسي إلى أزمة عميقة بين تركيا وروسيا، وربما الصراع الحالي من تحت السطح بين الجانبين هو الأخطر على المنطقة بأسرها، لأن خروجه عن ضوابطه وحدوده، قد يقود إلى حرب عالمية بالفعل، في ظل تربص أطراف عدة من خارج المنطقة بكلا البلدين ، بعد قلبها لموازين الصراع الدولي الحالي الذي أخذ مجاله في منطقتها، الذي تُعتبر الأزمة السورية أبرز ساحة له، وأكثرها دموية وخطورة ، وكذلك في ظل تربص روسيا بحلف شمال الأطلنطي "الناتو" الذي يحمي تركيا رسميًا ضد أي اعتداء عسكري خارجي، وحركته في تخوم روسيا الجيوسياسية، كما في شرق أوروبا، والأزمات الراهنة هناك، مثل أوكرانيا، وحائط الصواريخ الذي وصل إلى بولندا على حدود روسيا، خير دليل على ذلك .
تركيا ومنذ بدء التدخل الروسي في سوريا، كانت في عين الاستهداف، وبالتالي الاستفزاز الروسي في الأجواء وعلى الأرض لا ينقطع ليل نهار بغية الاقدام والتورط في عمل مباشر يحول الصراع إلى العالمية ، في ظل كون تركيا العامل الأهم في استمرار الفصائل السورية المقاتلة المعارضة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد - الذي تدعمه موسكو - على قيد الحياة؛ حيث هي المعبر الرئيسي للمقاتلين والسلاح.
ثم كانت حادثة إسقاط السوخوي الروسية التي كان من الأفضل عدم حدوثها ، لولا أجواء الاستفزاز الروسي اليومية والتي دفعت الأتراك لفقدان أعصابهم والاقدام على إسقاط الطائرة ، وهو الذي يعتبر في الأعراف الدولية ؛ إعلان حرب .
 كانت هذه النقطة، هي بداية صراع مفتوح بين أنقرة وموسكو، كان له تداعيات شبه يومية من عقوبات اقتصادية روسية واسعة النطاق ضد تركيا، مع المزيد من الإجراءات في الملف الكردي، وصل إلى ذروته في العاشر من فبراير الماضي، عندما وافقت الحكومة الروسية على فتح ممثلية لأكراد سوريا في موسكو ، ثم إجهاض مشاريع التدخل العسكري التركي في شمال سوريا ، وإجهاض فكرة المنطقة العازلة ، فردت تركيا بمنع مشاركة الأكراد في مفاوضات "جنيف 3" ، و"جنيف 4" ، فرد الروس بدعم لإعلان الأكراد الادارة الذاتية في شمال سوريا أو ما يعرف بدويلة روج آفا .
وبعد الانسحاب الروسي المفاجئ من سوريا كان من الطبيعي أن ينتقل الصراع إلى جبهة أخرى في المدى الاستراتيجي للبلدين ، وأن تجد حروب الوكالة طريقها إلى أرض جديدة بلاعبين جدد ، فكان اندلاع حرب ناجورنو كاراباخ الذي يبدو للوهلة الأولى أنه مفاجئا وغير مبرر ، ولكنه جرى ما يؤكد على أنه صورة من صور الحرب بالوكالة بين الروس والأتراك .
فقد قام الروس بإرسال مقاتلات حربية ومروحيات حديثة إلى قاعدتها العسكرية في أرمينيا ضمن خطط لتعزيز وجودها العسكري هناك، وذلك في النصف من فبراير مع التزامن مع الإعلان عن تأسيس الحلف الإسلامي للتدخل في سوريا . وكأن روسيا كانت تحضر لعمل عسكري ما في مجالات تركيا الشرقية ،في المقابل استغل الأتراك الذكرى ال24 لمجزرة خوجالي التي ارتكبها الجيش الأرمني بحق مدنيين عزل من الآذريين وراح ضحيتها 631 مسلم ، للتأكيد على دعم تركيا لأذربيجان ، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان:"إن مجزرة خوجالي، حادثة هامة تستوجب من الإنسانية استخلاص الدروس والعبر منها، ومأساة تقتضي من البشرية محاسبة ضميرها عليها ،وأن تركيا لن تنسَ، معالم هذه المجزرة غير الإنسانية، ولن تندمل الجراح التي ألمت بقلوبنا، بسببها، مشيرًا أن بلاده، والشعب التركي، يشاطرون الآذاريين "كما جدد أردوغان، مطالبه بـانسحاب الجيش الأرميني، من الأراضي التي احتلها قبل نحو ربع قرن، في أسرع وقت ممكن"، مؤكدًا أن بلاده ستقف دومًا كما كانت، مع أشقائنا الآذاريين، في مطالبهم المشروعة ".
وقد شهدت الفترة من 31 مايو إلى 10 يونيو 2015م، تصاعدًا في مؤشرات التعاون العسكري بين تركيا وكل من وجورجيا وأذربيجان، وكلاهما من خصوم موسكو؛ حيث قامت قوات عسكرية تركية وجورجية وأذرية بسلسلة من المناورات العسكرية المشتركة غرب تركيا أطلق عليها اسم "نسر القوقاز".
وهو ما فسره مراقبون على أنه امتداد لذراع تركيا في أزمات تخص روسيا في شرق أوروبا، كما في القرم التي لا تعترف أنقرة بضم موسكو لها في مارس 2014م . وتركيا تسعى منذ ولاية أردوجات للعب دور الدولة الأم أو الدولة المهيمنة ، التي تدعم البلدان والكيانات التي تضم عرقيات تركية، وتضع ذلك على رأس أولويات سياساتها الخارجية كدولة أممية ذات جوار جيوسياسي حيوي لا تفصله عن حدود أمنها القومي المباشر. تماما مثلما تفعل إسرائيل مع يهود العالم ، وإيران مع شيعة العالم .
الصراع بين القيصر الروسي والسلطان العثماني لن يهدأ في المرحلة القادمة ، وهو يتطور يوما بعد يوما ،ويخرج من إطره الاقليمية ويمتد إلى الجبهة التي يتخوف منها الروس كثيرا ؛ جبهة القوقاز ، والتي ينحدر منها معظم المقاتلين الأجانب في سوريا ، وهم يرون جهادهم في سوريا نوعا من التدريب على الحرب الحقيقية ، وهي الحرب ضد روسيا الصليبية في القوقاز ، وتركيا تعلم أن روسيا ستحاول اللتفاف حول جبهة القوقاز لمنع امتداد الصراع إلى قلبها ، لذلك فهي تستغل الصراع لصالحها بما ينذر بالعديد من العواقب والتطورات التي قد تخرج الموقف عن السيطرة، خصوصا لو تحولت الأزمة إلى عداء صريح مسلح بين الطرفين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق