الأحد، 24 أبريل 2016

كيف نفهم التقارب التركي الإيراني الأخير؟

كيف نفهم التقارب التركي الإيراني الأخير؟



شريف عبدالعزيز

لم يعد هناك ثمة ثوابت أو خطوط حمراء في ساحة الأحداث ، أمام تسوماني التغييرات الإقليمية والدولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع ثورات الربيع العربي ، فلا أحلاف قديمة أو علاقات تاريخية أو شراكات إستراتيجية ، ولا حتى وحدة قومية أو طائفية  عادت تبقى أو تصمد أمام الأحداث ، لم يبق شيء على حاله ، فالطوفان قد جرف أمامه كل الثوابت والأحلاف الراسخة منذ عشرات السنين ، الحليف أصبح خصما ، والعدو أصبح صديقا ، والشريك أصبح منافسا ، وأصبح الجميع أمام سوق الأحداث الملتهبة يلهثون بحثا عن مصالحها الداخلية وأمنهم القومي.

في الوقت الذي كان بيان القمة الختامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمنعقد في أنقرة يندد بالتدخلات الإيرانية في شئون دول المنطقة ويوجه انتقادات حادة لحكومة طهران على دورها الطائفي في اليمن ولبنان وسوريا والبحرين ، كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يستعد مع طاقمه المساعد لتوقيع حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية الهامة مع الجانب التركي في اليوم التالي لبيان القمة الختامي ، اتفاقيات بلغت قيمتها أكثر من خمسة عشر مليار دولار ، كأن تركيا تركت السعودية تضغط في هذا الاتجاه على إيران بالصورة النهائية التي خرج عليها البيان الختامي، ولكنها ليست بالضرورة تبنيًا لما جاء فيه،فكيف يمكن أن نفهم هذا الموقف التركي الذي يبدو للكثيرين أنه متناقض ، وكيف نفهم هذا التقارب التركي الإيراني الأخير ، والذي بدأ بزيارة أوغلو لطهران في مارس الماضي وما تلا ذلك من صفقات؟!
حتى نفهم هذا التقارب التركي الإيراني الأخير ، لابد من معرفة تطور العلاقات التركية مع البلدين ،والتطورات السياسية الإقليمية في الشهور الأخيرة ، والدور الغربي والأمريكي الواضح في تحجيم تركيا ومحاصرتها .

تركيا بين السعودية وإيران:
منذ اندلاع الربيع العربي، اتسعت الهوة بين تركيا والسعودية بشكل كبير حيال ملفات عدة، ودعم مطالب الربيع بشكل عام، والتي أعلن عنها وزير الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو صراحة حين قال بأن سياسة تركيا في الشرق الأوسط ستدعم مطالب الديمقراطية والشرعية الشعبية، وهاجم الأنظمة العتيقة الحاكمة لقمعها لمطالب شعوبها.
ثم ازدادت الهوة مرة أخرى بعد أحداث 3 يوليو 2013، حيث انحازت أنقرة بقوة لصالح المعارضة بينما ظهرت الرياض كأبرز داعم للنظام الجديد، كما ظهرت اختلافات واضحة حيال الملف السوري رُغم اتفاق الطرفان على ضرورة سقوط بشار الأسد ، وصار كل طرف يدعم فريقا من المعارضة السورية.
وبوصول الملك سلمان للحكم حدث تغير كبير في الموقف السعودي من ملفات عدة، وكان ذلك فاتحة عهد التقارب التركي السعودي ، حيث حرصت تركيا على اقتناص تلك اللحظة السعودية لتعزيز الأواصر مع الرياض في سبيل ترسيخ ذلك التوجه الجديد الأكثر وعيا بمصالح الأمة العليا والأكثر ابتعادا عن نقاط الخلاف . 
وبالفعل بدأت ترجمة هذا التقارب بدعم تركيا لعاصفة الحزم ، وتنديدها بالدور الإيراني التفتيتي في سوريا والبحرين واليمن ، وقام أردوجان بزيارة الرياض أكثر من مرة ، وهو ما رآه كثير من المراقبين أن انضماما تركيا للمعسكر السني المزعم تأسيسه من قبل السعودية – أو على الأقل هذا ظنوا – غير أن حقيقة الأمر أنها كانت محاولة تركية لدعم التوجهات الجديدة في الرياض لصالح الاستراتيجية التركية في المنطقة، وهو ما يعني أن إعلان تركيا عن دعمها لعاصفة الحزم لم يكن سوى محاولة لكسب ود الرياض لن تتطور أبدًا إلى مشاركة تركية حقيقة بوجه إيران أو حلفائها، خاصة وأن وصول إيران إلى البحر الأحمر يُعَد مرفوضًا في أنقرة، وتجاوزًا للدور الإيراني التاريخي المعتاد في مساحاته المعروفة في المشرق.
أما الموقف التركي من إيران فهو موقف تاريخي متطور بحيث كثيرا ما دخلت تركيا في نزاعات مع إيران ، لكن كل منهما يعلم حدوده في هذا النزاع بحيث لا يمكن أن يتطور ويتخطى حد معين، وهو الأمر الذي ظهر في الصراع السوري الذي اختلفت فيه وجهتا نظر الدولتين تمامًا ، وعلى عكس ما قد يظن كثيرون في تلك اللحظة، لطالما نظرت تركيا لإيران بشكل مختلف تمامًا عن السعودية، فرغم العداوة التاريخية بين البلدين والتي امتدت على مدار قرون الحكم العثماني في تركيا والصفوي في إيران، إلا أن الموقف التركي الذي تبنته أنقرة منذ بدء حكم العدالة والتنمية كان براجماتيًا، ولم يلتفت على الإطلاق لأي اختلافات طائفية أو أيديولوجية بين البلدين، بل عمق الروابط التجارية بشكل لافت سبب أحيانًا المشاكل لتركيا مع الولايات المتحدة التي ضغطت كثيرًا ليلتزم الأتراك بالعقوبات الدولية على إيران.

فتركيا تدرك أن الجغرافيا والتاريخ يمنحان لإيران دورًا كبيرًا في المنطقة مثلما يمنحانها، وهي لا تحاول أن تقوضه أو تحتويه، ولكن أن تخلق توازنًا يسمح لكل طرف بلعب دوره دون أن يطغى على الآخر، وهو ما جاء بوضوح في كتاب العُمق الاستراتيجي لرئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو وهو يعتبر المنظر الحقيقي لسياسات تركيا الخارجية تحت ظل حكومة العدالة والتنمية.
تركيا أيضا تدرك أنها لا يمكن تاريخيا وجغرافيا أن تعادي الروس والإيرانيين في نفس الوقت، فالروس يضخون لتركيا سنويًا حوالي 50% من احتياجاتها من الغاز، في حين يضخ لها الإيرانيون حوالي 20%، وبالنظر للتوتر الواضح في العلاقات الروسية التركية لأسباب عدة كالملف السوري والأوكراني، والتنافس التاريخي بينهما في آسيا الوسطى، والتفاوت في القوة بطبيعة الحال، لا سيما وأن الروس لا يحتاجون لتركيا إلا كسوق كبير، لكنهم لا يحتاجون لها مثلًا ليدخلوا السوق الأوروبي المرتبطين به جغرافيًا مباشرة (على عكس إيران التي ستحتاج تركيا بالقطع للوصول للسوق الأوروبي،) يبدو منطقيًا أن تميل أنقرة لصالح تعزيز علاقاتها بطهران، لا سيما لتقطع الطريق على نشوء محور إيراني روسي سيكون هزيمة إستراتيجية كبيرة لسياساتها.

علاوة على كل ذلك، فالسياسة التركية مفعمة دائما بالرغبة في امتلاك هامش واسع من حرية الحركة والمناورة، أكثر منها اتخاذ مواقف أيديولوجية علنية ودفع ثمن ذلك في صورة عُزلة جزئية كما فعل الإيرانيون لسنوات، فتركيا بموقعها وارتباطها بحلف الناتو وبرغبتها مؤخرًا في العودة لدورها بالمشرق تحتاج إلى هامش مناورة أكثر من أي وقت مضى، وإن كانت سياسة تصفير المشاكل مع الجيران قد أتاحت لها ذلك بالفعل، بل وأتاحت لها اتخاذ بعض المواقف الصلبة الجديدة مثل الموقف من إسرائيل في السنوات الأخيرة، إلا أن إدارة الملف السوري لا سيما حادث إسقاط الطائرة قد قلص كثيرًا من هامش المناورة ذلك بشكل وضعها لأول مرة في مأزق ، وهي اليوم تريد استعادة هذه السياسة التي تمكنها من إقامة علاقات متميزة مع كافة أطراف اللعبة في المنطقة .
ولكن هذا لا يعني انتهاء الخلافات بين تركيا وإيران ، فالخلافات كبيرة وعميقة  في الملف السوري، وتركيا تدرك أن مصالحها بشمال سوريا مصالح إستراتيجية ولن تتخلى عنها بسهولة، بيد أنها تعلم أيضًا أن مكتسباتها في سوريا أصلًا كانت لا تزال ضئيلة حين قامت الثورة،  مقارنة مع علاقاتها الإستراتيجية العتيدة بطهران، مما يعني أن أنقرة في أسوأ الأحوال قد تكون على استعداد للبداية من الصفر في سوريا حال خسر معسكر الثورة فيها تمامًا، أما في ملفات التعاون التجاري وامتلاك نصيب من السوق الإيراني، ومشاريع الغاز وتنويع مصادره بعيدًا عن الروس، فإن الأتراك لا يسعهم أبدًا أن يبدأوا من الصفر.

ومن الأمور التي تفسر لنا التقارب التركي الإيراني، الرغبة الغربية والأمريكية الواضحة في تحجيم دور تركيا إقليميا ودوليا ، وتوريطها في المستنقع السوري والعراقي . 
والحكومة التركية تعتبر من بين الحكومات النادرة في العالم العربي والإسلامي التي تتحرك من منظور إستراتيجي، لا يتوقف أمام الأزمات وإنما يبحث عن حلول لها من منظور المصالح الحيوية التركية ومصالح الأمن القومي للبلاد ، وعندما استحكمت حلقات الحصار الذي فرضته مستجدات السياسة الإقليمية والدولية، وشارك فيه حلفاء قدامى لتركيا، وعلى رأسهم الولايات المتحدة؛ بدأت الحكومة التركية في تحركات مضادة، تخرج بها أنقرة من مجالها الحيوي القريب إلى مجالات حيوية أخرى أبعد، تحقق فيها تركيا مكاسب سياسية واقتصادية وإستراتيجية عدة .
فلقد دعم الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، عزلة تركيا، وهددوا أمنها القومي بصورة أخطر بكثير مما فعلته روسيا، بل ربما أهداف روسيا إزاء تركيا أقل وطأة وخطورة من مخططات الغرب؛ حيث إن كل ما ترغبه موسكو من تركيا، هو الخروج من الملعب السوري، ووقف دعمها للمعارضة السورية المسلحة، بينما تركيا في مخطط الفوضى الهدامة الموضوع للشرق الأوسط، عبارة عن دولة كبيرة ينبغي تفكيكها ضمن مخطط تفكيك الكيانات الكبيرة في المنطقة، والتي تشمل العراق، سوريا، السعودية، مصر، ليبيا، الجزائر، والسودان تحديدًا.
الغرب وأمريكا رفضا المطالب التركية بعمل منطقة عازلة في شمال سوريا لاحتواء أزمة اللاجئين الخانقة التي أثرت على تركيا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا ، من دون تقديم أي دعم فني أو مالي، وحتى المليارات الثلاثة التي تعهد بها الاتحاد الأوروبي بعد أزمة السوخوي مع روسيا لدعم الموقف التركي في موضوع اللاجئين لم يتم الوفاء بها.
 أيضا ساعد الأمريكيون قوات سوريا الديمقراطية، التي يشارك فيها الأكراد أكثر من غيرهم؛ حيث أدى ذلك إلى تواجد كردي كثيف، حتى في مناطق غرب الفرات التي تعتبرها تركيا حرمًا آمنًا من الأكراد، وليس لقوات سوريا الديمقراطية فحسب وإنما لقوات الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي هو الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في جنوب شرق تركيا للانفصال ،وسمح ذلك بتهديد الأكراد  لقوافل الجيش التركي المتجهة إلى هناك،وفرض شكل من أشكال الحكم الذاتي في بعض المناطق بحكم الأمر الواقع .
كما أن واشنطن تجاهلت أنقرة تمامًا، في مفاوضات الهدنة الحالية في سوريا، وهو ما أثار جنون أنقرة، وبدا في تصريحات أردوجان الأخيرة والتي اتسمت بالحدة والوضوح .
وكان أوغلو صريحًا في التعبير عن رفض أنقرة للانفراد الروسي الأمريكي بقرارات تتعلق بصلب الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث قال في مؤتمر صحفي في طهران خلال اليوم الأول لزيارته لطهران الشهر الماضي، بإن تعاون الجانبين التركي والإيراني "يمنع دخول الأجانب إلى المنطقة"، ويعمل على معالجة الأزمات الطائفية فيها.

والخلاصة أن تركيا لا تتبني رؤية أيديولوجية في سياساتها الخارجية تجعلها رهينة الانحياز إلى طرف بعينه دون الآخر ، ولكن تقيم علاقاتها وتحالفاتها وفق مقتضيات أمنها القومي ورؤيتها الإستراتيجية ، فلا هي تبحث عن زعامة للمعسكر السني أو حتى شراكة فاعلة فيه ، كما لا هي تفضل شراكة إستراتيجية مع إيران عن غيرها ، إنما تبحث فقط عما يحقق لها أهدافها القومية العليا ببرجماتية محضة لا مكان فيها للعواطف أو الأيديولوجيات .
وبهذا فقط نفهم التقارب التركي الإيراني الأخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق