الخميس، 14 أبريل 2016

أزمة ريجيني: العواقب الوخيمة لنفاق الديمقراطيات الأوروبية

أزمة ريجيني: العواقب الوخيمة لنفاق الديمقراطيات الأوروبية

د.بشير موسي نافع


في خطاب مدو للشعب قبل أسابيع، أكد الجنرال/ الرئيس عبد الفتاح السيسي على أنه لا يعرف الكذب ولا الخداع (وكأن الأمر يتطلب مثل هذا البيان)، وحث المصريين على ألا يستمعوا لأحد إلا له. 

هذا هو نفسه الجنرال الذي تفاخر في حديثه لواشنطن بوست (12 آذار/ مارس 2015) بقدرته على خداع رئيسه، د. محمد مرسي، إلى أن قام بالانقلاب عليه. 

ولكن حبل الكذب قصير، كما يقول العرب. وإن كانت قلة في أوروبا تكترث بإدراك المصريين لكذب رئيسهم وخداعه، فقد حانت الفرصة الآن لأن يكتشف العالم بنفسه كذب الرئيس وتصميمه على الخداع. ليست المناسبة هينة أو عابرة، بل هي مناسبة محزنة بامتياز، وتتعلق بمقتل طالب جاد، وباحث قرر تكريس حياته الأكاديمية لدراسة مصر وشعبها، تحت التعذيب.

كان لوجيو ريجيني، الطالب الإيطالي، يدرس لدرجة الدكتوراه في جامعة كامبردج، متخصصا في العلاقات العمالية في مصر. وهذا ما دفعه إلى السفر والالتحاق في الجامعة الأمريكية في القاهرة، زميلا باحثا، في سياق ما يعرف في حقل الدراسات العليا في البحث الميداني. 

في 24 يناير/ كانون الثاني الماضي، والقاهرة تخضع لاستنفار أمني هائل، عشية ذكرى الثورة المصرية، اختفى الطالب الشاب في حي الدقي، الواقع في جانب الجيزة من القاهرة الكبرى، الذي يعدّ أحد أحياء الطبقة الوسطى التقليدية. 

بعد اختفائه بعشرة أيام، وجدت جثة الطالب الشاب ملقاة على جانب طريق الإسكندرية الصحراوي، وعليها آثار تعذيب وحشي.
وكان طبيعيا من البداية ألا تمر هذه الحادثة بسهولة. هذا شاب إيطالي، وليس مصريا، بمعنى أن خلفه دولة مسؤولة عن حياة مواطنيها، سواء كانوا في بلادهم نفسها أو الخارج؛ كما أن خلفه رأيا عاما، لا يمكن أن يغض النظر عن مقتل أحد المواطنين في دولة معروفة بسلوكها القمعي، قبل أن يعرف الحقيقة كاملة. 

وهنا بدأ تخبط أجهزة الدولة المصرية، ومسؤولي نظام الحكم، تخبطا لا يليق بأجهزة قمع متمرسة، ترتكز إلى ميراث عقود طويلة من انتهاك الحريات واضطهاد المواطنين ومطاردتهم واعتقالهم وتعذيبهم.

في الرواية الأولى، قالت وزارة الداخلية المصرية إن ريجيني تعرض لحادث سير مروع، ما تسبب في قتله وتشويه جثته. ولكن رواية الحادث لم تكن تستند إلى قدمين، لا سيما أن السلطات الإيطالية قررت أن ترسل بعثة تحقيق إلى القاهرة، وأن تقوم هي الأخرى بتشريح جثمان الشاب القتيل. 

والمدهش، أنه حتى وزير الخارجية المصري، المفترض أن يتجنب الخوض في وحل أجهزة النظام الأمنية، لم يتورع عن الإدلاء بدلوه في محاولة التضليل، عندما أشار إلى أن ريجيني ربما قتل في حفل ماجن من الجنس والمخدرات. 

ولكن الوزير، ربما بعد نصيحة من أحد مستشاريه، سرعان ما تخلى عن روايته الخرقاء. في النهاية، تمخض عقل وزارة الداخلية المصرية عن ما تصوره ضباطها العباقرة بأنها الرواية الحاسمة، التي لا يشوب تماسكها شائبة: أن ريجيني أخذ رهينة من قبل عصابة متخصصة في اختطاف الأجانب، وأن أجهزة الأمن توصلت إلى العصابة بالفعل، ولكنها اضطرت إلى تصفية أعضائها الخمسة جميعاً، قبل أن يتاح لها استجوابهم. 

 أما كيف تيقنت الداخلية المصرية من علاقة المجموعة بمقتل ريجيني، فلأن أفراد العصابة، وبعد أسابيع من ارتكابهم فعلتهم الوحشية، استمروا في الاحتفاظ بجواز سفر القتيل وبطاقته، ومتعلقاته الشخصية. المشكلة، أنه كان على قادة الداخلية ومحاميي النيابة المصرية إقناع نظرائهم الإيطاليين برواية العصابة "المحكمة".

الواضح، بالطبع، أن الإيطاليين لم يقتنعوا. لم يقتنعوا لأن عصابة ما، مهما بلغت من غباء، لا يمكن أن تستمر في الاحتفاظ بأدلة جرمها بعد ارتكابه بأسابيع؛ ولأن العصابة المزعومة، حتى على افتراض أنها من قام باختطاف الشاب الإيطالي، لم يصدر عنها طوال مدة اختفائه ما يشير إلى اتخاذه رهينة مقابل مطالب معينة. 

والأسوأ أن تصفية المصريين الخمسة، الذين وصفوا بالتشكيل العصابي، تمت تصفيتهم بصورة مريبة، ومنع أقرباؤهم من الحديث لوسائل الإعلام. خلف ذلك كله، بالطبع، كان تعدد روايات الدوائر الرسمية المصرية، ثم التخلي عنها، الواحدة تلو الأخرى. 

والأهم، أن السلطات الأمنية المصرية اعترفت أن طالب الدراسات العليا الإيطالي كان معروفا لديها؛ بمعنى أنه كان محط رقابة وتتبع أمني.
كيف لا، وعمل ريجيني البحثي تطلب الاتصال وإجراء مقابلات مع قادة ونشطين نقابيين عماليين مصريين، أغلبهم، على الأرجح، ليسوا من المرضي عنهم من الدوائر السياسية والأمنية. 

أخيرا، بعد لقاء رسمي بين الجانبين في العاصمة الإيطالية، روما، أعلن الإيطاليون أن ما قدمه الوفد المصري لم يكن كافيا لتوكيد رواية العصابة، وأن الوفد لم يستجب للمطالب الإيطالية بتوفير المعلومات المتعلقة بالحادث، الخاصة بسجلات الاتصالات وأشرطة كاميرات الرقابة في المنطقة التي شوهد فيها القتيل للمرة الأخيرة. 

ادعاء الجانب المصري بأن الدستور يحظر تزويد جهات أجنبية بسجلات اتصالات خاصة بالمواطنين المصريين، هو ادعاء غير ذي معنى في هذا السياق. ينتهك النظام المصري الدستور، الذي كتبه أنصاره بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، بصورة يومية تقريبا. 

ولكن المسألة حتى أبعد من هذا كله؛ المسألة هي ما إذا كانت السلطات المصرية الأمنية هي من اختطف الشاب الإيطالي وعذبه وقتله، أم إن هناك أدلة مقنعة على مسؤولية جهة أخرى، غير رسمية.

سجل النظام يجعله محل الاتهام الأول؛ فخلال 2015 فقط، وبعد مرور أكثر من عام ونصف على الانقلاب، وثقت مؤسسات حقوقية مصرية اختفاء ما يزيد على ألف وخمسمائة مواطن قسريا. 

قلة من هؤلاء اعترفت السلطات الأمنية باحتجازهم لديها، وقلة اكتشفت جثثهم بعد ذلك، مقتولين، كما حدث للوجيو ريجيني، وأغلبهم لم يزل مجهول المصير. أما عدد المختفين قسريا، أو من قتل بلا محاكمة، أو تحت التعذيب، في شبه جزيرة سيناء، حيث لا يسمح لوسائل الإعلام أو مؤسسات الحقوق المدنية بالعمل، فلا يعرفه أحد.

ولكن، هل نظام الانقلاب المصري هو المسؤول الوحيد عن مقتل الطالب الإيطالي؟ الحقيقة أن مسؤولية إيطاليا وشركائها في الاتحاد الأوروبي لا تقل عن مسؤولية نظام السيسي. 

على المستوى الإنساني البحت، ليس ثمة شك في مأساوية مقتل طالب دراسات عليا شاب، أوصله اجتهاده إلى واحدة من أبرز جامعات العالم، ودفعته اهتماماته بجوار بلاده المتوسطي إلى دراسة العربية والتخصص في البنية النقابية المصرية. 

على المستوى السياسي، من جهة أخرى، فإن على الحكومة الإيطالية أن تدرك أن أزمة مقتل ريجيني ليست إلا نتيجة طبيعية لسياسة الاعتراف المتسرع بنظام 3 تموز/ يوليو في مصر والعلاقات الوثيقة التي أسستها، سياسيا واقتصاديا، مع الانقلابيين المصريين.
كانت روما أول دولة أوروبية تستقبل زعيم النظام الانقلابي المصري، وتمنحه الشرعية الدولية. 

وحشية نظام الانقلاب المصري ودمويته ليس شأنا طارئا أو مفاجئا، لأن خطوات هذا النظام الأولى كانت محفوفة بجثث المصريين ودمائهم. ومنذ تسلمه مقاليد السلطة، لم يتوقف نظام 3 تموز/ يوليو عن استباحة حياة المصريين والاستهانة بحقوقهم، لا قبل ريجيني ولا بعده. 

بيد أن الديمقراطيات الأوروبية جميعها تقريبا، بما في ذلك روما وبرلين وباريس ولندن وأثينا، غضت النظر عن إجهاض أحلام المصريين في حياة حرة وكريمة، وغضت النظر عن العنف الوحشي الذي يحكم علاقة النظام المصري بشعبه. 

تستمر دول الاتحاد الأوروبي في دعمها الاقتصادي والاستثماري للنظام، وتقدم دول أوروبية السلاح ومعدات الأمن القمعي لأجهزته وجيشه، وكأن لا شيء يحدث في مصر. 

عندما تتخذ شركاء وحلفاء لك في الجوار من أمثال نظامي السيسي والأسد، فليس لك أن تشكو من ملايين المهاجرين، وخطف الباحثين وقتلهم، وتصدير الإرهابيين.

* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

د. بشير موسى نافع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق