الاثنين، 27 نوفمبر 2023

أحداث غزة والسؤال الأحول

أحداث غزة والسؤال الأحول

د. عطية عدلان

هل سينجح الكيان الصهيونيّ في القضاء على “حماس” والمقاومة في غزة؟ وإذا نجح -لا قدر الله- فما مصير المقاومة والقضية الفلسطينية؟ وإذْ شاهدْنا ما يجري من مجازر ارتكبها ولا يزال يرتكبها العدو الصهيونيّ في حقّ أهل غزة، ورأينا كيف تَدَاعى العالم الغربيّ على هذه البقعة الصغيرة المحاصَرة وعَصَفَ عليها بكبريائه وغروره وإرهابه، وتابَعْنا عملية التوغل الصهيونيّ داخل غزة وما تحمله من رغبة عارمة في القضاء المبرم على المقاومة، لئلا تقوم لها بعد اليوم قائمة، فهل يصح أن يقال: إنّ “حماس” أخطأت إذْ اتخذت قرار الحرب على هذا المستوى دون أن تملك القدرة على حماية شعبها من غدر الصهاينة ودون أن تحسب العواقب على مستقبل المقاومة نفسها؟ وعلى الرغم مما يبدو في ظاهر السؤال من وجاهة فإنّ النظر في تاريخ الإنسانية يؤكد أنّه سؤال أَحْوَل لا يضع الأمور في نصابها.

معاييرٌ لا عملَ لها هنا

عليلٌ من تُعْيِيه معرفة الطبيعة التي تصطبغ بها هذه المعركة، وكَلِيلٌ من لا يراها صدامًا حتميًّا بين حقّ واضح كفلق الصبح وباطل مظلم كغسق الليل، عليلٌ وكليلٌ من ينظر إلى ما يجري فيحار فيه ويحاول أن يجد له في معايير الواقع البليد مقياسًا ينطبق عليه، إنّ ما يجري ليس نزاعًا بين قوتين على أمر تختلف فيه الحسابات والتقديرات، فلا تكاد العقول تستقر في إدراك حقيقته على حال، إنّه ليس صراعًا من جنس ذلك الذي يجري على الأرض اليوم حول مصالح تنزاح وتنداح هنا وهناك في مراوغة وخَتَل، فلا يدري القاتلُ فِيمَ قَتَل، ولا المقتولُ فِيمَ قُتِل، وإنّما هو صراع بين حقّ صريح وباطل صريح، بين مقاومة تدفع العدو عن الأوطان التي اغتصبها والمقدسات التي استباحها، وبين محتل غاصب غاشم لا حق له في شيء قطّ، لذلك لا تقاس النتائج والمقدمات بالمقاييس ذاتها التي تقاس بها سائر الصراعات، وغالبًا ما تتسع زاوية النظر لمن يروم باعتدال تقييم النتائج والحكم بموجبها على المقدمات، فلا تقف عند الحسابات الحسّية الضيقة، بل تتجاوزها إلى آفاق من المعاني التي تحييها المقاومة في الأجيال.

حقيقة الانتصار

لا نستبعد أن يقع شيء مما نخشاه، ولو استبعدناه فلن نغير شيئًا من قدر الله، ولو أنّ غَزَّةَ فَنِيَتْ عن آخرها -لا قدر الله- وأُجهضتْ بالتبعية المقاومةُ -لا سمح الله- فلن يقلل ذلك من نصر الله، ذلك لأنّ حقيقة الانتصار لا تنحصر في صوة واحدة “الحسم العسكريّ”، فإنّ الثبات إلى الممات نصر يلهم الأجيال، وإنّ دماء الشهداء التي بذلت من أجل تحطيم الأوهام وتكسير الأصنام وإسقاط الأساطير وهدم جدار الخوف والوهن مقدمة أكيدة للنصر الكبير، ومن أراد أن يعرف قدر ما حققته المقاومة وحجمه ووزنه من إنجاز حقيقيّ فليصرف نظره وتقديره إلى قدر التغَيُّرات التي أحدثها فِعْلُ المقاومة وحجمها ووزنها في نفوس المسلمين والكافرين على السواء، وكذلك في نفوس الشعوب التي تعيش فيما يشبه الفترة، مُغَيَّبَةً عن الوحي، لقد رفعت الأحداث هِمَمَ المسلمين وألهمتهم من المعاني ما فقدوها تحت مطارق الانقلابات والحروب الأهلية، وأرعبت الكفار المعتدين وكشفت ضعفهم وتهافتهم وزيف ادعاءاتهم، وأسعدت الكثيرين من المغيبين في العالم بمعرفة الحقّ الذي تتوق إليه نفوسهم ويتحسسونه حولهم فلا يجدونه، إنّها انتصارات وليست نصرًا واحدًا، ومع ذلك فإنّنا نرجو ما ليس على الله بعزيز: “الحسم”.

قوانين الدفع ليست كقوانين الفتح

أمّا جهاد الغزو والفتح فَقُلْ فيه ما شئتَ من الشروط، وأَكْثِرْ ولا تكترثْ بمن يستفزك ويستعجلك، فقد تحدث العلماء عن شروطه فتوسعوا وأفاضوا، فاشترطوا لاتخاذ قرار الحرب: توقُّعَ الظفرِ وإذنَ الإمامِ وتَقَدُّمَ الدعوةِ والبلاغ، وغيرَ ذلك، هذا بخلاف شروط الوجوب التي تُناط بالمكلفين كالبلوغ والعقل والإسلام، وشروط الملائمة كالذكورة والحرية والاستطاعة، والشروط المتعلقة بحقوق الآخرين كإذن الدائن وإذن الوالدين، وأمّا جهاد الدفع فشأنه مختلف، فقد قال العلماء بأنّه واجبٌ على الأعيان لا على الكفاية كسابقه، ولا يُشترط له إذنُ الإمام ولا توقُّعُ الظفر ولا إذنُ الوالدين، وتخرج إليه المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن سيده، والمدين بغير إذن الدائن، فهل فَقِهَ مُتَفَلْسِفَةُ التخذيل اتجاه العلماء؟

بل أنتم الفتنة بعينها

بينما العالم كله يتابع ما يجري بإكبار لأهل غزة واحتقار للصهاينة، إذْ بأصوات من هنا وهناك تعلو على استحياء، لكنّها برغم خفوتها توجع، وتبذر في أنفس الضعفاء شيئًا من الارتياب، ولهؤلاء نقول: إنّ المقاومة هي المقاومة ولا صوت يعلو فوق صوتها، هي التي تعرف متى تُقْدِم ومتى تُحْجِم؟ وهي التي تُقَدِّرُ بمعاييرها وتقيس بمقاييسها وتدرك بخبراتها المتراكمة وتجاربها الحية حجم المصالح والمفاسد، وقدر المغانم والمغارم، ومستوى المنافع والمضار، وجهادُها لعدو تدعمه دول الغرب كافّة، وتُطَبِّعُ معه دول العُرْب عامّة لا يمكن أن يسمى فتنة إلا في فقه الاستكانة المدخلي المفتون، وكيف يكون الجهاد فتنة وهو لم يشرع إلا لدفع الفتنة؟! فاستحيوا من أنفسكم التي أخْفَتْ اللحى قبائحها، ولا تنسبوا أنفسكم للسلفية، فإنّ اتباع السلف يكون في جهادهم قبل كل شيء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق